يعرف العالم ظاهرة الدولة العميقة، مجموعة من الأفراد يسيّرون شؤونها أو بعض نواحيها في الخفاء باستغلال نفوذهم على صنّاع القرار، لكن العراق ينفرد بظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الدول ربما: مجموعة من مشهورات تيك توك ومواقع التواصل الاجتماعي يطحن برتب عسكرية، يدخلن قواعد بالغة السرية، يزرن مقرات أمنية شديدة الحراسة، ويُعاملن معاملة كبار الشخصيات والدبلوماسيين في المناسبات الوطنية والدولية.
عمّ نتحدث هنا؟
ظاهرة تنتشر في العراق، تتمتع مشهورات تيك توك أو كما يُطلق عليهن هناك “الفاشينيستات” بنفوذ قوي في أوساط السياسة والأمن والميليشيات، حيث في إحدى الحوادث الشهيرة ظهرت إحداهن، همسة ماجد، وهي “فنانة شاملة وإعلامية وتملك متجر أزياء” كما تصف نفسها، خلال فيديو مسرّب وهي تتحدث عن وجود 5 آلاف طبيب تجميل غير مرخصين، بالإضافة إلى عمليات ابتزاز وغسيل أموال، كل هذا برفقة مجموعة من الضباط بقربها.
تحوّل الفيديو إلى تريند حمل وسم #محاسبة_همسة_وضباطها_الخمسة في اليوم التالي، ليظهر بعده فيديو آخر تبيّن أنه لعاملتَين في المطعم، يتم التحقيق معهما بتهمة تسريب الفيديو الأول، وتتحدث فيه هذه الفاشينستا صراحة باستدعاء إحدى الميليشيات المعروفة.
حادثة أخرى تظهر فيها إحدى المؤثرات زوزان خالد، وهي مهندسة تملك قناة خاصة بمواد التجميل على انستغرام، في قاعدة جوية عسكرية تضم طائرات إف-16 ضمن سلاح الجو.
مشهورة أخرى، وهي كادي القيسي التي تقدم نفسها كفنانة ومقدمة إعلانات، تظهر في مقطع “فلوغ” داخل مقرّ العمليات المشتركة شديد التحصين، وفي بطولة كأس الخليج، وهي أول بطولة ينظمها العراق بعد حظر رياضي على ملاعبه امتدَّ منذ العام 2003، وجدت كثير من هذه المشهورات الطريق مفتوح أمامهن، ليس للدخول إلى الملعب في ظل غياب نفاد البطاقات وحسب، إنما إلى مقصورة كبار الشخصيات نفسها.
بالطبع لم تمرّ هذه الظاهرة مرور الكرام، لكن الكثير ممّن تناولوا هذا الموضوع بالانتقاد أو التصحيح تعرضوا للتهديد. رقية الطائي، وهي محامية في بغداد، مثال شهير لهذه الحالات، بعد تهديد تعرضت له من من قبل همسة ماجد بإنهاء مسيرتها المهنية، وغيرها حالات أخرى.
ولأن ساحة النفوذ قد لا تتسع أحيانًا، وبحكم ضرورات البقاء في الترند باعتباره السلعة الأهم، تنشب صراعات ومنافسات بين هؤلاء المؤثرات، كما قد يصطدم هذا النمط من المحتوى بتعقيدات.
بدأت القصة قبل أكثر من شهر، حين قامت أم فهد -اسمها الحقيقي غفران سوادي-، والتي اشتهرت بنشر مقاطع للرقص على تطبيق تيك توك، بتهديد مشهورة أخرى تدعى داليا نعيم، وهي مذيعة عُرفت بكثرة عمليات التجميل إلى الحد الذي نشرت الصحف البريطانية تقارير عنها بعد إجرائها لنحو 50 عملية تجميل؛ بفضح علاقتها مع الناطق باسم وزارة الداخلية اللواء سعد معن، الذي أُحيل بعد ذلك بأيام إلى الإمرة بقرار من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
لكن الأمور أخذت منحى آخر، حين تعرضت داليا نعيم إلى الاختطاف بعد ذلك بفترة قصيرة على يد مسلحين مجهولين، ثم انتهت القصة باغتيال أم فهد نفسها في حادثة مريبة.
اغتيالات بطابع سياسي
أدّت حادثة اغتيال البلوغر أم فهد إلى فتح الملف من جديد، الحادثة كما يظهرها الفيديو تمّت بطريقة احترافية، قام القاتل بالوصول إلى السيارات المركونة قرب الدار، ثم إطلاق 3 رصاصات عليها، والانسحاب بعد مصادرة هاتفها. يقول المحلل السياسي بشير الحجيمي إن مقتل أم فهد تقف وراءه جهة سياسية لا تريد لبعض الملفات أن تظهر.
