“لماذا كان جلوسي تحت الشجرة يزعج أمي؟ أتراها كانت تخشى أن تنبت لي جذور تضرب في عمق الأرض مما يجعل عودتي إلى بلاد أبي أمرًا مستحيلًا؟ ربما، ولكن، حتى الجذور لا تعني شيئًا أحيانًا، لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها، نقتطع جزءًا من ساقها نغرسه، بلا جذور في أي أرض لا تلبث الساق طويلًا حتى تنبت لها جذورًا جديدة تنمو من جديد في أرض جديدة، بلا ماضٍ، بلا ذاكرة، لا يلتفت إلى اختلاف الناس بشأن تسميته، كاوايان في الفلبين، خيزران في الكويت، أو بامبو في أماكن أخرى”.
يتساءل هنا عيسى أو خوسيه عبر رواية ساق البامبو عن ماهيته، يتساءل الفتى الذي حار بين أصلين وهويتين: أحدهما يتقبله لكنه مضنٍ، والآخر يلفظه لكنه الأكثر استقرارًا علاوة على أنه حقه .
في الثمانينيات، تصل جوزفين الفلبينية بيت آل الطاروف في الكويت، كخادمة تعمل في البيت الذي يضم الأم “ماما غنيمة” وبناتها الثلاثة “نورية وهند وعواطف” وابنها البكري والوحيد “راشد”.
ماما غنيمة امرأة تقليدية تؤمن بالنبؤات وترتبط الأحداث ببعضها، تتشاءم من توافق بعض الأحداث العامة مع أحداث بيتها الخاصة، فكان لجوزافين نصيبًا وافرًا من هذا التشاؤم لأنها وصلت بيتهم تزامنًا مع محاولة اغتيال أمير الكويت.
راشد أعجب بجوزافين، والأمر تعدى الإعجاب، لكن الفتاة كانت تطمح لأمور أخرى غير هذه العلاقات، كانت تتمنى استكمال التعليم والعمل من أجل جعل حظها أوفر من حظ شقيقتها، لكن راشد الشاب المثقف صاحب الأنشطة الإنسانية والعمل المجتمعي تمسك بها، ليتم الزواج سرًا.
اكتشاف الأسرة لحمل جوزافين ثم اكتشافهم زواج ابنهم منها أحدث شرخًا عظيمًا، خصوصًا أن راشد كان ينوي خطبة فتاه كويتية من عائلة لا تضاهي الطاروف وجاهة إلا أن الأم رفضت، فكيف الحال بزواج من “فلبينية”!
بعد الكثير من المشكلات يرحل راشد جوزافين مرة أخرى للفلبين مع طفلها، لتبدأ من هناك حكاية عيسى الذي ولد ليجد نفسه يحمل جنسية لا يعرفها، ويناديه الكثيرون في بلدته بالـ”عربي” رغم أسرته الفلبينية وملامحه الفلبينية الخالصة .
محور الرواية هي عودة عيسى للكويت، وطريقة استقبال أهل والده له، وكيفية تعاملهم مع فتى هو شرعًا وقانونًا جزء من الأسرة ووريث شرعي لها .
أن تكون ضحية لمستبد أمر مبرر، أما أن تكون ضحية لضحية فهو أمر غير مبرر
الطبقية والعنصرية في تلك الرواية اللاعب الرئيسي الذي ركز عليه الكاتب، ومحاولة معالجة تلك القضية بعين الآخر لا بعين الكويتي نفسه .
عيسي كويتي الجنسية نعم، لكنه فلبيني قلبًا وقالبًا؛ مما شكل لديه صراع الهوية، من هو؟ وما دينه؟ هل هو عيسى؟ أم هو فقط هوزيه وعليه أن ينسى نسبه ليظل في أوراقه الرسمية فقط؟
من خلال أحداث الرواية التي هي خمسة أجزاء تتضح شخصية عيسى المركبة والظروف التي تسوقه وتتحكم به وبمصيره وأفعال الآخرين تجاهه التي لها مبرراتها التي لا يمكن تجاهلها.
