بعد مرور أكثر من شهر على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة لـ”إسرائيل” وبدء العمل على نقل السفارة الأمريكية إليها، تجمعت العديد من الشواهد والأدلة على تعامل المملكة العربية السعودية مع القرار وتداعياته، يمكن من خلالها تقديم “كشف حساب” لهذا التعامل، ورسم لوحة تفصيلية للسياسات السعودية قبل وبعد القرار والتعامل مع تداعياته، الأمر الذي يوصلنا إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن السعودية تبارك القرار وتعمل على إجهاض أي تحركات معارضة له.
الموقف الرسمي
نبدأ بالموقف الرسمي السعودي الذي اكتفى بإصدار بيان استنكاري ضد القرار، دون أن يتبعه بأي مواقف أو تصريحات لاحقة، كما غابت القدس عن تصدر الصفحات الأولى من بعض الصحف السعودية التي نشرت الخبر كعنوانٍ ثانٍ رغم أهميته.
أما الحدث الأبرز الذي كشف عن الموقف الحقيقي للسعودية، فهو غياب قادة السعودية والإمارات والبحرين عن القمة الإسلامية التي عقدت في إسطنبول لبحث خطوات الرد على قرار ترمب، وكان التمثيل السعودي من بين الأضعف، إذ لم يحضر الملك أو ولي العهد أو حتى وزير الخارجية، واكتفت المملكة بإرسال وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد صالح آل الشيخ، وهو منصب أقل بكثير من أن يعلن موقفًا، فيما اكتفت الإمارات بإرسال وزير الدولة للشؤون الخارجية “أنور قرقاش”.
وهو ما أثار حفيظة المسؤولين الأتراك، ودعا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى القول: “بعض الدول العربية أبدت رد فعل ضعيف للغاية، يبدو أن بعض الدول تخشى الولايات المتحدة بشدة”.
هذا الغياب السعودي الكبير تزامنت معه مفارقات موازية، ففي نفس وقت غياب ملك السعودية، حضر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو باعتباره من زعماء الدول الرافضين للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، في امتداد لسياسة سلفه هوغو تشافيز المناصرة للقضية الفلسطينية والقضايا العربية بشكل عام.
أما المفارقة الثانية فتمثلت في مقارنة هذا الغياب مع الحرص السعودي الفائق على حشد زعماء الدول الإسلامية لحضور القمة الإسلامية الأمريكية في أثناء زيارة ترامب إلى المملكة في مايو الماضي، ومظاهر الحفاوة الأسطورية التي قوبل بها، وما رافقها من إنفاق ضخم، تضمن اتهام ترامب لحركة حماس بأنها “إرهابية” في كلمته أمام القمة.
لم تكتف السعودية بالاتفاق مع الإمارات والبحرين على إهمال القمة الإسلامية ومحاولة إفشالها، بل مارست ضغوطًا كثيفة على دول أخرى لعدم حضورها، في مقدمتها الأردن
أما المفارقة الثالثة فهي تزامن الغياب السعودي مع قيام الملك سلمان باستقبال ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد في الرياض في نفس يوم انعقاد القمة، وكأن هذا اللقاء الروتيني أهم من حضور قمة إسلامية بشأن القدس، رغم أن الاثنين كان يمكن أن يتقابلا مع بعضهما على هامش القمة إذا كانا قد حضراها، هذا إذا كان اللقاء بينهما مهمًا من الأصل ولم يكن مجرد “حجة” للغياب عن حضور القمة.
واستكمالًا للموقف السعودي المتخاذل أو المتواطئ، غابت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية بشكل شبه كامل عن تغطية القمة الإسلامية، وتجاهلوا نقل وقائعه، أو نقل وقائع الاحتجاجات في المدن الفلسطينية والعربية والإسلامية على قرار ترامب، وبشكل خاص قناتي “العربية” السعودية و”سكاي نيوز عربية” الإماراتية اللتين اكتفتا بنقل أخبار ملخصة لأحداث القمة، كما تعمدتا عدم نقل أحداثها على الهواء، خاصة كلمة أردوغان، رغم أهمية الحدث وتفاعل الجماهير العربية والإسلامية معه، كما لم تتحدث جميع الصحف السعودية عن القمة، واقتصرت على تغطية الأخبار المحلية.
