تخيم حالة من الجدل على حادثة الاشتباك التي وقعت صباح أمس الإثنين 27 مايو/أيار بين القوات المصرية والإسرائيلية على الحدود المصرية الفلسطينية في رفح، والتي أسفرت عن استشهاد جندي مصري ضمن وحدات التأمين الحدودية، في ظل تضارب وندرة المعلومات الواردة بشأن تفاصيل الواقعة.
الحادثة هي الأولى من نوعها منذ بداية حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ورغم محاولات فرض السرية والتعتيم المعتاد عليهما في عشرات الأحداث المشابهة التي تقع بين الطرفين في تلك المنطقة الحدودية، فإن الجانب الإسرائيلي سمح في النهاية بالنشر بعد ساعات من وقوعها (الحادثة وقعت صباحًا لكن السماح بالنشر جاء بعد الظهر).
وبعيدًا عن تداعيات تلك الواقعة على العلاقات المصرية الإسرائيلية والمرجح ألا تتأثر بهكذا أحداث، فإنها تكشف عن الكثير من المسكوت عنه بشأن حالة الاحتقان والانفجار الشعبي المصري إزاء الإجرام الإسرائيلي الوحشي ضد سكان غزة من جانب، والعربدة الإسرائيلية على الحدود المصرية بما يهدد السيادة المصرية من جانب آخر.
3 روايات متضاربة
هناك 3 روايات رئيسية لتفسير ماحدث، اثنتان منها رسمية وواحدة غير رسمية.
الأولى: الرواية الإسرائيلية الرسمية.. وهي الرواية التي ذكرتها هيئة البث الإسرائيلية وتفيد بوقوع تبادل إطلاق نار بين الجيش الإسرائيلي وجنود مصريين عند معبر رفح، وأن الجانب المصري هو من بدأ بالضرب، وأسفرت تلك المواجهات عن مقتل جندي مصري دون وقوع أي إصابات في صفوف الإسرائيليين، فيما ذكرت بعض المواقع الإسرائيلية وعلى رأسها موقع “والا” أن الجنود المصريين أطلقوا النيران على شاحنة إسرائيلية، والمواجهات أسفرت عن مقتل جنديين مصريين وليس جندي واحد بحسب هيئة البث.
الثانية: الرواية المصرية الرسمية.. والتي جاءت على لسان المتحدث العسكري المصري الذي أعلن في بيان مقتضب نشره على صفحته على فيس بوك عن استشهاد أحد العناصر المكلفة بتأمين منطقة الشريط الحدودي في رفح، وأن بلاده تجري تحقيقًا بواسطة الجهات المختصة حيال حادث إطلاق النار بمنطقة الشريط الحدودي في رفح.
الرواية الثالثة: مصرية غير رسمية.. وتلك التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام غير المصرية عن مسؤولين أمنيين مصريين، وأكدها لاحقًا الإعلام المصري، وتشير إلى أن جنود إسرائيليين تابعين للواء (401 مدرع) حاولوا عبور موقع قريب من معبر رفح بزعم ملاحقة مقاومين، الأمر الذي دفع جنديًا مصريًا مكلفًا بالتأمين إلى إطلاق النار على القوات الإسرائيلية المتقدمة لتحذيرهم من الاقتراب من المعبر.
فردت دبابة إسرائيلية على المجند المصري بإطلاق قذيفة باتجاهه فسقط في الحال، ليتطور الأمر بعد ذلك إلى نشوب اشتباك بين قوة مصرية وأخرى إسرائيلية أسفر عن مقتل جندي إسرائيلي وإصابة 7 آخرين، ثم تراجعت القوة الإسرائيلية وأبلغت القادة في تل أبيب الذين بدأوا التواصل مع القاهرة.
وتجدر الإشارة إلى بعض النقاط تضمنتها تلك الروايات:
– الجانب المصري لم يعلن عن الحادثة إلا بعد إعلان الجانب الإسرائيلي.
– الرواية المصرية لم تكذب الرواية الإسرائيلية في تحميل الجندي المصري مسؤولية الحادث حين أشارت إلى أنه من بدأ بالضرب، مكتفية بالإشارة إلى استشهاد أحد عناصر تأمين الحدود دون تفاصيل.
– هناك حالة من التعتيم على الواقعة، على الأقل من الجانب المصري، وندرة واضحة في المعلومات وهو ما فتح باب التكهنات والاجتهادات لدى الجميع.
