ترجمة حفصة جودة
عندما وصل مجموعة من المتدربين إلى بنك باركليز في نيويورك، وجدوا أن هناك مذكرة في صندوق رسائلهم الإلكتروني، كانت موجهة من المشرف عليهم في البنك بعنوان “أهلا بكم في الغابة”، تقول الرسالة: “أنصحكم بأن تجلبوا معكم وسادة إلى المكتب، فهي تجعل النوم أسفل المكتب مريحًا بعض الشيء، هذا التدريب يعني الالتزام بالعمل 9 أسابيع في المكتب، وإذا طلب أحد المتدربين أن يحصل على إجازة آخر الأسبوع للقاء عائلته، فيمكنه أن يذهب لكن عليه أن يسلم أولاً هاتف “البلاك بيري” ويحزم أغراضه من على المكتب”.
رغم أن هذه المذكرة كانت مزحة، فإنها لم تكن مضحكة لوسائل الإعلام عندما مات موريز إيرهاردت – 21 عامًا – المتدرب اللندني الذي توفي بعد العمل 72 ساعة متواصلة في أحد بنوك أمريكا، بدا الأمر وكأن بنك باركليز يأخذ “أخلاقيات العمل” إلى منحى متطرف.
بعد 30 عامًا من تحرير النيوليبرالية، يبدو كأن العمل من 9 حتى 5 مساءً أحد بقايا الماضي، لكن الوظائف أصبحت مرهقة بشكل دائم ومستمر، وأصبح العمل الزائد هو الأمر الطبيعي في العديد من الشركات، بل في بعض الأوقات يصبح الأمر المتوقع الذي يحوز إعجاب الجميع، لقد أصبح القيام بأي شيء خارج المكتب أمرًا سيئًا، فالاسترخاء وممارسة الهوايات وتربية الأطفال والقراءة أصبحت أمورًا منبوذة مثل الكسل، هذه قوة أساطير العمل.
التوتر لساعات طويلة والقلق والخمول البدني الزائد يبدون مثل القتلة المحتملين
كان من المفترض أن تحررنا التكنولوجيا من الكثير من الشعارات اليومية لكنها جعلت الأمر أكثر سوءًا، ففي عام 2002، كان أقل من 10% من الموظفين يتفقدون بريد العمل الإلكتروني خارج ساعات العمل، أما اليوم وبوجود الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، وصلت النسبة إلى أكثر من 50%.
يقول بعض المراقبين إن الموظفين اليوم لا ينتهون من العمل أبدًا، فهم مثل هواتفهم المحمولة يأخذون وضع الاستعداد فقط في نهاية اليوم ويذهبون إلى النوم وقد نفدت كل طاقتهم، في الولايات المتحدة حيث أغنى اقتصادات العالم، يحصل الموظفون المحظوظون على أسبوعين إجازة كل عام.
ربما تعتقد أن هذا النشاط المحموم له علاقة مباشرة بالحفاظ على وجودنا وأنا سنموت جوعًا من دونه، كما لو أن كتابة الرسائل الإلكترونية الغبية طوال اليوم يشبه الصيد في العصور القديمة، لكن تكلفة هذا العمل الزائد لا يمكن تجاهله بعد الآن، فالتوتر لساعات طويلة والقلق والخمول البدني الزائد يبدون مثل القتلة المحتملين.
قام الباحثون في المركز الطبي بجامعة كولومبيا بتتبع نحو 8000 موظف فوق عمر 45 عامًا، وكانت النتائج مذهلة، فقد كان متوسط فترة الخمول البدني في كل يوم من أيام العمل 12.3 ساعة، أما الموظفون الذي وصلت ساعات خمولهم إلى 13 ساعة في اليوم فهم أكثر عرضة مرتين إلى الموت مبكرًا مقارنة بهؤلاء الخاملين لمدة 1105 ساعات يوميًا، يخلص الباحثون إلى أن الجلوس على المكتب لساعات طويلة يشبه في تأثيره التدخين، لذا يجب أن يصاحبه تحذيرًا صحيًا.
العمل لأكثر من 39 ساعة في الأسبوع خطر على صحة المرء ورفاهيته
أما الباحثون في جامعة كوليدج بلندن فقد أجروا أبحاثهم على 85 ألف موظف في منتصف العمر من الرجال والنساء، ووجدوا أن هناك علاقة بين العمل الزائد والإصابة بمشكلات القلب خاصة عدم انتظام ضربات القلب والرجفان الأذيني الذي يؤدي إلى زيادة فرص الإصابة بالسكتة الدماغية 5 مرات.
تثير النقابات العمالية مخاوفها بشأن الإفراط في العمل، خاصة بسبب تأثيرها على العلاقات والصحة النفسية والجسدية، ولذلك قام 15 ألف موظف الأسبوع الماضي من النقابة العمالية الألمانية (يعملون في شركات لقطع غيار السيارات) بالدعوة إلى إضراب، مطالبين بخفض ساعات العمل إلى 28 ساعة أسبوعيًا دون تغيير في الراتب أو ظروف العمل.
الأمر لا علاقة له بالكسل كما يقولون لكنه حماية لأنفسهم، فهم لا يرغبون في الموت مبكرًا، في هذا الشأن يقف العلم في صفهم، فقد وجد باحثون في جامعة أستراليا الوطنية أن العمل لأكثر من 39 ساعة في الأسبوع خطر على صحة المرء ورفاهيته.
هل هناك مستوى صحي ومقبول من العمل؟
وفقًا للباحث الأمريكي أليكس بانج، فمعظم الموظفين الآن ينتجون خلال 4 ساعات من العمل، أما بقية اليوم فمجرد حشو وكمية كبيرة من القلق والتوتر، يرى بانج أنه من الممكن بسهولة تقليص ساعات العمل دون أن يؤثر ذلك على مستوى المعيشة والازدهار.
دعمت دراسات أخرى هذا الرأي، فقد مولت الحكومة السويدية تجربة عملت فيها الممرضات المنزليات المتقاعدات 6 ساعات يوميًا مع الحصول على راتب لعمل 8 ساعات، كانت النتيجة: إجازات مرضية أقل وضغط أقل وقفزة في الإنتاجية.
يبدو الأمر مشجعًا، لكن معظم الدراسات تركز على عدد الساعات التي يقضيها الموظف في العمل، لكننا بحاجة للنظر إلى ظروف العمل، فبعض الأعمال قد تسبب ضغوطًا حتى لو كان عدد ساعتها قليلاً.
لماذا يبدو الأمر مهمًا؟
يبدو خطيرًا أن نهتم بتقليل عدد ساعات العمل فقط، فيما يتعلق بالصحة، فهناك وظائف تسبب الحرمان في جوهرها، ولكي تصبح الوظائف أكثر ملاءمة لصحتنا الجسدية والنفسية يبدو أساسيًا أن نهتم بتقليل ساعات العمل، وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نهتم بتحسين نوعية العمل مع الحد من استبدادية رؤساء العمل، وأن تكون مهام العمل متنوعة وذات مغزى.
لكن الرأسمالية لا تعرف الكثير من تلك النوعية من الوظائف للأسف، فأكثر من ثلث الموظفين في بريطانيا يعتقدون أنهم يعملون في وظائف لا معنى لها، وفقًا لبحث أجرته شركة “YouGov”، وإذا كانت المعنويات منخفضة فلن يهم عدد قسائم صالة الألعاب الرياضية أو البرامج الذهنية التي يمنحها أصحاب العمل للموظفين، فحتى أكثر الموظفين التزامًا سيشعرون أنهم يفقدون شيئًا أساسيًا: الحياة.
المصدر: الغارديان