أغلبنا، إن لم نكن جميعنا، بتنا ننظر للعالم من خلال عدسات القلق، ولا ريب أنّ “القلق” بات يُعرّف بمرض القرن الواحد والعشرين، فنحن جيل قلق مضطرب، نخاف من المستقبل ونفكر فيه كثيرًا لدرجة قد تمنعنا من التفاعل مع الوقت الحاضر كما ينبغي، أو قد تخلق عجزًا تامَّا في وجه ذلك التفاعل، فتقتحم الأفكار السلبية كافة أوقاتنا وتقف حاجزًا بيننا وبين الاستمرار في الحياة اليومية دون الشعور بأنّ شيئًا سيئًا سيحدث أو دون التفكير بعجزنا عن السيطرة عن حياتنا.
يتمّ تشخيص اضطراب القلق المرَضي حينما يستمرّ قلق الشخص حيال مجموعة من الأمور المتنوعة والمشاكل اليومية لمدة تزيد عن ستة شهور على الأقل
لنتفق مبدئًا على أنّ الفرد بطبيعته يحتاج قدرًا معيّنًا من القلق ليتستطيع مواصلة حياته، غير أنّ ما سنتحدث عنه الآن هو القلق العادي الذي يتحوّل إلى قلق مرضي عندما يفكّر الشخص في الأشياء لدرجة قد تعيق مواصلة حياته اليومية؛ لأن ذلك التفكير سيتغذى على طاقته العقلية والذهنية والجسدية، وسيتحول عقله لمسرح من الأفكار المتضاربة السيئة التي لا تخص المستقبل وحسب، وإنما تمتدّ للتفكير بالماضي وتجعل صاحبها يقع ضحية الاحتمالات والتمني، فتنقلب حربًا بجولات وصولات مع كلّ موقف أو يوم جديد.
يتمّ تشخيص اضطراب القلق المرَضي حينما يستمرّ قلق الشخص حيال مجموعة من الأمور المتنوعة والمشاكل اليومية لمدة تزيد عن ستة شهور على الأقل، يكونون خلالها غير قادرين على الاسترخاء أو التركيز بمهامهم اليومية، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى إيجاد صعوبة في النوم أو الاستمرار فيه.
أما الأعراض الجسدية التي قد تشمل هذا الاضطراب فعادةً ما تشمل الإرهاق أو التعب والصداع وأوجاع العضلات وارتعاشها وصعوبة في البلع وسهولة التهيج والتعرق والغثيان، بالإضافة لغيرها العديد من الأعراض.
كيف تفسّر مدارس علم النفس القلق؟
ترى مدرسة التحليل النفسيّ أنَ القلق هو اضطراب تنموي ينتج عن تجارب الفرد المبكّرة جدًا وطريقة أو كيفية ارتباطه بالآخرين من حوله بدءًا من أبويه وعائلته مرورًا بالمجتمع. وعلى الرغم من أنّ مدرسة التحليل النفسي لم تتوصل لنظرية شاملة للقلق، بنوعيه العام والاجتماعي، إلا أنّ هناك عدة فرضيات حول أصوله وكيفية نشوئه.
ووفقًا لنظرية الديناميكا النفسية “psychodynamic theory“، فإنّ القلق قد يرجع بالأساس إلى طريقة المعاملة القاسية التي تلقّاها الفرد من أبويه والتي كانت قائمة على الإهانة والشعور بالعار، والتي نمت فيما بعد إلى صراعٍ ما بين الحاجة لتحقيق النمو والنجاح وما بين الخوف منهما أو من نتائجهما، وإلى صراعٍ ما بين الحاجة والرغبة بالاستقلال والخوف من الرفض أو التخلّي. وتعمل هذه الصراعات كلّها مجتمعة لتُنتج شخصية تفتقر للأمان العاطفي وتعاني من تدنّي احترام الذات والشعور بالعار الذي يرافقه الانسحاب الاجتماعي والخوف من الآخرين أو من المستقبل.