ولم تكتف السعودية بالاتفاق مع الإمارات والبحرين على إهمال القمة الإسلامية ومحاولة إفشالها، بل مارست ضغوطًا كثيفة على دول أخرى لعدم حضورها، في مقدمتها الأردن الذي يعتبر أكثر الدول معنية بهذا الملف، باعتباره مشرفًا على المقدسات الإسلامية في مدينة القدس.
فقد أفادت وكالة رويترز نقلًا عن مصادر سياسية أردنية قولها إن قيام السعودية باحتجاز رجل الأعمال الأردني السعودي صبيح المصري وفرض ما يشبه إقامة جبرية عليه بالرياض، يأتي في “إطار ضغوط سعودية على الأردن بشأن القدس”، والاحتجاز ربما كان بهدف الضغط على الملك عبد الله الثاني لثنيه عن حضوره القمة الإسلامية، إلا أن هذه المحاولة لم تنجح في ثني الملك الذي شارك في القمة، ليفرج عن المصري ويعود إلى عمان بعد ذلك.
تزامن انعقاد القمة الإسلامية في إسطنبول مع هجمات مكثفة من كتاب صحفيين ونشطاء سعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اتهمته بالمتاجرة بقضية القدس للحصول على شعبية في العالم الإسلامي
كما كان لافتًا عدم تطرق الملك سلمان في اتصاله الهاتفي بترامب في 20 من ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى قضية القدس على الإطلاق، إذ اقتصرت المكالمة على الحديث عن صاروخ الحوثيين الذي أطلقوه على الرياض، وإدانة ترامب لهذا الفعل وتأكيده “وقوف الولايات المتحدة مع المملكة في مواجهة تهديدات أمنها الوطني”، ولذلك كان من الطبيعي ألا تقوم السعودية بأي خطوات أو إجراءات من شأنها إثارة ترامب الذي يعتبر الحليف الوحيد للسعودية داخل الإدارة الأمريكية.
ولوحظ أن التحذير الذي أصدرته الخارجية الأمريكية عن احتمال اندلاع مظاهرات احتجاجًا على قرار ترامب لم يتضمن سوى 3 دول فقط، هي الأردن والسودان وموريتانيا، وهو تحذير لا تخفي دلالته، إذ تبدو الإدارة الأمريكية مطمئنة إلى أن أحدًا لن يخرج في أي دولة عربية أخرى، ومنها السعودية، أو أن أي مظاهرات ستخرج في البلدان الأخرى ستكون تحت السيطرة وسيتم التعامل معها بالقمع، ما عدا الدول الثلاثة الذي من الممكن أن تخرج فيها الأمور عن السيطرة.
السعودية وتركيا
تزامن انعقاد القمة الإسلامية في إسطنبول مع هجمات مكثفة من كتاب صحفيين ونشطاء سعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اتهمته بالمتاجرة بقضية القدس للحصول على شعبية في العالم الإسلامي، والرغبة في الحصول على شعبية عن طريق إطلاق تصريحات زاعقة ضد “إسرائيل”.
كشف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني أن الجانب السعودي هو من نقل تفاصيل صفقة القرن إليهم، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإنشاء حلف إقليمي ضد النفوذ الإيراني في المنطقة تكون “إسرائيل” جزءًا منه
بينما تستمر العلاقات التركية الإسرائيلية، هذه الحملة أثارت الكاتب السعودي “جمال خاشقجي” الذي تساءل في تغريدة على حسابه عبر تويتر “هل ثمة خلاف حاد بين المملكة وتركيا؟ إن لم يكن، فلماذا هذه الحملة الشرسة على أردوغان حتى بات السعودي يقسم بكرهه له ليثبت براءته من شبهة التعاطف معه؟”، مضيفًا “إن كان هناك خلاف مستحق، ليعلن رسميًا”.
