تزامنًا مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات النيابية اللبنانية المقررة في فبراير/آيار المقبل، عاد الحديث مجددًا عن دور سعودي محتمل يهدف إلى استعادة بعض النفوذ المفقود خلال الفترة الماضية وذلك عبر عدد من الإستراتيجيات التي تنتوي المملكة تنفيذها خلال المرحلة المقبلة.
ورغم الظروف التي مر بها الفريق الداعم للسعودية داخل لبنان “قوى الرابع عشر من آذار” من تراجع ملحوظ خلال الآونة الأخيرة، غير أن الحديث عن تخلي الرياض بسهولة عن مشروع سياسي استثمرت فيه مئات الملايين من الدولارات أمرًا مستبعدًا بصورة كبيرة، خاصة أن دوافع هذا المشروع والمتمثلة في مناهضة النفوذ الإيراني وتطويق حزب الله لا تزال قائمة.
تسريبات عن لقاءات واتصالات جرت ولا تزال بين بعض أعضاء هذا الفريق ومسؤولين سعوديين في الرياض بهدف التنسيق للملمة الشمل مرة أخرى بعد التوتر الذي شاب العلاقات مع بيروت في أعقاب أزمة رئيس الحكومة سعد الحريري، فهل تنجح السعودية في استعادة نفوذها داخل لبنان مرة أخرى عبر بوابة الانتخابات؟
إستراتيجية العودة
أيام قليلة على موعد إعلان اللوائح الخاصة بإجراء الانتخابات النيابية، تلك اللوائح التي أقر القانون بضرورة إعلانها قبل 40 يومًا من موعد إجراء الانتخابات، مما يعني إعطاء الضوء الأخضر للقوى السياسية كافة للاستعداد لخوض هذه المعركة التي في الغالب تتسم بالشراسة في ظل تباين التوجهات والميول لمختلف الأطراف المتنافسة.
الرياض ترى في هذه الانتخابات فرصة سانحة لاستعادة بعض من دورها الذي فقد خلال السنوات الأخيرة، دخلت فيها العلاقات بين بيروت والرياض كهوفًا من التوتر والتلاسن، لعل آخرها أزمة سعد الحريري ووضعه تحت الإقامة الجبرية في السعودية ودفعه إلى تقديم استقالته قبل أن تدخل فرنسا على خط الأزمة لتستقبله في الإليزيه ثم يعود إلى بلاده مرة أخرى.
فقدان المملكة لنفوذها لبنانيًا لا يعني سحب مشروعها هناك بالكامل، خاصة بعد المليارات التي أنفقتها لتأسيس قواعده، وتدشين تحالف جديد يكون الذراع السعودية في مواجهة حزب الله والنفوذ الإيراني، هذا التحالف الذي يضم كبار الأحزاب والحركات السياسية التي ثارت على الوجود السوري في لبنان بعيد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري 2005، أو ما يعرف باسم “قوى 14 آذار”.
بعض المعلومات التي تم تسريبها خلال الأيام الماضية تتحدث عن مساعي السعودية إلى عودة قوية إلى لبنان من ضمن إستراتيجية تقول مصادر مطلعة إنها “ستبدأ العمل عليها خلال أسابيع”، وتهدف إلى “إعادة لمّ مكونات 14 آذار لتخوض معركة الانتخابات النيابية كفريق واحد””، حسبما كشفت صحيفة “الأخبار” اللبنانية.
#باسيل: احذر من تدخل الخارج في شؤونا وانبه من اول الطريق كل العاملين في المجال الديبلوماسي ان يلزموا حدودهم والاصول الديبلوماسية والاتفاقات الدولية
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) January 14, 2018
الصحيفة كشفت أن أحد أبرز أهداف الرياض من وراء محاولة استعادة دورها لبنانيًا مرة أخرى أنها “تسعى إلى كسب ورقة لبنانية لتوظيفها في مشروعها في المنطقة”، وذلك بعد تهميشها للملف اللبناني لمصلحة الملفات الإقليمية التي تشغلها في سوريا والعراق واليمن.
هذا في الوقت الذي نقل فيه دبلوماسيون عرب “أن المملكة ستقوم قريبًا بإرسال موفد رفيع المستوى إلى لبنان للقاء الرئيس سعد الحريري، من أجل ترتيب تصوّر متكامل للمرحلة المقبلة، ينطلق من الضغط على رئيس الحكومة لتكون الأولوية في تحالفاته الانتخابية لمصلحة مكونات فريق 14 آذار، وفي مقدّمها القوات اللبنانية”.