استطاع الكاتب أيضًا أن يوجه نقدًا ذاتيًا للوطن، ويواجه الحقائق التي طالما تجاهلها الجميع أو اعتبروها مسلمات لا مساس بها، العمة التي رفضت بشدة أن تعترف بابن أخ لها من الخادمة، والجدة التي رفضت زواج ابنتها من شاب لا ينتمي لنفس جنسيتهم، المجتمع والجيران اللذان شكلا ضغطًا كبيرًا على ذلك البيت ليجعلوا من بقاء الشاب أمرًا مستحيلاً، كل تلك الاعتبارات لمستها الرواية وأكدت عليها من أجل مواجهة المجتمع بمشكلاته .
قضية عيسى ليست مجرد قضية مادية تتعلق بابن يبحث عن ميراث عائلته، بل قضية بحث عن النفس والذات والانتماء، في الفلبين طالما نادوه بالعربي وفي الكويت هو “الفلبيني”، فتمزق الفتى بين هذا وذاك ليقول: “إنه قدري، أن أقضي عمري باحثًا عن اسم ودين ووطن.”
لكن هل سيستطيع عيسى أن يستقر ويعرف لأين ينتمي؟ أم سيظل هائمًا بين هنا وهناك؟ وهل سيحسم صراعه الداخلي باختيار يرضيه ويرضي العائلة؟
الرواية تجيبك عن ذلك
سعود السنعوسي هو كاتب كويتي شاب، تعتبر “ساق البامبو” روايته الثانية، بينما روايته الأولى هي “سجين المرايا”، فاز بجائزة البوكر عام 2013 عن ساق البامبو، وتلى تلك الرواية مؤلفات أخرى مثل “فئران أمي حصة”.
السنعوسي ومن أجل كتابة تلك الرواية سافر للفلبين خصيصًا لمعايشة الحالة نفسها، وكان يقيم بإحدى العشش التي تشبه بيت الجد في الرواية كي يسهل عليه الانتقال لنفس الحالة الاجتماعية لهوزيه، يقول إنه تلبس شخصية هوزيه وكتب بلسانه وتقمص معاناته وآلامه، لذلك خرجت الرواية بهذه القوة اللغوية والسردية أيضًا .
يقول عن نفسه بأنه رغب في أن يعرف نفسه ومجتمعه من خلال الآخر، خصوصًا أن لديه شعورًا متناميًا بالذنب تجاه قضايا العاملين والأجانب والبدون كذلك.
يُحسب للسنوسي أيضًا أنه أضاف للأدب الخليجي مستويات أعلى مما هي عليه، فعلى الرغم من كثافة الإنتاج الخليجي في مجال الرواية تحديدًا، فإنه هش وغير مؤثر .
أبرز ما سيدهشك كقارئ عند انتهائك من الرواية، أنك لن تجدها رواية مترجمة كما ذكر الكاتب في بدايتها، إنما هي خدعة، أراد بها سعود أن يجعلك مقتنعًا بأنها قصة حقيقية دون شك، لكن بعد القليل من البحث تفاجأ بأنك أمام عمل عربي 100%.
في عام 2016 تحولت الرواية لمسلسل درامي حمل نفس العنوان بطولة الممثلة الكويتية سعاد العبد الله والممثل الكوري وون هو تشونغ ومجموعة كبيرة من ممثلين كويتيين وآسيويين.
إلا أن وكالعادة عندما يتحول أي عمل أدبي لعمل تمثيلي يفقد جزءًا كبيرًا من تفاصيله الخاصة وهذا ما حدث مع رواية “ساق البامبو”، إذ ركز العمل التليفزيوني على شخصية ماما غنيمة، بينما الرواية الأصلية بطلها ومحورها الشاب عيسى .