لكن من المؤكد أن الخلاف بين السعودية وتركيا له أسباب متعددة، بدءًا من موقف تركيا المساند لقطر في الأزمة الخليجية، وإرسال جنود أتراك إلى الدوحة، وحتى التحفظ السعودي على قيادة تركيا لتحركات الدول الإسلامية ضد قرار ترامب، وهو ما تراه السعودية تجاوزًا لدورها، لكن المفارقة أن السعودية لا تريد أداء هذا الدور، لأنها تتخوف من أن يؤدي ذلك إلى إفساد تحالفها الوثيق مع ترامب في ملفات المنطقة الأخرى، وهو تحالف تراهن عليه السعودية كثيرًا.
صفقة القرن
تزخر الصحف الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية ووكالات الأنباء بالمقالات والتقارير والتحقيقات التي تؤكد علم السلطات السعودية بقرار ترامب وموافقتها عليه، بل ومباركتها له ومحاولتها تقديم المساعدة لإنجاحه.
أبرز هذه التقارير ما نقلته وكالة رويترز عن 4 مسؤولين فلسطينيين طلبوا عدم ذكر أسمائهم، قالوا إن محمد بن سلمان والرئيس محمود عباس ناقشا بالتفصيل صفقة كبرى سيكشف عنها ترامب وصهره ومستشاره جاريد كوشنر في النصف الأول من عام 2018، وأن الرياض تعمل منذ أسابيع خلف الكواليس لتأييد خطة سلام أمريكية وليدة، فيما أكدت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن السعودية تمارس ضغوطًا على محمود عباس في الرياض حتى يتنازل عن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
اتخذت الضغوط السعودية شكلًا آخر تمثل في رفض أعضاء اجتماع الوفد العربي الوزاري المصغّر المكلف متابعة تداعيات القرار الأمريكي بشأن القدس اقتراحات وزير الخارجية الفلسطيني لمواجهة القرار الأمريكي عربيًا، التي تضمنت قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس
هذه الضغوط تضمنت تخيير الرئيس الفلسطيني بين القبول بـ”صفقة القرن” أو الاستقالة، وفقًا لموقع “i24” الإسرائيلي، كما كشفت صحيفة تايمز البريطانية أن عباس حين توجه إلى الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بدعوة سعودية تم إبلاغه بأن يوافق على الشروط الواردة بالخطة الأمريكية أو يستقيل، وتحدثت تقارير عن أن عباس رد بالرفض على مقترحات تشمل جعل بلدة أبوديس الواقعة في ضواحي القدس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلًا من شرق القدس كلها.
كما كشف عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد مجدلاني أن الجانب السعودي هو من نقل تفاصيل صفقة القرن إليهم التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإنشاء حلف إقليمي ضد النفوذ الإيراني في المنطقة تكون “إسرائيل” جزءًا منه.
أما الخبر الأبرز الذي يثبت التنسيق السعودي مع ترامب و”إسرائيل”، فهو ما كشفت عنه نيويورك تايمز في 4 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي قبل 3 أيام من قرار ترامب، من أن ابن سلمان عرض على الرئيس عباس أن تكون ضاحية أبو ديس المجاورة للقدس عاصمة للدولة الفلسطينية بدلًا من القدس الشرقية، وتوسيع مناطق غزة إلى سيناء للتعويض عن أراضي المستوطنات، بالإضافة إلى إغرائه بمبالغ مالية للسلطة الفلسطينية، ووصفت الصحيفة تلك الخطة بأنها “متحيزة لـ”إسرائيل” ولا يمكن لأي زعيم فلسطيني القبول بها”.
كما اتخذت الضغوط السعودية شكلًا آخر تمثل في رفض أعضاء اجتماع الوفد العربي الوزاري المصغّر المكلف متابعة تداعيات القرار الأمريكي بشأن القدس اقتراحات وزير الخارجية الفلسطيني لمواجهة القرار الأمريكي عربيًا، التي تضمنت قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول التي تنقل سفاراتها إلى القدس، والبحث عن وسيط جديد للسلام بدلاً من الولايات المتحدة.
وقالت مصادر دبلوماسية فلسطينية لصحيفة “العربي الجديد” إن السعودية ومصر رفضتا التأكيد على انتهاء الدور الأمريكي في رعاية عملية السلام، كما رفضتا التأكيد على التمسك بتراجع الإدارة الأمريكية عن قرارها بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” قبل تناول أي مبادرة أمريكية جديدة بشأن عملية السلام.