إلا أن معلومات مغايرة وفقًا لمصادر سياسية بارزة أخرى، تقول إن “الحريري سيُستدعى قريبًا إلى الرياض، ومعه رؤساء أحزاب وتيارات في فريق 14 آذار، أو شخصيات مستقلّة، وربما رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، لتبليغهم رغبتها في إعادة جمعهم معًا في حلف واحد”، وذلك بحسب الصحيفة اللبنانية.
ومن ثم فمن المؤكد أن السعودية لم تسقط يومًا من حساباتها أن مشروعها داخل لبنان لا يزال قائمًا مهما أصابه من فترات وهن وضعف، خاصة أنها في فترة من الفترات حصدت ثمار بعض نجاحاته داخليًا وخارجيًا، وهو ما يجعلها متشبثة به رغم ما ينتابه من هزات بين الحين والآخر، خاصة في ظل تمدد نفوذ حزب الله واستفادته القصوى من وصول ميشال عون لرئاسة الدولة والمعروف عنه علاقته القوية بالحزب وطهران في آن واحد، وهو ما يمثل ضغطًا على الرياض خاصة بعد اللحمة التي بدت عليها الأطياف السياسية المختلفة في لبنان – شمال وجنوب – في أعقاب أزمة الحريري الأخيرة التي صدرتها بعض القوى بأنها مسألة كرامة تمس اللبنانيين بشتى انتماءاتهم السياسية.
قد لا يكون الحريري جاهزًا لأي شكل من أشكال المواجهة، كما ترجح المصادر، لكن ذلك لن يدفع المملكة إلى التراجع عن خطّتها التي وضعت ضمن بنودها توحيد كل الشخصيات المناهضة لحزب الله وإيران
أزمة الحريري الأخيرة عمقت من منسوب التوتر بين بيروت والرياض
تجميد حالة التوتر
في مجملها، العلاقات السعودية – اللبنانية علاقات تاريخية متميزة، رسميًا كان أو شعبيًا، فالرياض كانت دومًا الداعم الأول للشقيقة بيروت في جميع المحطات السياسية والأمنية والاقتصادية التي واجهتها خلال الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول بأن القرار اللبناني يصاغ داخل أروقة الديوان الملكي في الرياض.
الأزمات التي واجهها لبنان في الآونة الأخيرة من حروب أهلية وهزات اقتصادية طاحنة وتوتر في العلاقات مع بعض دول الجوار، جسدت قوة العلاقات مع السعودية التي ما تخلت عنها طيلة هذا المشوار الطويل، حتى جاء امتناع وزير الخارجية والمغتربين اللبناني جبران باسيل، عن التصويت على القرار الذي أصدره وزراء الخارجية العرب في ختام اجتماعهم الطارئ في القاهرة في يناير 2016 الذي يدين حزب الله بالتورط في العديد من الأعمال الإرهابية، لتدخل العلاقات بين الرياض وبيروت نفقًا مظلمًا.
الرياض ترى في هذه الانتخابات فرصة سانحة لاستعادة بعض من دورها الذي فقد خلال السنوات الأخيرة، دخلت فيها العلاقات بين بيروت والرياض كهوفًا من التوتر والتلاسن
وبعد أقل من شهر تقريبًا وتحديدًا في 19من فبراير/آيار 2016، اتخذ الديوان الملكي السعودي عدة قرارات قاسية ضد لبنان، منها إيقاف المساعدات المقررة من المملكة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكي، كذلك إيقاف ما تبقى من مساعدات المملكة المقررة بمليار دولار أمريكي المخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، إضافة إلى منع السعوديين والخليجيين من السفر للبنان.
#باسيل: تدخل السفراء في الحياة الوطنية والسياسية الداخلية والانتخابات النيابية ممنوع فعمل السفير تمثيل دولته وتأمين افضل العلاقات مع لبنان
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) January 14, 2018
ورغم تراجع المملكة عن سياستها التصعيدية ضد لبنان بعد ذلك سواء برفع التجميد عن المساعدات المقدمة للجيش اللبناني، أو عبر تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين على رأسها زيارة الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة وموفد العاهل السعودي، لتهنئة الرئيس اللبناني الجديد العماد ميشيل عون، ومن قبله وزير الدولة للشؤون الخليجية ثامر السبهان، فإن أزمة سعد الحريري الأخيرة أعادت العلاقات إلى النفق المظلم مرة أخرى.
