عرف بين الناس باسم “خير الدين التونسي” وأيضا “خير الدين باشا”، ذلك الوزير العثماني المصلح المستنير الذي جاء إلى تونس في سنّ مبكّرة قادما من إسطنبول، حاملاً معه الحب للناس والتجديد والإصلاح، ما أهله إلى أن يكون أحد أبرز رجال الإمبراطورية العثمانية في تونس في القرن التاسع عشر، حتى أن البعض أطلق عليه “أبي النهضة التونسية”.
قدومه إلى تونس
عام 1837، قدم خير الدين إلى تونس وهو في سن السابعة عشر من عمره، حيث حط الرحال في قصر حاكم البلاد آنذاك البيه أحمد باشا، بعدما اشتراه من سيّده تحسين بك القبريصي، فأقام عنده وحمل اسمه وفتح له أبواب العلم والسياسة والمناصب، فتمكن خير الدين باشا من تعلم الفنون العسكرية والسياسية والتاريخ، كما تعلم ثقافة واللغة الفرنسية بشكل جيد.
في سنة 1871 عاد خير الدين للمشهد السياسي رئيسا للجنة مراقبة المالية، وبعد عامين عين رئيسا لوزراء تونس
ويعود تاريخ ولادة خير الدين إلى سنة 1820، في قرية جنوب شرقي جبال القوقاز لأسرة تنتمي إلى قبيلة أباظة الشركسيّة. وتقول بعض المراجع التاريخية إنه أُسر في مرحلة مبكرة من طفولته بعد مقتل والده في معركة عثمانية ضد الروس.
عقب أسره في هذه المعركة، بيع خير الدين بسوق الرقيق في إسطنبول حيث اشتراه القاضي العسكري الذي يدعى تحسين بك القبريصي ورباه تربية خاصة، ما مكّنه من يكون فطنا وذو ذكاء كبير، غير أنه نشأ كعبد مملوك تحت سيده.
من بمباشي إلى رئيس وزراء تونس فالصدر الأعظم للإمبراطورية
بعد ثلاث سنوات من قدومه تونس، التحق خير الدين بالجيش التونسي برتبة بمباشي أي قائد الخيالة ورقي في سلم الرتب العسكرية، حتى وصل إلى رتبة أمير الأمراء أي جنرال سنة 1852 بحكم ثقة الباي فيه وفراسته.
سنة 1857، وعقب رجوعه من فرنسا، عُيّن خير الدين وزيرًا للحربيّة، ثم اعتزل العمل الرسمي عام 1862، وعكف لسنوات على قراءة كتب السياسة والفكر، وفي سنة 1871 عاد خير الدين للمشهد السياسي رئيسا للجنة مراقبة المالية، وبعد عامين عين رئيسا لوزراء تونس.
نال خير الدين اهتماما كبيرا من قبل السلطان عبد الحميد
ظل خير الدين رئيسًا لوزراء تونس حتى 1877، حيث استقال من منصبه وغادر إلى تركيا، وشغل هناك منصب رئيس ﻟﺠﻨﺔ ﻤﺮﺍﺟﻌﺔ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺍﻟﻤﺎﻟﻲ ﻟﻠﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻌﺜﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﻠﺒﺚ ﺃﻥ ﻋﻴَّﻨﻪ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ “ﺻﺪﺭ ﺃﻋﻈﻢ للدولة” أواخر سنة 1878، وقد استقال من هذا المنصب عام 1879، ونال عضوية مجلس الأعيان في العام نفسه واحتفظ بها حتى وفاته عام 1890.
اسهامات كبيرة في المجال الفكري
عدم دراسته في المدرسة الحربية التي أنشأها أحمد باي في مارس 1840 بباردو، لإصلاح الجيش والإدارة وتمكين البلاد من أسس التحديث، كغيره من المماليك من أمثال الجنرال حسين والجنرال رستم، لم يمنعه من الانكباب بمفرده على الدراسة، فأصبح يتقن التركية، فضلا عن كلّ من اللغة العربية واللغة الفرنسية، كما تلقى العلوم الشرعيّة واللغويّة من علماء معهد الزيتونة في تونس.
ومثّلت رحلته الأولى إلى العاصمة الفرنسية باريس سنة 1846، بداية التحوّل في حياته، حيث مكّنته هذه الرحلة من اكتشاف العالم الغربي ومؤسساته عن كثب. وفي رحلته الثانية إلى هناك التي دامت ثلاث سنوات بين 1853 و1856، تعرّف خير الدين إلى أسس الحضارة الغربية الحديثة وخاصة قيام النظام السياسي على المؤسسات الدستورية والتنظيم الإداري المحكم.