منذ إعلان ترامب قراره بشأن القدس، نشطت الحسابات السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي اشتهرت باسم “الذباب الإلكتروني” في محاولة للتشويش على ردود الفعل الغاضبة ضد القرار، عن طريق شن هجمات على تركيا وقطر
الإعلام السعودي و”إسرائيل”
في خطوة تعد امتدادًا لسياسة الإعلام السعودي قبل قرار ترامب، واصل الإعلام السعودي خطوات تطبيعية كبيرة، عبر استضافة شخصيات إسرائيلية وإجراء حوارات معها، ويعد موقع “إيلاف” أبرز وسائل الإعلام السعودية التي فتحت الباب واسعًا أمام استضافة مسؤولين إسرائيليين سابقين وحاليين، منذ ما قبل قرار ترامب حتى الآن، كان آخرهم وزير الاستخبارات الإسرائيلية يسرائيل كاتس الذي دافع عن قرار ترامب، وأعلن أمله في أن يصبح حجم التبادل التجاري مع السعودية إلى 250 مليار دولار سنويًا، في حالة نجاح المشروع الإقليمي لربط المملكة بالسكك الحديدية مع الأردن وصولًا إلى حيفا.
كما نشر إيلاف مقالاً لأفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، هاجم فيه المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، ووجه إليها اتهامات شتى، وأنها سبب الخراب والدمار الذي يتعرض له قطاع غزة.
كما أجرى نفس الموقع مقابلة مع زعيم كتلة المعارضة في الكنيست إسحق هرتسوغ وصف خلالها محمد بن سلمان بأنه “أحد الثوريين الكبار في الشرق الأوسط”، وأنه “يحترم كثيرًا الخطوات التي يقوم بها”، مؤكدًا أن السيسي وابن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد يقدمون “أطروحات مثيرة للإعجاب”، وسبق للموقع أن أجرى مقابلة مماثلة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال غادي إيزنكوت.
أما وسائل الإعلام السعودية الأخرى، فكان لافتًا تعاملها البارد مع قرار ترامب، وكأن الأمر لا يعنيها، فقد جاء تغطياتها متأخرة وضئيلة مقارنة بحجم الحدث والغضب الذي أثاره في نفوس العرب والمسلمين، بل شهدت الصحافة والفضائيات السعودية عشرات الدعوات إلى التطبيع مع “إسرائيل” وإقامة علاقات معها، حتى بعد قرار ترمب.
وصف المستشار الاقتصادي والكاتب السعودي خالد الأشاعرة الشعب الفلسطيني بأنهم “فلوس طينيين” واتهمهم بأنهم باعوا أراضيهم لليهود مقابل المال، مؤكدًا أن الإسرائيليين ليسوا محتلين أساسًا
وفي مقال غير مسبوق، عرض الكاتب السعودي منصور النقيدان في مقاله بجريدة الاتحاد الإماراتية، قصة فيلم يتحدث عن عمالة “مصعب” نجل القيادي في حركة حماس “حسن يوسف” للاحتلال الإسرائيلي، وقيامه بتسريب معلومات حساسة إليهم، مختتمًا حديثه عن الفيلم قائلاً إنه يعرض “خيارات الفرد لإنقاذ نفسه وعائلته”، مضيفًا “كل شخص له زاوية نظره الخاصة، إلا أنها قصة جديرة بالتفكر، لإنقاذ ما تبقى من فرصة للسلام”، أي أنه اعتبر الخيانة للاحتلال فرصة لتحقيق السلام، كما لم يخف تعاطفه مع الخائن طوال المقال!
“الذباب الإلكتروني”
منذ إعلان ترامب قراره بشأن القدس، نشطت الحسابات السعودية على مواقع التواصل الاجتماعي، التي اشتهرت باسم “الذباب الإلكتروني” في محاولة التشويش على ردود الفعل الغاضبة ضد القرار، عن طريق شن هجمات على تركيا وقطر، واختلاق الأزمات المفتعلة معهما، في محاولة لحرف اتجاه الغضب إلى جهات أخرى.
