حاز المجتمع التركي اهتمام وفضول الشعوب العربية، وكان هذا واضحًا من خلال المشاهدات العالية التي حققتها المسلسلات التركية، أو عبر المؤلفات التاريخية والأدبية المنتشرة في الأوساط العربية التي تتحدث عن ماضي وطبيعة هذا المجتمع، ومن أبرز الكتاب الأتراك الذين تردد اسمهم مؤخرًا: إليف شفق، الروائية التي سطع نورها عام 2009 عندما ترجمت روايتها “قواعد العشق الأربعون” للعربية وأحدثت ضجة وصدى كبير.
ومن جديد، استطاعت شفق أن تحقق نجاحًا ملحوظًا بعد أن ألفت روايتين أخريين، الأولى باسم “لقيطة إسطنبول”، والأخرى “شرف”، وفي كلتيهما كشفت شفق أسرار البيوت التركية وطرحت أهم القضايا الاجتماعية والسياسية الموجودة داخل هذا المجتمع، وبشكل دقيق ومثير للاهتمام تحدثت الكاتبة عن زوايا جريئة وغير مألوفة، حتى ضمنت الفوز بأكبر عدد من القراء.
الصراع بين الحداثة والتقاليد في رواية شرف
المثير للاهتمام في هذه الرواية هو حديثها عن القومية الثانية في تركيا بعد الترك وهي الأكراد، الفئة التي تعد الأكثر التزامًا في الشعب التركي، ليس من الناحية الدينية، إنما من الجانب الاجتماعي، ولعرض مدى اختلاف هذه الفئة عن باقي العرقيات الأخرى، اختارت الروائية التجول في ثلاثة أماكن مختلفة في روايتها وهي: إسطنبول ومدينة لندن وقرية كردية في جنوب غرب تركيا، وكل منطقة تتبع مجموعة مختلفة من الأعراف والمعتقدات الاجتماعية التي تلاحقها في حياتها اليومية.
وبصفة عامة، تتحدث الرواية عن أبرز المواضيع حساسية في المجتمعات المحافظة ألا وهو الشرف المحصور بجسد المرأة وتصرفاتها وعلاقاتها، دون مراقبة أو محاسبة أفعال الذكور مهما كان الجرم، ولإيضاح هذا التفاوت تكتب شفق قصة عن ابن قتل أمه لاتهامه إياها بالزنا، إلا أن حقيقة الأحداث تقول إن أمه كانت على علاقة صداقة حذرة جدًا مع رجل، ويبدو هذا جليًا من خلال لقاءاتهم وطريقة جلوسهم وحديثهم التي احترمت حدود البيئة المحافظة التي تمنعهم من الانجراف خلف العواطف والأهواء، لكن الصلاحية التي تمنحها التقاليد للمجتمع الذكوري دفعت هذه الحكاية للانتهاء بالقتل.
أما عن الشخصية الرئيسية في الرواية فهي بمبي المرأة الكردية المسلمة التي تبدأ مآساتها منذ نشأتها في عائلة تقليدية تفضل إنجاب الذكور على الإناث وتختار تزويج فتياتها بدلًا من تعليمهن، وتعكس حكاية بمبي الصراع بين قدسية العادات والتقاليد الاجتماعية عند الأكراد، ومظاهر الانفتاح والحداثة التي تشاهدها عند هجرتها إلى لندن مع عائلتها، حيث ينتهي هذا الصراع بالقتل لإحياء واحترام التقاليد على حساب حياة الآخرين.
الأسرة التركية في رواية “لقيطة إسطنبول”
هي ثاني رواية في رصيد شفق الأدبي ومن أفضل بصماتها، فلقد حققت هذه الرواية أعلى المبيعات في تركيا عام 2006، ويقال إن عرض شفق لمجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية الحساسة في الوسط التركي، مثل الإنجاب خارج إطار الزواج والشعوذة ومذابح الأرمن ساعد على ارتفاع نسب القراء والمبيعات.
زليخة هي بطلة الرواية، ومنذ بداية الوصف السردي لملابسها وتصرفاتها وطريقة كلامها وعملها في صالون للوشم، يمكن أن نفهم الشخصية النسائية التي يرفضها المجتمع التركي ويعتبرها محطًا للشكوك الأخلاقية، حيث وصفتها شفق بالفتاة التي تخالف القوانين الاجتماعية وتضرب بالتقاليد التركية المحافظة عرض الحائط وتستفز أفراده بمظهرها الخارجي ومهنتها في رسم الوشم وصداقاتها وعلاقاتها.
من خلال هذه التفاصيل الشخصية لزليخة يمكن أن يستنبط القارئ التصرفات التي تلائم العقلية التركية المحافظة ويستنتج صورة الأشخاص المتمردين وكيف يتعامل معهم المجتمع.
وفي نفس الجانب، يمكن الملاحظة أن شقيقة زليخة “بانو” نسخة مختلفة عنها تمامًا، فهي فتاة متدينة ومحجبة، ففي هذه الزواية تعكس شفق التنوع الموجود داخل الأسر التركية، فمن المألوف جدًا أن يمتلك كل فرد في الأسر التركية أسلوبه الخاص في الحياة.
أما عن عمل بانو كمنجمة، فهو أمر شائع جدًا في المجتمع التركي الذي يؤمن بالغيبيات والروحانيات، فلا يكاد يخلو مكان في شوارع تركيا من اليافطات التي تدلك إلى أقرب مكان لقراءة الكف أو الفنجان لمعرفة المستقبل، هذا بالإضافة إلى الخرزة الزرقاء المنتشرة في جميع المنازل التركية والمحال التجارية والملابس وإيمانهم بها ليس من ناحية دينية بل اعتقادًا بأن الخرزة تمثل العين التي تجذب الانتباه وتشتت العين الشريرة الحاسدة وتبطل تأثيرها.
هذا وتشير الروائية إلى جانب جديد، وهو الترابط العائلي الذي تتميز به الأسر التركية، ورغم عمق الاختلافات وفرق الأعمار والمعتقدات والأفكار، فإن أفرادها مجتمعين دائمًا لاحتساء الشاي أو تناول وجبة الإفطار – وهي الوجبة الرئيسية في تركيا -.
وعند الحديث عن الطعام التركي، فلا شك أن شفق ركزت على الاهتمام التركي بالطعام وغنى مطبخه عندما عددت المؤلفة أطباق وأصناف من الولائم التي كانت تحضرها العائلة في المناسبات وأيام الإجازة الأسبوعية.
تحمل الروايتان الكثير من التفاصيل والدلالات التي تمنحك صورة واضحة الملامح عن تركيبة هذا المجتمع الذي يجمع بين الإسلام المحافظ والعلمانية الوسطية، وتدلك إلى أقرب صفاتهم ومعتقداتهم وعاداتهم دون أن تشعر بالغرابة عند مصادفتك لأول تركي في حياتك.