قد يبدو تناول الطعام بشكلٍ أساسيّ مثل أيّ فعل بسيط، نجوع فنأكل فنشبع فيقوم الجسم عضويًا باللازم وهكذا، إلا أنّ اضطرابات الأكل المختلفة بما في ذلك السُمنة والبداية، تُخبرنا عكس ذلك تمامًا، وإنما علينا أن نفكّر أبعد من كون الأكل فعلًا مرتبطًا ببيولوجيا الجسم وحسب، وإنما بسيكولوجيته وجيناته وعلاقته بالمجموعة.
تُعتبر السُمنة أو البدانة واحدة من أكثر المشاكل الصحية نموًّا وإثارةً للقلق في العالم، لما ترتبط به ارتباطًا مباشرًا بالعديد من الظروف الصحية الخطيرة مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والسكتة الدماغية وداء السكري من النوع الثاني والتعب أو الإرهاق المزمنين، والربو ومشاكل التنفس وبعض أنواع السرطان.
تحتل العديد من الدول العربية مرتبات متقدمة في قائمة الدول الأكثر انتشارًا للسمنة والبدانة في العالم
تشيرإحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أنّ أكثر من مليار وتسعة ملايين شخصٍ من البالغين في العالم يعانون من الوزن الزائد في حين أنّ أكثر من 650 مليون منهم يعانون من السمنة المفرطة، بالإضافة إلى 125 مليون طفل. والأهم من ذلك، فتتربع عدة دولٍ عربية في قائمة الدول العشرين الأكثر بدانة في العالم وفقًا لإحصاءات العام المنصرم، فتأتي قطر في المرتبة الثامنة حيث يعاني 42.3% من السكان من السُمنة، تليها الكويت في المرتبة الحادية عشر بنسبة 39.7%، ثمّ الإمارات بنسبة 37.2%، ثمّ البحرين فالسعودية فليبيا.
وعلى الرغم من القلق المتزايد من تلك الأرقام والنتائج المترتبة عليها، فما تزال الضبابية تحيط بماهية الأسباب الكامنة وراء اضطرابات الأكل والسُمنة، وسؤال هل تنشأ تلك الاضطرابات نتيجة بيولوجيا الجسم أم أنها نتيجة مزيجٍ من التأثيرات البيولوجية والوراثية والاجتماعية والنفسية مجتمعةً في نفس الآن، ما يزال قائمًا، لذلك يلجأ الباحثون في الآونة الأخيرة إلى استخدام كلٍ من أدوات علم الأعصاب وعلم النفس الحديث لفهمٍ أفضل لتلك الاضطرابات، جنبًا إلى جنب في البحث في العوامل الوراثية والاجتماعية للأفراد.
وفقًا للدليل تشخيصي إحصائي للاضطرابات العقلية “DSM5“، تعرّف اضطرابات الأكل بأنها مجموعة من المشاكل النفسية التي تتسم بوجود عاداتٍ غير طبيعية في الأكل والأفكار والعواطف المتعلقة به، والتي بدورها تؤثر سلبًا على صحة الفرد الجسدية والعقلية في الآن نفسه، كما تتداخل مع أنشطته الطبيعية وجودة حياته بطرقٍ شتى، وتشمل العديد من الممارسات التي قد تؤدي لخسارة الوزن أكثر من اللازم أو لكسبه فوق المستوى الصحيّ المعقول.
يميل علم النفس الحديث للنظر إلى اضطرابات الأكل على أنها مزيجٌ متكامل ما بين العوامل النفسية للفرد إضافةً لبيولوجيته وجيناته ودور المجتمع والأسرة والإعلام من حوله وأثرها على سلوكياته.
جديرٌ بالذكر أنّ المرضى في المراحل المبكّرة من هذه الاضطرابات غالبًا ما يُنكرون أنّ لديهم مشكلة ما، فكلّ ما يرونه هو سعيهم للوصول إلى الشكل المثاليّ للجسم والحفاظ على الوزن الذي يرغبون به، أو ميلهم للأكل الزائد دون وعيٍ أو رقابة بسبب ظروفٍ خارجية قاهرة.
ولو جئنا للتفسير النفسي لمشاكل الأكل والسُمنة، لوجدنا أنّ مدرسة التحليل النفسي منذ عقود قد حاولت تفسيرها، ففرويد نفسه قد ربط بين التعلق الفموي بالأكل عند البدناء بنوعٍ من الولع نتيجة للحرمان العاطفي الذي تعاني منه شخصياتهم، ففي نظريته الشهيرة بالتحليل النفسيّ، يقع كلٌّ من الجوع والرغبة الجنسية على نفس المسافة تقريبًا.
أما في السنوات الأخيرة، فيميل علم النفس الحديث للنظر إلى اضطرابات الأكل على أنها مزيجٌ متكامل ما بين العوامل النفسية للفرد إضافةً لبيولوجيته وجيناته ودور المجتمع والأسرة والإعلام من حوله وأثرها على سلوكياته. إلا أنّ هناك الكثير من العوامل النفسية التي يمكن أن تسهم في اضطرابات الأكل والسمنة مثل انخفاض الثقة بالنفس ومشاعر العجر أو فقدان السيطرة على الحياة، والاكتئاب، والقلق، والغضب، أو الشعور بالوحدة وعدم الرضا عن الشكل الحاليّ.