ركّز خير الدين على ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا
وخلال الفترة التي ابتعد فيها خير الدين عن العمل الرسمي بين 1862 و1870، انكب على مطالعة الكتب والجرائد التي كان يوصي بها وبمناقشة عدّة مسائل في منتدى فكري مع ثلة من رواد الاصلاح، مثل والجنرال حسين والجنرال رستم، والزيتونيين المستنيرين أمثال أحمد ابن أبي الضياف ومحمد بيرم الخامس وسالم بوحاجب.
خلالها، تمكّن من كتابة مؤلفه الشهير الذي يحمل اسم “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” الذي صدر سنة 1867 وقد ضمّن فيه الكثير من أفكاره الإصلاحية، إلى درجة أنّه اعتُبر بمثابة منزلة برنامج إصلاحي للنهوض بالعالم العربي الإسلامي كلّه وتهيئته لدخول الحداثة دون التخلي عن مقوّماته الذاتية وهويته وعقيدته.
وأشار خير الدين في هذا الكتاب إلى أنه “لا ضير على البلدان العربية الإسلامية من الاقتباس من الغرب ودخول عالم الحداثة مع التمسك بمقوّمات الدين الاسلامي الحنيف، ذلك أنّ التقدّم وحبّ الخير للمجموعة والاحتكام إلى العقل هي من المبادئ الأولية للإسلام فلا تتناقض معه ولأنّ الاسلام في نظره، يتأسّس على العقيدة والعقل معا”.
المدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين باشا
نادى خير الدين باشا بالتجديد الفقهي عبر الاجتهاد، وألحّ في توفير الحريّة للمجتمع، باعتبارها منفذًا هامًّا لاجتثاث التخلّف، وعرف عن خير الدين دعمه للمبادرات الإصلاحية وحثه على العدل والمساواة بين المواطنين وإصلاح أنظمة الحكم، وقد نادى بمقاومة الدكتاتوريّة لكنه ظل متمسكا بنظام الخلافة.
وركّز خير الدين على ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا، حيث عمل على النهوض بالتعليم ونشر الوعي، فقد أسس المدرسة الصادقية نسبة إلى الباي محمد الصادق وأدخلها فيها تدريس العلوم الحديثة إلى جانب علوم الدين واللغة العربية كما طور التعليم في جامع الزيتونة وأنشأ المكتبة العبدلية.
اصلاحات كبرى
فضلا عن عمله الفكري، حاول خير الدين القيام بإصلاحات أخرى منها تحسين ميناء حلق الواد، وإنشاء مصنع بخاري للسفن وتعزيز شبكة الطرق للربط بين مختلف مناطق تونس، وسن تشريعات تخدم الإصلاح والتطور.
كان خير الدين باشا محبا للإصلاح حيث أيد وثيقة عهد الأمان التي صدرت عام 1857، والتي أقرت مساواة التونسيين في الحقوق، وساهم عام 1861 في وضع قوانين المجلس الأكبر (مجلس الشورى) المكون من ستين عضوًا وتولى رئاسته.
قامت السلطات التونسية بجلب جثمانه ودفنه في مقبرة الجلاز بالعاصمة تونس سنة 1968
غير أنه لم يتمكّن من القيام بكامل الاصلاحات التي يرنو إليها نتيجة الفساد المستشري في أوساط المسؤولين الكبار في البلاد، حتى إنه قد نقل عنه قوله: “لقد حاولت أن أسير بالأمور في طريق العدالة والنزاهة والإخلاص، فذهب كل مسعاي سدى، ولم أشأ أن أخدع وطني الذي تبناني بتمسكي بالمناصب“.
قبر خير الدين باشا في تونس
هذه التجربة الفكرية والإدارية والسياسية والاسهامات التي تركها خير الدين باشا جعلته من أبرز شخصيات الدولة العثمانية في تونس، حتى أن سلطات البلاد قامت بجلب جثمانه ودفنه في مقبرة الجلاز بالعاصمة تونس سنة 1968 بعد أن كان مدفونا في جامع أيوب باسطنبول، كما طُبعت صورته على ورقة نقدية من فئة العشرين دينارًا، فضلاً عن إصدار البريد التونسي عدّة طوابع موشحة بصورته.