إذن ففي مدرسة فرويد، تعكس أعراض القلق الصراعات اللاواعية عند الفرد والغرض من العلاج النفسي هو حلها. أما في المقابل، فترى المدرسة السلوكية أنّ أعراض القلق ناتجة عن ردود فعل بسيطة تُنتجها البيئة المحيطة بالفرد. ولكن في كلتا الحالتين، تنظر المدرستان على أنّ اضطرابات القلق التي تمنع الناس من العمل بشكلٍ طبيعي ترتبط دائمًا بذكريات التجارب المؤلمة وبالتالي فهي نتاجًا للتعلّم، أي أنّنا نتعلّم عن طريق الذكريات والبيئة كيف نقلق ونطوّر قلقنا. وهكذا، في كلا النموذجين، يُعتقد أنّ الذكريات الصادمة وخوفنا منها تلعب دورًا هامًّا في اضطرابات القلق.
يرى بعض الباحثين أنّ هذا النهج قد يكون مفيدًا في علاج اضطرابات القلق العام، خاصةً إذا سار جنبًا إلى جنب مع النهج السلوكي المعرفيّ
يهدف العلاج عن طريق التحليل النفسي لمحاولة كشف الصراعات الكامنة التي يُعتقد أنها السبب وراء الاضطراب ون ثمّ العمل على حلّها أو بالأحرى إيجاد التبرير اللازم لها، وبذلك يسعى المحلّل النفسي للوصول إلى مشاكل الطفولة أو التي حدثت في مراحل نموّ المريض والمرتبطة بقلقه العام، أي أنه يجعله على بيّنة من صراعاته الداخلية. في حين تحاول العلاجات السلوكية تخفيف أعراض القلق من خلال إخمادها أو إنهائها.
وما يزال هذين النهجين، فضلًا عن أساليب العلاج المعرفية التي تمّ تطويرها مؤخرًا، قيد المناقشة والبحث. وعلى الرغم من أنّ مدرسة التحليل النفسي أثبتت فشلها في كثيرٍ من المجالات، إلا أنّ بعض الباحثين يرون أنّ هذا النهج قد يكون مفيدًا في علاج اضطرابات القلق العام، خاصةً إذا سار جنبًا إلى جنب مع النهج السلوكي المعرفيّ، إذ يعتقد السلوكيون المعرفيون أنّ القلق ناجم عن مجموعة متنوعة من الأشياء بما في ذلك كيفية نظر الشخص للأمور وتفكيره بها، فترتبط أفكاره ومشاعره بسلوكياتهم وتصرفاته، ولذلك فإن الحل هو تغيير أفكاره ومشاعره، وبالتالي تغيير سلوكياته.
يقوم الدمج بين فكرة النهجين على أنّ الذكريات العاطفية ستبقى محفورة في اللوزة الدماغية بشكلٍ لا متناهٍ، إذن فأفضل طريقة للتعامل معها هو محاولة السيطرة على الانفعالات الناتجة عنها، وهذا ينتج عن القدرة على تنظيم القدرات العقلية في محاولةٍ لتهدئة تفاعلات اللوزة وذكرياتها، الأمر الذي يحدث من خلال محاولة إخماد أعراض القلق أو التخلص منها.
للتأكيد مجدّدًا على فكرة مدرسة التحليل النفسيّ وفهم الفرضية بشكلٍ أفضل، فالذكريات والمشاعر المؤلمة تترسب في عقل الشخص وتعبّر عن نفسها لاحقًا على أنها قلق يرتبط بلا وعينا وبالأشياء المؤلمة التي لا نريد أنْ نفكّر بها ونهرب منها واعين أو غير واعين لذلك.