في هذا الإطار برز هاشتاغ سعودي مسيء إلى قضية القدس، وهو #بالحريقة_انت_وكضيتك! لمواجهة هاشتاغ #القدس_عاصمة_فلسطين_الأبدية الداعم لقضية القدس، كما نشطت الحسابات السعودية في الهجوم على الشعب الفلسطيني، وتحميله المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، ودعوة الشعب السعودي إلى الاهتمام بالقضايا الداخلية وتنمية البلاد بدلاً من الانشغال بقضايا خارجية لم تستفد منها السعودية شيئًا، حسب قولهم.
أوقفت المذيعة الأردنية علا الفارس عن العمل في قناة “إم بي سي” السعودية بعد انتقادها قرار ترامب، واتهامها بالإساءة للمملكة، رغم أنها لم تتحدث عن السعودية على الإطلاق، بل أدانت التخاذل العربي بشكل عام في تغريدة على تويتر
على سبيل المثال، وصف المستشار الاقتصادي والكاتب السعودي خالد الأشاعرة الشعب الفلسطيني بأنهم “فلوس طينيين” واتهمهم بأنهم باعوا أراضيهم لليهود مقابل المال، مؤكدًا أن الإسرائيليين ليسوا محتلين أساسًا، كما تهجم الصحفي بجريدة عكاظ صالح الفهيد على الفلسطينيين، قائلاً إنهم يكرهون الشعب السعودي ولا يتعاطفون معه ولا مع قضاياه، بل يصطفون خلف خصومه وأعدائه.
وعلى نفس المنوال سار الصحفي البحريني في قناة العربية محمد العرب الذي قال إن الفلسطيني “باع أرضه” ثم يطالب السعودي بأن يستعيدها له، ودعا الصحفي منصور الخميس إلى “عدم إثارة الناس” بخصوص قضية القدس، لأن “الصراخ لن يحرر فلسطين”، واصفًا ذلك بأنه “همجية”، وغيرهم العشرات من الشخصيات السعودية الشهيرة على مواقع التواصل الاجتماعي الذين يعملون صحفيين وكتاب ومسؤولين رسميين في الحكومة السعودية.
هذا التطبيع و”التصهين” وترويج الدعاية الإسرائيلية من جانب شخصيات سعودية لم يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي ولا في الصحف المحلية السعودية، بل تعداه إلى وسائل الإعلام الدولية، إذ قال عبد الحميد حكيم مدير معهد أبحاث الشرق الأوسط في جدة على قناة الحرة إن العرب عليهم أن يتفهموا أن “القدس رمز ديني لليهود مثل قداسة مكة والمدينة للمسلمين” متجاهلاً أنها مكان مقدس للمسلمين أيضًا!
مطالبًا بـ”التحرر من “الموروث الناصري وموروث الإسلام السياسي بشقية الشيعي والسني الذي غرس لمصالح سياسية بحتة ثقافة كراهية اليهود وإنكار حقهم التاريخي في المنطقة”، منوها بما أسماها “الصدمة الإيجابية” لقرار ترامب ودورها في تحريك المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد احتفلت صفحات إسرائيلية على مواقع التواصل بهذه التصريحات ونقلتها مع ترحيب كبير.
وكان نفس الشخص قد سبق أن زار “إسرائيل” وصف خلالها المجتمع الإسرائيلي بأنه “لا يميل للعنف أو سفك الدماء، لكنه مؤمن بالتعايش والسلام، ويحب الحياة”، كما يعمل حكيم مديرًا للمركز الذي أسسه أنور عشقي الجنرال السعودي المتقاعد والمستشار بمجلس الوزراء السعودي والمعروف بصلاته القوية بالإسرائيليين وزياراته المتكررة للأراضي المحتلة.