وفي ظل هذا التضارب، أعلن الجيشان المصري والإسرائيلي أنهما يجريان تحقيقات فيما حدث، كل طرف يجري تحقيقًا خاصًا به، ثم يجريان معًا تحقيقا مشتركًا، في ظل الاتصالات التي لم تنقطع بينهما منذ وقوع الحادثة كما ذكرت بعض وسائل الإعلام.
حدث استثنائي.. لماذا؟
– يستقي الحدث أهميته كونه الأول من نوعه منذ بداية حرب غزة، فرغم اقتراب الحرب من شهرها التاسع والتحرشات المتتالية من الجانب الإسرائيلي بنظيره المصري حيث سقوط أكثر من قذيفة داخل الأراضي المصرية، كان الرد عليها بالاعتذار، فإن هذه المرة الأولى التي يقع فيها اشتباك مباشر بين قوتين، مصرية وإسرائيلية.
– لو تم التسليم بالرواية الإسرائيلية فإن الجانب المصري هو من أطلق النيران على نظيره الإسرائيلي، وفي هذا تحول كبير بشأن قواعد الاشتباك بين الطرفين، عكس ما كان معمولًا به في السابق، حيث لم يُسمح للجنود المصريين على الحدود باستخدام الذخيرة الحية مع مجندين إسرائيليين، رغم الانتهاكات المتكررة من “إسرائيل”.
– مسألة الإعلان عن الواقعة والكشف عنها للرأي العام، يعد تحولًا آخر في استراتيجية التعامل بين الطرفين في مثل تلك الأحداث، حيث كان التعتيم هو العنوان الأبرز، في محاولة لتجنب توتير الأجواء بين البلدين، على الأقل شعبيًا وسياسيًا.
سياق مهم
الحادث لم يكن عرضيًا ولا مفاجئًا، حيث جاء في أجواء ملبدة بغيوم الاحتقان والتوتير:
– احتلال الجيش الإسرائيلي لأكثر من ثلثي محور فيلادلفيا الحدودي الخاضع لاتفاقية السلام الموقعة بين مصر و”إسرائيل”، والتي تحدد حجم وطبيعة التواجد العسكري الإسرائيلي في تلك المنطقة، وهو ما يمثل خرقًا كبيرًا للمعاهدة وملاحقها الأمنية في 2005.
– الاستعراض الاستفزازي لجنود الاحتلال على الشريط الحدودي مع مصر، عبر الدبابات والمدرعات ورفع المجندون بجيش الاحتلال الأعلام الإسرائيلية.
– الجرائم الوحشية التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة على مرأى ومسمع من المجندين المصريين الذين يتابعون تلك الانتهاكات بالصوت والصورة من داخل أبراج المراقبة أعلى الجدار الفاصل بين رفح المصرية والفلسطينية.
– الاتهامات الإسرائيلية المتتالية للجانب المصري بالتورط في حرب التجويع الممارسة ضد الغزيين من خلال غلقه لمعبر رفح وعرقلته لجهود التهدئة وتغييره لبنود الاتفاق الذي نجم عنه تجميد المفاوضات مؤقتًا وتعثرها.
– الغضب الشعبي المصري من ضعف الموقف المصري إزاء غزة، وخذلان المحاصريين في القطاع، تعاظم هذا الغضب مع العربدة الإسرائيلية على الحدود، دون أن تحرك مصر ساكنًا.
العمليات الفردية.. هل تكون البديل؟
في ظل الموقف السياسي الرسمي الضعيف والمتخاذل إزاء القضية الفلسطينية وحرب غزة وما يتعرض له الأشقاء والجيران من حرب إبادة مكتملة الأركان، وهو الموقف الذي لم يعبر بطبيعة الحال عن مزاج وتطلعات المصريين، الذين يستشعرون الحرج والخجل والتقصير جراء هذا الخذلان بحق إخوانهم المحاصرين، قد تكون التحركات الفردية لدعم الفلسطينيين بعيدًا عن العمليات الرسمية هي الحل، وهناك سوابق كثيرة تبرهن على ذلك.
منها على سبيل المثال ما حدث عند معبر العوجة في 2023 حين وقع اشتباك بين الجندي المصري محمد صلاح وعدد من العسكريين الإسرائيليين، ما أسفر عن استشهاده وقتل 3 من صفوف جيش الاحتلال وإصابة آخرين، وهي الحادثة التي زلزلت الوسط الإسرائيلي حينها وبسببها أُقيل عدد من قيادات الجيش.