ترتبط اضطرابات الأكل والسمنة عادةً بالعديد من الاضطرابات النفسية الأخرى مثل الاكتئاب والقلق وغيرها.
عادةً ما يرتبط تشخيص اضطرابات الأكل بحالات نفسية أخرى مثل الاكتئاب والقلق وغيرها، ونادرًا جدًا ما يتمّ تشخيص تلك الاضطرابات بعيدًا عن ضوء أية مشاكل نفسية أخرى. في الواقع، الاعتلال المشترك، أو ارتباط الاضطراب بوجود اضطراب آخر، هو القاعدة وليس استثناءً حين يأتي الأمر لاضطرابات الأكل. فعلى سبيل المثال، ما يقرب من 68 في المئة من المرضى الذين يعانون من فقدان الشهية العصبي و 63 في المئة من المرضى الذين يعانون من الشره المرضي العصبي، ونحو 50 في المئة من الأفراد الذين يعانون من اضطراب نهم الطعام، يتم تشخيصهم أيضًا بمرض الاكتئاب، وبالتالي فتكون اضطرابات الأكل تابعة أو مرتبطة لاضطرابات نفسية أخرى.
وتشير الأبحاث إلى أن بعض السمات الشخصية المتواجدة في المرضى الذين يعانون من اضطرابات الأكل النفسية، قد تكون مسبّبة للاضطراب، فما يقارب ثلثا مرضى فقدان الشهية العصبيّ يمتازون بشخصيةٍ صارمة تميل للبحث عن الكمال، حتى في طفولتهم.
كما تلعب العلاقات الاجتماعية أو الأسرية المضطربة دورًا كبيرًا في ذلك. أما فيما يتعلّق بالعوامل الاجتماعية، فلا شكّ أنّ الضغوط الثقافية المجتمعية التي تمجّد النحافة وتؤمن بصورةٍ محددة للجَمال تشمل أشكالًا جسدية محددة أو أوزانًا معينة، تؤثر بدورها على الفرد وعلاقته بالأكل أو باضطراباته، عوضًا عن الدور الرئيسي الذي يقوم به الإعلام والسينما وصناعة الإعلانات في الأمر.
يمكن تفسير السُمنة كنتاجٍ للضغط الاجتماعي على الفرد ليتوافق مع المثالية الرفيعة التي يصنعها المجتمع
وبناءً عليه، يمكن تفسير السُمنة كنتاجٍ للضغط الاجتماعي على الفرد ليتوافق مع المثالية الرفيعة التي يصنعها المجتمع وعوامل أخرى مثل السخرية والتعرض للرفض وعدم القبول من قبل الأقران. إذن فالأمر يبدأ بالضغط المجتمعي لتكونَ مثاليًا وذا شكلٍ مقبول، يليه شعورٌ بعدم الرضا عن الوزن وشكل الجسد، الأمر الذي يدفع إلى اتباع نظامٍ غذائيّ معيّن لخسارة الوزن الذي بدوره وإنْ فشل سيؤثر على إرادة الفرد وصورته لذاته بطريقة سلبية تدفعه للانغماس بالطعام أكثر فأكثر فينتج عن ذلك اكتئابه وانخفاض ثقته بنفسه، ليعودَ ويقع في فخّ الضغط الاجتماعي، أي أنه يدور في حلقةٍ كاملة مغلقة يبنيها المجتمع أساسًا.
الكثير من الدراسات أشارت إلى أنّ انخفاض الدعم من قبل الأقران، فضلًا عن الاكتئاب، أدت إلى جعل الفتيات أو المراهقات أكثر عرضةً للأكل الشره المرضيّ. عوضًا عن أنّ الأطفال الذين يعانون من زيادة الوزن يكونون أكثر عرضة للرفض من قبل أقرانهم، ما يعزّز من مشاعرهم السلبية ويجعلهم يميلون لأنماط معينة من الطعام استجابةً لتلك المشاعر، وبذلك ينشأ اكتساب الوزن أو السلوكيات الخاطئة في الطعام، لنؤكد مجدًدا أنها حلقة مفرغة أساسها المجتمع والصورة النمطية التي يمليها على أفراده.
بالمحصلة؛ فإنّ طرق معالجة السمنة واضطرابات الأكل الأخرى تهدف إلى النظر إلى العوامل النفسية والاجتماعية والبيئية والبيولوجية مجتمعةً، دون التركيز على واحدةٍ منها دون الأخرى. والعلاج النفسي المخصص لمثل هذه الاضطرابات يهدف إلى مساعدة في فهم الأفكار والعواطف والسلوكيات التي تؤدي إلى تلك الاضطرابات بالأساس، أي أنه يحاول تغيير نمط حياتهم لطريقة أفضل وأكثر صحيةً من تلك التي كانوا عليها، عوضًا عن أنّ العلاج بالأدوية أو التدخل الجراجيّ قد يساعد في كثيرٍ من الأحيان، خاصة في حالات السُمنة.