وفي 20 من ديسمبر/كانون الأول 2016 جاءت أزمة تبادل السفراء بين البلدين لتلقي هي الأخرى بظلالها القاتمة على الأزمة التي لم تخمد نيرانها بعد، إذ تشبث كل طرف بموقفه فيما يتعلق بتأخير أوراق اعتماد سفيره لدى الآخر، على الرغم من تسمية السفيرين منذ أشهر، ورغم أنها حلت فيما بعد إلا أنها كشفت عن استمرار التوتر بين البلدين.
ونتاجًا لما سبق، تراجعت الرياض عن دعم حلفائها في لبنان، إما بتجاهلهم أو تجميد المساعدات المقدمة لهم، وهو ما أثر بصورة سلبية في نظرة اللبنانيين للسعودية، في الوقت الذي تسرع فيه إيران لسحب البساط من تحت أقدامها بعقد العديد من الصفقات السياسية والاقتصادية مع حلفاء الرياض السابقين، وهو ما دفع الأخيرة لاستغلال الانتخابات القادمة لاستعادة بعض النفوذ المفقود.
استغل حزب الله تراجع الدور السعودي لتوسيع نفوذه داخل لبنان
هل ذبلت ورقة الحريري؟
التساؤل الذي يفرض نفسه الآن: هل من الممكن أن يظل الحريري ورقة السعودية الضاغطة داخل لبنان كما كان في السابق؟ السياسيون اللبنانيون يستبعدون إمكانية مجاراة رئيس الحكومة المملكة في مشروع مواجهة جديدة مع حزب الله، هذا الحزب الذي وصفه الحريري قبل عدة أيام خلال لقاء له مع صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بأنه “عامل استقرار” وورقة مهمة في المستقبل السياسي لبلاده.
كما أن الضغوط التي تعرض لها الحريري خلال فترة إقامته بالسعودية التي أجبر خلالها على تقديم استقالته وفرض الإقامة الجبرية عليه لفترة من الفترات قبل التدخل الفرنسي لحل الأزمة، إضافة إلى تعرضه للابتزاز بين الحين والآخر عبر شركته “سعودي أوجيه” التي تعد مصدر التمويل الأكبر لتيار المستقبل الذي يتزعمه، من المؤكد أنها ستدفعه إلى التفكير مليًا قبل الارتماء في أحضان المملكة مرة أخرى.
ومن ثم قد لا يكون الحريري جاهزًا لأي شكل من أشكال المواجهة، كما ترجح المصادر، لكن ذلك لن يدفع المملكة إلى التراجع عن خطّتها التي وضعت ضمن بنودها توحيد كل الشخصيات المناهضة لحزب الله وإيران ودعمها سياسيًا وماليًا لمواجهته وفريقه في الانتخابات النيابية المقبلة، وسيصِل هذا الدعم تحديدًا إلى أطراف أثبتت التزامًا في مواجهة الحزب.
#باسيل: بدأت التحركات الخارجية للتدخل في انتخاباتنا النيابية لكن الايام التي كان فيه السفراء يختارون نوابنا ولت
— Gebran Bassil (@Gebran_Bassil) January 14, 2018
العديد من الأسماء داخل تيار المستقبل وبقية قوى 14 آذار مطروحة على مائدة الخيار كبديل للحريري خلال المرحلة المقبلة، على رأسها بهاء الحريري الشقيق الأكبر لرئيس الوزراء اللبناني، المقيم حاليًّا في المملكة الذي عُرف كثيرًا بمهاجمته سياسة أخيه، هذا بخلاف عدد من الشخصيات الأخرى التي من الممكن أن تقوم بهذا الدور.
الإستراتيجية السعودية التي تنتوي تنفيذها داخل لبنان، لم تكن في غيبة عن المسؤولين في بيروت، وهو ما دفع وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، في تغريدة له على “تويتر” أن يلمح لها مقللاً من إمكانية الدور والتأثير الذي من الممكن أن تحدثه بقوله: “بدأت التحركات الخارجية للتدخل في انتخاباتنا النيابية لكن الأيام التي كان فيه السفراء يختارون نوابنا ولّت”.
وهكذا تتجه مختلف الأنظار – من داخل لبنان وخارجه – للانتخابات النيابية القادمة لما تلعبه من دور محوري في تشكيل الخريطة السياسية اللبنانية وفق المستجدات الداخلية والإقليمية التي شهدتها الساحة السياسية اللبنانية خلال الآونة الأخيرة، وهو ما يصعب من مهمة السعودية في تنفيذ إستراتيجيتها، ويظل نفوذ محمد بن سلمان ونظامه على تحالف 14 آذار خاصة تيار المستقبل هو الرهان الذي يعول السعوديون عليه في استعادة دورهم مرة أخرى في مواجهة حزب الله.