تؤدي المواني البحرية دورًا مهمًا في التنمية الاقتصادية لدول العالم، فهي تستحوذ على نحو 60% من حركة البضائع، مما يجعلها محركًا رئيسيًا في نشاط الحركة التجارية الخارجية التي ارتفعت قيمتها بشكل كبير على مدى السنوات الماضية، ومع الأحداث الاستثنائية التي تقع في الساحة السياسية، تنامت المنافسة الإقليمية داخل هذا القطاع، مما أدى إلى افتتاح مواني جديدة أو توسيع القديم منها وإنشاء خطوط ملاحة جديدة مع دول مختلفة، فمن الواضح أن أهميتها تزيد بشكل سريع لتأثيرها على موازين القوى السياسية ولقدرتها على تشكيل مواقف دولية حاسمة وصريحة.
فهذه المنافذ البحرية تشكل صورة عن طموحات الدول في الهيمنة على التجارة وفرض نفوذها الإقليمي والإستراتيجي، حتى أصبحت محاور رئيسية في الصراعات الدولية، ويبدو أنه من الصعب تسوية الأزمات الناتجة عنها لسعي الجميع للحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية.
ميناء مبارك الكبير يشعل النيران بين الكويت والعراق
قررت وزارة النقل العراقية إنشاء ميناء الفاو الكبير منذ عام 2010 لإنتاج نحو 10 ملايين برميل من النفط يوميًا خلال العشر سنوات القادمة، وهو الميناء الذي يربط الخليج العربي عبر المواني العراقية بشمال أوروبا من خلال تركيا، وبعد عام واحد من طرح هذا المشروع، بدأت الكويت بإنشاء ميناء مبارك الكبير عام 2011، في جزيرة بوبيان القريبة من السواحل العراقية، على أساس أنه بديل اقتصادي عن الموارد النفطية ووسيلة لاستيعاب حجم الواردات إلى الكويت المتزايدة بشكل سنوي وحل تجاري لزيادة الاستثمارات بين الكويت والعراق.
لكن الأمور لم تسر كما خطط لها، فلقد تسبب هذا الميناء بحدوث أزمة جديدة بين البلدين، على اعتبار أنه سيقلل من أهمية المواني العراقية، ويقيد الملاحة في قناة خور عبد الله المؤدية إلى مينائي أم قصر وخور الزبير، ويجعل مشروع ميناء الفاو الكبير بلا قيمة، ويحظى هو بالحصة الأكبر من التبادلات التجارية المخطط حصولها بينها وبين آسيا وأوروبا.
المنفذ يحتوي على 60 مرسى ويمكنه استقبال نحو مليون و800 ألف حاوية سنويًا، مما يساعده أن يكون محورًا رئيسًا للنقل الإقليمي
ولا شك أن الجزء الثاني من القصة يخبر قليلًا من الحقيقة عن الطموحات الكويتية في تعزيز مكانتها كمركز مهم للنشاط الاقتصادي الإقليمي، خاصة أن المنفذ يحتوي على 60 مرسى ويمكنه استقبال نحو مليون و800 ألف حاوية سنويًا، مما يساعده على أن يكون محورًا رئيسًا للنقل الإقليمي ويمثل مركزًا مهمًا في قطاع تجارة الترانزيت ليكون واحدًا من أكبر المواني في الخليج العربي، وبالتالي ستصل هذه النتائج بظلال سيئة إلى مواني العراق، لأنها ستقلل من أهميتها وستخلق الصعوبات والتحديات أمامها بعد أن خططت أن تزيد قدرتها الاقتصادية بنسبة 45% عن القيمة الاقتصادية التي تجنيها المواني.
النفوذ التركي في جزيرة سواكن السودانية
تناقلت وكالات الأنباء أخبارًا عن قبول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطة تهدف إلى ترميم جزيرة سواكن السودانية، وهي المنطقة التي تحتوي على أقدم ميناء سوداني على ساحل البحر الأحمر، الممر الذي يعتبر من أهم الممرات التجارية فمن خلاله تمر نحو 3.3 ملايين برميل من النفط يوميًا، ويشكل معبر رئيسي للتجارة بين دول شرق آسيا مثل الصين والهند واليابان مع أوروبا، أما الميناء فيأتي في المرتبة الثانية بعد بورتسودان -الميناء الذي أنشأه الإنجليز- ويقع إلى الشمال منه بمسافة 60 كيلومتراً.
وقديمًا، اختار السلطان العثماني سليم الأول هذه الجزيرة مقرًا لحاكم مديرية الحبشة العثمانية، وبعد أن جاء الإنجليز إليها أنشؤوا ميناء بديلًا في بورتسودان، فتراجع دور سواكن كميناء تجاري مهم إلى أن افتتح مرة جديدة في بداية التسعينات واكتسب أهميته من جديد في الربط بين أفريقيا وآسيا، كونها تقع إلى جانب أقرب الموانىء في البحر الأحمر لميناء جدة السعودي والأقرب لباب المندب ولقناة السويس، ما يجعلها مركزا اقتصاديًا واستراتيجيًا بالغ الأهمية في المنطقة العربية والإفريقية.