كذلك ما حدث في الإسكندرية في نهاية العام الماضي حين استهدف أمين شرطة مصري عددًا من الإسرائيليين بعد إصرارهم على استفزازه بالتقاط صور لهم بعلم الكيان المحتل، ما أسفر عن سقوط اثنين منهم، هذا بخلاف حادثة مقتل رجل أعمال إسرائيلي في الإسكندرية مطلع الشهر الجاري.
وقبل ذلك كان الجندي المصري سليمان خاطر الذي كان يؤدي فترة تجنيده الإلزامية ضمن فرقة من قوات الأمن المركزي التابعة لجهاز الشرطة في محافظة سيناء، قد قتل 7 إسرائيليين في 5 أكتوبر/تشرين الأول عام 1985، بعد استفزازهم له.
الموقف ذاته تكرر في نوفمبر/تشرين الثاني 1990 بعد وقوع مذبحة الأقصى التي راح ضحيتها عشرات الشهداء، حين قتل الجندي المصري أيمن حسن 21 إسرائيليًا وأصاب 20 آخرين، بينهم قادة كبار في الموساد، في العملية التي عُرفت بـ”رأس النقب” في منطقة حدودية بين مصر و”إسرائيل”.
لا تأثير متوقع على العلاقات
رغم استثنائية الحادثة وما يفترض أن تحدثه من تغيرات جذرية في قواعد الاشتباك وطبيعة العلاقات بين مصر و”إسرائيل”، فإن الحديث عن توتر العلاقات أو التلويح بورقة معاهدة السلام هو نوع من الترف الفكري أقرب للخيال في ظل الحميمية التي تخيم على الأجواء بين النظامين الحاكمين في البلدين.
ويحاول الطرفان تجنب أي تصعيد بسبب ما حدث على الحدود، والعمل لأجل تبريد الأجواء المتوترة بطبيعة الحال، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” الأمريكية عن مسؤول أمني مصري لم تسمه، والذي أشار إلى أن هناك اتفاقًا بين تل أبيب والقاهرة على “المضي قدمًا” وجعل قضية مقتل الجندي المصري بنيران إسرائيل “تموت بسلام”، واصفًا تبادل إطلاق النار واستشهاد مجند مصري بأنه كان “حادثًا بسيطًا” وليس له “أي أهمية سياسية” على حد قوله.
الرأي ذاته أكدته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، التي نقلت هي الأخرى عن مسؤول أمني مصري وجود توجيهات لعناصر الجيش المصري بـ”الابتعاد عن هذا الأمر”، بجانب تفعيل الرقابة من الجانب الإسرائيلي “لمنع المنشورات التي يمكن أن تثير الغضب على الجانب الآخر”، وذلك في الوقت الذي تجري فيه مصر و”إسرائيل” تحقيقًا منفصلًا في ملابسات الحادث.
وكانت هيئة البث الإسرائيلي قد ذكرت أن مصر و”إسرائيل” لا يريدان تحويل تلك الواقعة إلى أزمة سياسية بين البلدين، تهدد اتفاقية السلام بينهما، لافتة إلى أن هناك حوارًا هادئًا بين الجانبين لمحاولة احتواء ما حدث في أسرع وقت.
من جانبه أكد اللواء متقاعد، سمير فرج، مدير جهاز الشؤون المعنوية السابق بالجيش المصري، وأحد المقربين من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أن حادثة رفح هي حدث حدودي طبيعي وغير مقلق بالمرة، ولن يؤثر بطبيعة الحال على العلاقات المصرية الإسرائيلية ولا على اتفاقية السلام الموقعة بينهما، كما أنه لن يؤثر على جهود الوساطة التي تقوم بها مصر لوقف إطلاق النار في غزة، مضيفًا أن العملية سيتم احتوائها إما باعتذار إسرائيلي وإما تقديم “الدية” لأهل المجند الشهيد.
وفي الأخير.. ستنجح محاولات احتواء ما حدث، وسيعمل الجانبان على موت الواقعة بالبطيء ومرورها بسلام، كما حدث مع غيرها، كما ذكر الإعلام الأمريكي والعبري، غير أن الرسائل والرمزيات التي بعثت بها تلك الواقعة تحديدًا ستمهد لمرحلة جديدة قد تتغير فيها قواعد الاشتباك، التي قد تدخل فيها العمليات الفردية كلاعب أساسي، ليس على الحدود فقط، إن لم يتدارك الموقف الرسمي المصري نفسه.