أبريل/نيسان الماضي، عرض فيلم السرب، من إخراج أحمد نادر جلال وإنتاج شركة سينرجي للإنتاج الفني التابعة للمخابرات، وهو فيلم يحكي قصة الضربات الجوية التي نفذها الجيش المصري على معاقل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في ليبيا، إثر اختطاف وقتل عناصر التنظيم لـ21 مصريًا قبطيًا في فبراير/شباط من عام 2015.
لم يكن السرب أول عمل فني سواء سينمائي أم درامي، يحكي بطولات الجيش المصري في تصديه للأعداء وأهل الشر الذين يريدون المساس بالأمن القومي المصري سواء داخل مصر أم خارجها، ويحاول من خلال سرديات السيناريو والحوار، تبيان مدى شجاعة كما وطنية أفراد القوات المسلحة وإخلاصهم وتضحياتهم في سبيل الحفاظ على مصر أرضًا وشعبًا.
لكن هذه السرديات التي تحاول السُلطة الحالية إثباتها، ليست موجودة إلا في الأعمال التمثيلية فحسب، فعلى أرض الواقع يخترق الجيش الإسرائيلي حدود اتفاقية السلام (المناطق العازلة) ويمس بالأمن القومي المصري، من خلال احتلاله معبر رفح من الجانب الفلسطيني، فضلًا عن عملياته الوحشية من قتل وتجويع بحق فلسطينيي رفح، ناهيك بقتل جنود مصريين.
فكيف تضع السلطة سرديتها المراهقة عن الجندية المصرية من خلال أعمالها الفنية؟ وهل بالفعل الجندية المصرية، وهويتها، هي ذات الهُوية التي تُعرض في الأعمال التمثيلية؟
الحكاية المراهقة
بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم السرب، لا تشعر إلَّا أنه عمل يصلح للأطفال الصغار لتعلم الوطنية، والإعجاب والاقتداء بشخصيات القوات المسلحة المصرية، الشخصيات الملائكية، القوية، النبيلة، المُخلصة، التي لا يشوبها أي خطأ أو مفردة تعبر عن أخلاق غير ملائكية، والذين يحاربون الأشرار الأغبياء.
يصور الفيلم أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية، والذين يستولون على بضع مناطق في ليبيا منها مدينة درنة الواقعة شمال شرق البلاد، على أنهم مجموعة من الأغبياء، الشهوانيين، الذين لهم تاريخ من الفشل الحياتي، لذا كان دافعهم لاعتناق الأفكار المتطرفة شهوانيًا، براغماتيًا، أملًا في نيل السُلطة والنفوذ والمال، فضلًا على إكمال وتعويض العقد النفسية التي نشأت عندهم في صغرهم وشبابهم، في تجاهل تام للواقع العميق والمعقد حيال تنظيم مثل تنظيم الدولة، كيف تأسس، وسيطر، وتمدد، وهاجر إليه عشرات الآلاف من كل البلاد والجنسيات، تجاهل تام لواقع تنظيم امتلك قدرات عسكرية وتنظيمية وإعلامية قوية ومتشعبة ومبتكرة، أدت إلى تحالف جيوش وأنظمة لمحاربته وشبه القضاء عليه.
وعلى الجانب الآخر، يوجد الضباط المصريون الذين يتمتعون بذكاء ودهاء ليس له مثيل، وقوة خارقة تقود الطائرات الحربية بكل شجاعة وبمنتهى الدقة تضرب أهدافها التي لا تقبل الوقوع في أقل درجات الخطأ، ثم تعود سالمة غانمة، بعد أن قضت على التنظيم الإرهابي الذي اختطف وقتل أبناء الشعب المصري، حتى إن المستشفى الذي كان يختبئ أسفلها أمير تنظيم الدولة، الذي كان معه ضابط المخابرات المصرية الذي دلَّ القيادة على مكانه، حين قُصفت مات قيادي التنظيم، ونجا ضابط المخابرات، كأن الصاروخ تجنب جسد الضابط لمعرفتة أنه تابع للجيش المصري، أو أن السلاح الذي ضرب بيد مصرية لا يقتل مصريًا مثله.
الإشكالية هنا أنه كان من الممكن صناعة فيلم قوي من خلال هذه القصة، يروي ما حدث بشكل أكثر قربًا من الواقع والحدث، دون تجمّلات مراهقة تضيع من خلالها قصة وحشية صنعها تنظيم الدولة بقتله عمال مصر المُغتربين من أجل لقمة العيش، بدلًا من اختزال القصة كلها في الضابط الشجاع، والضابط الذكي، والرئيس القوي الذي قضى في غمضة عين على معاقل التنظيم، حين فكر الثاني المساس بمصر وأمنها ومواطنيها وعمالها.