موقف المؤسسات الدينية الرسمية السعودية لم يكن أكثر حظًا، فقد اكتفت هيئة كبار العلماء بإصدار بيان يتحدث عن مكانة القدس والمسجد الأقصى في الإسلام، فيما خلا من أي ذكر لقرار ترامب
وتتضح حقيقة السياسة السعودية في أن أحدًا لم يقترب من الرجل بعد تصريحه، ولم يعترض عليه أحد، في الوقت الذي أوقفت فيه المذيعة الأردنية علا الفارس عن العمل في قناة “إم بي سي” السعودية بعد انتقادها قرار ترامب، واتهامها بالإساءة للمملكة العربية السعودية، رغم أنها لم تتحدث عن السعودية على الإطلاق، بل أدانت التخاذل العربي بشكل عام في تغريدة على تويتر قالت فيها: “ترامب لم يختر توقيت إعلان القدس عاصمة “إسرائيل”عبثًا، فبعد زيارته لنا تأكد أن العرب سيُدينون الاعتراف الليلة ويغنون غدًا هلا بالخميس”، قبل أن تحذفها وتنشر تغريدة أخرى تقول فيها “ترامب لم يختر توقيت إعلان القدس عاصمة لـ”إسرائيل” عبثًا.. الليلة ندين وغدًا نغني (هلا بالخميس)!”.
صمت الدعاة والعلماء
يعد صمت الدعاة السعوديين وعدم قيام أحدهم بالتعليق على قرار ترامب أمرًا بالغ الدلالة على عدم رغبة المملكة في القيام بأي رد فعل على القرار، مع الأخذ في الاعتبار أن هؤلاء الدعاة متحكم بهم بالكامل من قبل أجهزة الأمن، فوفقًا لتطورات الأحداث الأخيرة، يمكن تقسيم الدعاة السعوديين إلى قسمين: الأول هم الدعاة الذين لا ترضى عنهم السلطات بشكل كامل، أو يمتنعون عن تنفيذ الأوامر، وهؤلاء جميعهم ألقي بهم في السجون والمعتقلات، ومن أبرزهم الداعية سلمان العودة، المعتقل منذ سبتمبر/أيلول الماضي، بسبب رفضه الهجوم على قطر خلال الأزمة الخليجية، وكتابته تغريدة يتمنى فيها إصلاح الأمور بين السعودية وقطر.
فضلاً عن عشرات الدعاة الآخرين الذين اعتقلوا في نفس الفترة، وما زالوا مغيبين داخل المعتقلات حتى الآن، وقد وصلت قائمة المعتقلين منذ سبتمبر/أيلول وحتى نهاية 2017 إلى 81 شخصًا.
أما القسم الثاني من الدعاة، فهم الذين لديهم استعداد لتنفيذ أوامر السلطات مهما كانت، ومن أبرز هؤلاء محمد العريفي الذي امتثل للأوامر في أثناء الأزمة الخليجية وكتب عدة تغريدات يهاجم فيها دولة قطر، وبالفعل امتنع العريفي عن كتابة أي تعليق أو قول أي تصريح على قرار ترامب، رغم أن صفحته على موقع تويتر نشطة في كتابة التغريدات الفقهية والتساؤل عن حكم “المسح على الجوارب” وغيرها من الأمور الهامشية، كما تنشط الصفحة في ترويج الإعلانات التجارية مقابل أموال طائلة، لكنها لم تحتوي على تغريدة واحدة عن القدس، ولا يمكن أن يكون هذا التجاهل الغريب إلا بأوامر عليا، أما الداعية عائض القرني فلم يختلف موقفه عن العريفي، لكنه أضاف لصمته قصائد مدح كتبها في ابن سلمان.
تعد سياسة البحرين امتدادًا لسياسة السعودية في الملفات كافة، فقد تحولت البحرين إلى تابع للمملكة منذ سنوات، خاصة عقب قيام الأخيرة بإنقاذ النظام البحريني عقب انتفاضة عام 2011، وقيامها بإرسال قوات “درع الجزيرة” التي قمعت الانتفاضة
أما موقف المؤسسات الدينية الرسمية السعودية فلم يكن أكثر حظًا، فقد اكتفت هيئة كبار العلماء بإصدار بيان يتحدث عن مكانة القدس والمسجد الأقصى في الإسلام، فيما خلا من أي ذكر لقرار ترامب، فيما لم يدع إمام الحرم المكي ماهر بن حمد المعيقلي إلى دعم قضية القدس أو انتقاد ترامب في خطبة الجمعة التالية للقرار، مكتفيًا بالحديث عن طاعة ولي الأمر وأن ذلك من صميم الدين، مكيلاً المديح لدورهم في مساندة القدس، في وقت احتلت القضية منابر معظم المساجد في الدول الإسلامية، حتى في دول تتمتع بعلاقات جيدة مع “إسرائيل” مثل تركيا ومصر.