وفي طيات هذه الخطة مجموعة من الأهداف أو الأطماع التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها في البلدان المطلة على البحر الأحمر، ولا تخفى عن ملامحها الرغبة في إعادة سيطرتها ووجودها داخل إفريقيا كما كانت في عهد الدولة العثمانية، وكان هذا واضحًا من خلال حديثها عن عزمها في ترميم آثارها في المدينة ودعوة مواطنيها للسفر إليها.
ميناء حمد الدولي يقف في وجه جبل علي الإماراتي
افتتحت قطر هذا الميناء العام الماضي، عقب اندلاع الأزمة الخليجية، وبتكلفة بلغت نحو 27.5 مليار ريال استطاعات قطر إنشاء ثاني أكبر ميناء بحري في منطقة الشرق الأوسط، لتغطية احتياجاتها الاستهلاكية وحماية علاقاتها التجارية الخارجية بعد القيود التي فرضتها عليها دول الحصار، ونتيجة لهذه الأحداث، خطفت قطر الأضواء عن المركز التجاري من إمارة دبي، ميناء جبل علي، وجذبت الانتباه بالمقابل إلى ميناء الدوحة الذي أضاف لها نوعًا من الاستقلالية والسيطرة الاقتصادية، خاصة بعد حصولها على شريكين تجاريين بارزين هما الكويت وتركيا.
هذا ويعد ميناء حمد أول منفذ بحري يحتوي على خزانات غذاء رئيسية لتأمين مصدر الأمن الغذائي في قطر ودول المنطقة، وبحلول عام 2020، يمكنه استقبال نحو 7.5 ملايين حاوية سنويًا ويستحوذ على 27% من حجم التجارة الإقليمية في الشرق الأوسط ويطمح إلى استحواذ على نحو 35% بحلول عام 2019.
وله مواصفات تجعله قادرًا على استقبال أكبر السفن التجارية في العالم، مما يساعد على إنشاء علاقة مباشرة بين قطر والعالم وتكوين شراكات اقتصادية جديدة، وهذا يعني تنويع النشاط الاقتصادي وزيادة الصادرات وجذب الاستثمارات الأجنبية نحو قطاعات مختلفة عن النفط، مثل الصناعات التكنولوجية والصناعات البتروكيماويات.
ترافق هذه التطورات الاقتصادية معركة تجارية بين مواني المنطقة التي قد تضر ببعضها في حال غياب خطط إستراتيجية تعاونية، ولانقطاع العلاقات في الإقليم يمكن استنتاج السيناريوهات المتوقعة والمخاوف التي تنتشر في الوسط.
وفي هذا الشأن، لا بد من الحديث عن ميناء جبل علي الإماراتي، أكبر ميناء بحري في الشرق الأوسط والتاسع عالميًا، الذي يختلف عن ميناء حمد في عدة محاور أولها الطاقة الاستيعابية وثانيها الخبرة التجارية فالعقول التي تدير هذا الميناء، تعد خامس أكبر شركات العالم في إدارة المواني ويبلغ نصيبها من السوق العالمية للشحن 9%، أي أنه من الصعب الاستهانة بشراسة المنافسة في المنطقة.
التحولات السياسية والإستراتيجية الفجائية قادرة على قلب الأحوال المستقبلية رأسًا على عقب، ولا سيما عند دخول أطراف منافسة جديدة مثل ميناء غوادر الباكستاني باعتباره بوابة رئيسية لآسيا الوسطى نحو الشرق الأوسط ودول الخليج
ورغم جميع الحقائق التي ترجح كفة دبي في هزيمة ميناء حمد الدولي، إلا أن التحولات السياسية والإستراتيجية الفجائية قادرة على قلب الأحوال المستقبلية رأسًا على عقب، ولا سيما عند دخول أطراف منافسة جديدة مثل ميناء غوادر الباكستاني باعتباره بوابة رئيسية لآسيا الوسطى نحو الشرق الأوسط ودول الخليج، والذي يعتبر أداة ضغط جديدة على الإمارات العربية، ومن المتوقع أن يشتد العداء بين هذه البلدان خاصة بعد محاربة الإمارات لهذا المشروع من خلال دعم المعارضة الباكستانية والتحالف مع الهند.
وختامًا، يمكن القول أن مواني الشرق الأوسط تحولت إلى مناطق ساخنة وجاذبة للصراعات الدولية، فهي تعد هدفًا إستراتيجيًا ينبغي الحفاظ عليه لتأمين المكاسب الإستراتيجية والاقتصادية المحلية والإقليمية، بما أنها العصب الأساسي للتجارة الدولية، وتأثيرها سيكون قادرًا على التغيير في السياسات الدولية والاتفاقيات الإقليمية، أو اتخاذ دور مهم في وقت الأزمات التي تفرض على الدول في معركة البقاء للأقوى.