جندية وطنية أم اقتصادية؟
بين عامي 1952 حتى عام 1973، امتازت مشاعر جنود وضباط الجيش المصري بالوطنية القوية والمُلتهبة حيال الدفاع عن الأرض المصرية بكل بسالة وشجاعة. كانت البداية بحركة الضباط الأحرار الذين خلصوا الشعب المصري من وراثة الحكم الملكي، حين قالوا مصر للمصريين، أرضًا وشعبًا وحكومةً وجيشًا. بعد ذلك، دخل الجيش المصري معارك باسلة في مواجهة الاحتلال، بداية من العدوان الثلاثي عام 1956، مرورًا بدفع دمائهم خلال نكسة 67، حتى سنوات الاستنزاف التي ختمتْ بعبور خط بارليف في حرب أكتوبر عام 1973.
هذه السنوات شهدت صعودًا في قوة المشاعر الجندية المصرية، لظروف واقعية فرضت نفسها على الشعب المصري، حتى إنك تجد كل شواهد هذه المشاعر الوطنية، في مذكرات كثيرة لقادة الجيش أو حتى جنود أو مراسلين حرب رأوا بأعينهم البطولات والأحاديث والسرديات التي حدثت على الأرض، مثل مذكرات أحمد حجي المعنونة بـ”مذكّرات جنديّ مصريّ في جبهة قناة السويس”، وكتاب “المصريّون والحرب – من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر” للصحافي جمال الغيطاني، والذي يحكي فيه عن قصص التضحية والوطنية من المصريين سواء المدنيين أم المجندين على السواء.
لكن مع انتهاء حرب أكتوبر، واتجاه نظام السادات للانفتاح الاقتصادي والتطبيع مع “إسرائيل” وإبرام معاهدة كامب ديفيد، باتت مشاعر الوطنية المصرية لا حاجة لها، فلم يعد هناك عدو يستدعي مشاعر الوطنية، سواء داخليًا أم خارجيًا، وتكفلت أجهزة الأمن التابعة لوزارة الداخلية بقمع المعارضة المصرية بكل أفكارها وتنظيماتها في الداخل المصري، أما القوات المُسلحة المصرية فحاولت الحفاظ على مكانتها السياسية والاقتصادية لدى الدولة، والتقديرية لدى الشعب المصري، وأصبحت الخدمة العسكرية بما أنها إجبارية، مرحلة ملازمَة للمواطن المصري، حتى يستطيع بعدها إكمال أوراقه بشكل قانوني، فيستطيع السفر، الزواج، العمل وغير ذلك من أمور حياتية لا تتم إلَّا بعد تخليص أوراق الخدمة العسكرية.
مع ازدياد سنوات فتور الوطنية لدى الجندية المصرية، تحولت هذه الجندية من مشاعر الوطنية إلى الوظيفة الاقتصادية، حيث أصبح الجيش عبر مؤسساته وفروعه المُختلفة، قوة اقتصادية عُظمى تحتاج إلى أيادٍ عاملة وفيرة، ولن تجد هذه الأيادي إلّا عبر جنودها، بما أنها عمالة متوافرة، مطيعة، ورخيصة، وهذا ما ظهر جزء منه، في فيلم العساكر (2016) من إنتاج شبكة الجزيرة الإعلامية، والذي يحكي فيه الجنود المصريون، عن عملهم بالسخرة للخدمات الشخصية والعامة لدى لواءات الجيش المصري.
في حرب الإبادة الحالية على غزة، ظهرت بعض الشواهد التي عبرت عن مدى فتور الوطنية لدى الجندية المصرية، بفعل سنوات وسنوات من التدجين وتطويع العقلية العسكرية على سردية أن زمن الحرب قد ولَّى، وأن الكيان الإسرائيلي مسالم، وليس عدوًا، وأن الحرب الحقيقية هي الحرب التي يختارها النظام القائم، سواء مع جماعات إسلامية سياسية أم حركية، أم حتى سكان المناطق العشوائية أم أهالي القبائل السيناوية المُهجرة وغير ذلك من فئات تختارها سلطة الاستثناء، لذا لم يكن غريبًا مشهد تعدي الجنود المصريين على شاب فلسطيني عبَرَ السياج الحدودي، هربًا من القتل وبحثًا عن الأمان والطعام والحياة، كأن جنديًا إسرائيليًا هو الذي عبر الحدود.
في صباح يوم 27 مايو/أيار الحاليّ، أعلنت مصادر صحافية إسرائيلية عن تبادل إطلاق نار بين جنود إسرائيليين ومصريين، أسفرت عن مقتل جندي مصري وإصابة آخرين، وبعد ساعات من السؤال والاستنكار الشعبي المصري، أعلن المتحدث العسكري عن مقتل أحد “عناصر حفظ الأمن”، وجاري التحقيق في حادثة القتل، دون الإعلان عن اسم أو رتبة العسكري المقتول، ما دل على أن القيادة المصرية مصرَّة على بتر سردية الوطنية الحقيقية، ومحاربة العدو المحتل، ليس فقط لدى مشاعر الجندية المصرية، بل حتى لدى الجمهور العام، الذي لا يهتم النظام المصري حتى بمخاطبته بسرديات وطنية قوية، تحفظ مكانة الجندية العسكرية والأمن القومي المصري، أو حتى تحفظ الصورة التي يبثها من خلال أعماله الفنية، والتي تعني أنه لا مساس بأمن مصر وجنودها ومواطنيها.