وأشارت صحيفة العربي الجديد إلى أن تعميمًا أصدرته وزارة الشؤون الإسلامية لجميع الجوامع “بذكر مناقب السعودية تاريخيًا تجاه القدس، ودور ملوكها في نصرتها، وعدم التهاون مع الخطباء في حال تجاهلهم تلك الأوامر”.
ويتزامن مع هذا الصمت مفارقة دالة، إذ تترك الحرية لشخصيات سعودية من السياسيين والإعلاميين للهجوم على قضية القدس والترويج للتطبيع مع “إسرائيل”، في الوقت الذي لا يتاح فيه لمؤيدي القضية الفلسطينية كتابة آرائهم، وهو ما يفسر حقيقة الموقف السعودي الرسمي.
تطبيع البحرين
تعد سياسة البحرين امتدادًا لسياسة السعودية في الملفات كافة، فقد تحولت البحرين إلى تابع للمملكة منذ سنوات، خاصة عقب قيام الأخيرة بإنقاذ النظام البحريني عقب انتفاضة عام 2011، وقيامها بإرسال قوات “درع الجزيرة” التي قمعت الانتفاضة.
تصريح الشيخ عبد الرحمن السديس، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، يكمل الصورة العبثية المثيرة للسخرية، عندما قال إن الملك سلمان وترامب “يقودان العالم نحو السلم والاستقرار”
ولذلك كان لافتًا زيارة وفد بحريني إلى “إسرائيل”، كأحد مظاهر السعي البحريني إلى التطبيع الكامل مع تل أبيب، وهو سعي بدأ منذ سنوات، لكنه بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة، مع تكرار اللقاءات التي تجمع مسؤولين بحرينيين وجهات بحرينية بنظيرتها الإسرائيلية، مثل قيام الفرقة الموسيقية الملكية البحرينية بعزف نشيد “هاتكفاه” القومي الإسرائيلي، في المؤتمر السنوي لمعهد “شمعون فيزنتال” بلوس أنجلوس، وقيام ولي عهد البحرين بإلقاء كلمة في نفس الحفل، بالإضافة إلى إدانة ملك البحرين للمقاطعة العربية تجاه “إسرائيل”، ودعوته المواطنين البحرينيين للذهاب إلى “إسرائيل”، بالإضافة إلى العديد من الزيارات المتبادلة بين شخصيات إسرائيلية وأخرى بحرينية في المنامة وتل أبيب، هذه السياسة البحرينية اعتبرها خبير إسرائيلي أنها “ترجمة” من البحرين لمواقف السعودية الحقيقية تجاه “إسرائيل”.
كما عبر وزير الخارجية البحريني عن موقف بلاده من قضية القدس عندما اعتبر أنها “قضية جانبية” لا تستحق الدخول في صراع مع أمريكا من أجلها، وأن الأهم هو مواجهة إيران.
وجهان لعملة واحدة
لم يكن غريبًا والحال كهذا أن يخرج الجمهور الجزائري بلافتة تجمع بين الملك سلمان وترامب مكتوبًا عليها “وجهان لعملة واحدة”، فلم تترك السعودية أي احتمال لغير ذلك التفسير، فالتحالف بين السعودية وترامب أشعل المنطقة بالفوضى والاضطرابات، بدءًا من حصار قطر مرورًا بتجويع الشعب اليمني وقتله بالطائرات، ثم إشعال أزمة سياسية بلبنان، وأخيرًا قرار القدس و”صفقة القرن”، ويبدو في الخلفية تصريح الشيخ عبد الرحمن السديس الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، ليكمل الصورة العبثية المثيرة للسخرية، عندما قال إن الملك سلمان وترامب “يقودان العالم نحو السلم والاستقرار”.