“أم فهد كانت تمثل الصندوق الأسود الذي يحوي ملفات يمكنها ابتزاز الكثير من السياسيين، ولذلك جاء مقتلها بهذه الطريقة حتى لا تظهر هذه الملفات، ويبدو أن الدور قادم على الكثير من البلوغرات في العراق اللواتي يمتلكن صورًا ومقاطع فيديو يمكنهن من خلالها ابتزاز العديد من السياسيين والحصول على مبالغ طائلة، وإلا من أين لهنّ هذه السيارات الحديثة والبيوت الفارهة؟”، يقول الحجيمي.
يكشف تحقيق أجرته قناة “السومرية” العراقية مع إحدى الفاشينستات عن الأساليب التي تستخدمها جهات متنفذة من أجل ابتزاز رجال الأعمال والأثرياء، وكيف يتم إغداق الأموال الطائلة عليهن.
“إحدى البلوغرات بدأت عملها وبالكاد كان لديها ما تأكله، لكنها بدأت بالصعود بطريقة صاروخية من حيث الشهرة والأموال خلال أسابيع معدودة، حيث أصبحت تملك سيارة مرسيدس “آخر موديل”.. لا يمكن للعمل في الإعلام ولا عمل الإعلانات تحصيل هذه المبالغ الطائلة، إنما العمل كمصيدة للأثرياء ورجال الأعمال وإيقاعهم. فهناك فنادق ومطاعم مخصصة لهذا الغرض تحولت إلى مراكز للابتزاز، والآن هناك سباق بين مشهورات تيك توك في هذا المضمار”، تضيف البلوغر التي رفضت الكشف عن وجهها أو هويتها خوفًا من الملاحقة.
في ملف البلوغرات أيضًا يدخل لاعب جديد، وهو الميليشيات المتشددة المتنفذة، والتي ترى أن وجود هذا النوع من الأنشطة في المجتمع محظور شرعًا ويستوجب التدخل. تملك هذه الميليشيات حرية كبيرة في الحركة والنفاذ إلى المدن ومن ضمنها بغداد، حيث كان مقتل البلوغر تارة فارس، وصيفة ملكة جمال العراق وعارضة الأزياء، عام 2018 وسط بغداد شاهدًا على نشاط هذه الجماعات وتداخل هذا الملفات في ملفات السياسة العراقية الشائكة.
يقول مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، والذي كان وزيرًا للداخلية وقت مقتل فارس، إن جماعات مسلحة متشددة مدعومة بضابط في الداخلية نفّذت عملية الاغتيال بدافع عقائدي متشدد.
“يعتقد هؤلاء أنهم خلفاء الله في الأرض، كنا نتابعهم عن كثب وهم 3 أفراد نفذوا عملية الاغتيال، وحين أردنا القبض عليهم تم تسريب المعلومات لهم واختفوا فجأة”، يقول الأعرجي.
شهدت تلك الفترة التي سبقت مظاهرات تشرين في العراق حوادث مماثلة، طالت صاحبات مراكز للتجميل، منهن رفيف الياسري ورشا الحسن اللتان توفيتا بطريقة غامضة، بعد تعرضهما لموادّ سامة فارقتا على إثرها الحياة بالطريقة نفسها.
جوازات دبلوماسية
نفوذ مشهورات تيك توك يصل أيضًا إلى وزارة الخارجية. في أحد تحقيقات لجنة النزاهة التابعة للبرلمان العراقي، قالت اللجنة إن وزارة الخارجية أصدرت 45 ألف جواز سفر دبلوماسي، اعترفت وزارة الداخلية بـ 4 آلاف منها خلال عام 2022 وحده، وأنها قدّمت طلبًا لوزير الخارجية فؤاد حسين لكشف الأرقام والأسماء الحقيقة دون ردّ.
تقول عضوة لجنة النزاهة، النيابية سروة عبد الواحد: “هناك جوازات دبلوماسية منحت لـ”موديلز” وعارضات أزياء ومشهورات على تطبيق تيك توك، لقد أصبح الجواز الدبلوماسي العراقي بلا أهمية ولا احترام بين دول العالم”.
اللغط الذي يُثار حول هذه الظاهرة يدفع الدوائر الحكومية بين الحين والآخر لإصدار بيانات تنفي إصدار جوازات دبلوماسية لهذه الشخصيات، كما حصل حين اضطرت وزارة الداخلية الخروج ببيان رسمي تنفي فيه إصدار جواز سفر دبلوماسي لإحدى البلوغرات المشهورات بنشر مقاطع الراقصة روهان علي، أو كما تطلق على نفسها “أم اللول”، مؤكدة أنه لم يصدر كتاب رسمي بمنحها جوازًا دبلوماسيًا.
رغم ذلك، تبقى هذه الظاهرة فريدة من نوعها في حقبة ما بعد عام 2003 في العراق، وتزداد خطورتها مع قلة المحاسبة وسوء استخدام المناصب.