يهدف العلاج النفسيّ بناءً على نظرية الارتباط العاطفي إلى خلق الثقة والاستقرار التي فقدها الفرد في علاقته بأمه أو بأبويه كليهما
ومن مدرسة التحليل النفسي نصل إلى نظرية مهمة في مسيرتها وهي نظرية الارتباط العاطفي ” Attachment Theory” والتي بدأت مع المحلل النفسي جون بولبي وطوّرها الكثيرون من بعده. تطرح النظرية فكرة أنّ الارتباط العاطفيّ حاجة أساسية ملحة عند الفرد، وأنّ العلاقات الأولى خاصة مع الأم، هي الأساس لكيفية نموّ الطفل وتطوره واكتسابه الخبرة التي ستؤثر عليه لاحقًا في كافة مراحل حياته وتنعكس على جميع علاقاته من صداقات وعلاقات حميمية وزواج وأبوّة وأمومة وغيرها الكثير.
تطرح النظرية ثلاثة أنواع من الارتباط بين الطفل وأمه، أحدها الارتباط القلق الذي يتصف باضطراب العلاقة مع الأم وعدم اتساقها، إذ تكون الأم حاضرة أحيانًا وغائبة أحيانًا أخرى، فلا تعطي طفلها العاطفة المفهومة أو المتوقعة، ولذلك ينشأ الطفل فيما بعد قلقًا في تعامله مع الآخرين وأمور الحياة، ولعلّ أهم ما يميّزه هو تقلّبه في التعامل مع الآخرين أو الأشياء، فهو دائم الشعور بالقلق والتخوّف من كلّ شيء.
وبناءً على نظرية الارتباط، يهدف العلاج النفسيّ لخلق الثقة والاستقرار التي فقدها الفرد في علاقته بأمه أو بأبويه كليهما، والتي يمكن أن تحدث بوجود الأبوين أو من خلال تجاوز ذلك في حال صعب الأمر، ويعيد بناءها من جديد نظرًا لأنّ قلق الفرد يكون نتاجًا لغياب ثقته بمن حوله أو بما سيحدث معه نتيجة ذلك.
القلق في المجتمعات العربية: اضطراب متجذر زادت من حدته الثورات
تلعب المجتمعات دورًا كبيرًا في الطريقة التي ينظر بها أفرادها إلى أنفسهم وواقعهم ومستقبلهم، وبالتالي فإنّ العديد من الاضطرابات النفسية الفردية ما هي إلا ناتجًا للعديد من العوامل الاجتماعية التي شكّلها المجتمع بأحداثه السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية.
ولو نظرنا للواقع العربي، لوجدنا أنّ الاضطرابات النفسية أخذت بعد الثورات العربية منحىً جماعيًّا عميقًا، الأمر الذي يُمكن تعريفه وفقًا لعلم النفس الاجتماعي بمصطلح “العدوى السلوكية” أو “العدوى المجتمعية”، أي انتقال السلوكيات والأفكار والمشاعر والانفعالات من شخص لآخر، نتيجة التفاعل والتأثر الاجتماعي، وقد استعمل غوستاف لوبون المصطلح عام 1895 للدلالة على السلوكات غير المحمودة للأفراد وسط الزحام والمجتمعات.
فقد أنتجت المجتمعات العربيّة بأحداثها الأخيرة أفرادًا مهزومين فاقدي الثقة بأنفسهم ومستقبلهم قلقين حيال الآتي بطريقة غير صحية بتاتًا، فيترنّحون بين العبثية واللاجدوى وينظرون لحياتهم على أنها محض فراغ لا طائل منها، خاصة بعد الإحباط الناتج عن فشل تلك الثورات الذي عزّز شعورًا كبيرًا بعدم الرضا عن الذات والواقع والحياة الشخصية والمجتمع ككلّ، مصحوبًا باليأس والتشاؤم وغياب المعنى من محاولات الثورة والتغيير، لا سيّما بعد كل تلك الأحداث المأسوية من تضحيات وفقدان وسجن وغربة وغيرها.