بين التفاؤل بانتشار بذرة الحريات في البلدان العربية، وحكم واقعي معادٍ للحرية، يمكننا القول بكثير من الأسى إن البلدان العربية قد عادت إلى ما قبل الربيع العربي، وإن موجة الحريات قد تم استيعابها وتفريغها من زخمها، ودليلنا على ذلك أن حرب الطوفان قد أعطت إشارات واضحة لتكامل معركة الحريات والتحرير في المنطقة العربية، ولكن الشوارع العربية لم تستجب لغزة، بما يكشف ضعفها الداخلي وهشاشتها في مواجهة آلات القمع المحلية، ويكشف خذلان غزة بصفته نكوصًا عن معركة التحرير الشاملة.
إن الأنظمة المعادية للحريات ما زالت قادرة على الحكم ومنع شعوبها من تحقيق الحدود الدنيا من التضامن، وبالتالي تفريغ الصندوق الانتخابي في كل قطر من قدرته على إحداث تغيير حقيقي سلمي. سنحاول فهم أسباب هذه الردة.
خذلان غزة يتبع الغدر بالحريات
من نافذة الاستقبال الكبير للصحفي – سفير قناة الجزيرة – وائل الدحدوح في تونس يوم 27 من مايو/أيار الحاليّ ننظر إلى حالة عامة من النفاق النخبوي، لقد كان أكبر مستقبليه ومقبلي جبينه أشد الإعلاميين غدرًا بمعركة الحريات، لقد رأينا أنصار انقلاب مصر العسكري المدمر للديمقراطية يأخذون الدحدوح ضحية السيسي بالأحضان دون أدنى شعور بالتناقض بين مواقفهم.
وهذه الحركة/العينة السلوكية تعري لنا طبيعة تفكير كثير من النخب التي تنافق غزة وقد نافقت طويلًا معركة الحريات، ومن سوء حظهم أو من قلة قيمتهم عند العدو أن الاستقبال تزامن بالساعة والدقيقة مع عدوان على أرض مصر وجيشها في رفح، في تحدٍ سافر ومهين لكل مصر وجيشها ولكل أنصار الانقلابات العربية، ولم ننتظر رد فعل مصري وطني يعبر عن عزة أو نخوة أو شرف سياسي ورغم ذلك فإن أنصار الانقلاب (ات) لا يتزحزحون عن تبرير الفعل الانقلابي في مصر وفي غيرها.
كيف يكون المرء مع الجلاد والضحية في ذات الوقت؟ هنا يكمن تفسير ما جرى ويجري في الوطن العربي، النخب العربية لم تؤمن بالحرية ولا ترى فائدة في الديمقراطية ولا تحتمل انتظار التغيير السلمي المتأني بواسطة صناديق الانتخابات، كما في كل تجارب بناء الديمقراطيات التي يضعها التاريخ أمامها لتتعلم منها الصبر وطول النفس، ومن هنا سنقيس على اللحظة السياسية في تونس وهي تواجه الاستحقاق الانتخابي الرئاسي.
إفراغ الصندوق الانتخابي من دوره التاريخي
تونس تتقدم نحو استحقاق انتخابي رئاسي قبل نهاية السنة، وقد انطلقت المعركة الانتخابية بإعلان ترشحات، وهناك ما يشبه حملات انتخابية قبل الأوان، فالهيئة الانتخابية لم تحدد الموعد بعد، لكننا بواقعية مُرّة نقول إن هذا الصندوق لن يأتي بالجديد، وقد كتبنا أن الرئيس الحاليّ في طريق مفتوح للفوز رغم أن نتائج سنواته الـ5 في الحكم كانت كارثية بإجماع الجمهور والنخب، والسبب عندنا واضح لا يحتاج علما لَدُنِّيًّا لفهمه.
معارضو الرئيس المترشحون ضده ليس لهم جمهور يعدل كفتهم ضده، وهم محتاجون بلا مواربة لجمهور الإسلاميين، وقد كتبنا عن علم أنهم واقفون في طابور أمام هاتف مسؤولي الحزب الباقين خارج السجون – فالحزب بلا مقرات ولا إدارة مستقرة – وهم مضطرون إلى مناورة كبيرة يقدمون فيها ثمنًا لهذا الجمهور المنظم رغم تقلصه.
تحمّل كلفة ذلك تعني إعادة الإسلاميين إلى المشاركة السياسية، وهذا خط أحمر عند جهات ثلاثة متوافقة على منع هذا الاحتمال، وهي منظومة الحكم القديمة أو التي اصطلحنا عليها الدولة العميقة، وإن لم يكن لها وجه ظاهر، والنخب التي تزعم الحداثة رغم اختلافاتها الداخلية بين يسار وقوميين إلا أنها متفقة على منع الإسلاميين من المشاركة، والطرف الثالث غير الخفي هو القوى الغربية المرعوبة من الاحتمال الديمقراطي في العالم المتخلف ومنه تونس.
تقاطع هذه القوى الـ3 في هذه النقطة يفتح الطريق للرئيس لعهدة ثانية، كما فتح له طريق الانقلاب على التجربة برمتها منذ البداية، وقد صار هذا بديهة معروفة تذكر في الكواليس ولا تعلن جهرًا. هذا الرئيس لا يزال صالحًا لمنع عودة الإسلاميين إلى المشهد ولو بحجم ضئيل، ولذلك فإن الاختلاف حوله قد يذوب فجأة إذا قبل أي مرشح التحالف العلني مع الإسلاميين.
هنا يفقد الصندوق الانتخابي معناه ودوره. مطلوب غربيًا (الخارج) ونخبويًا (الداخل) ديمقراطية دون الإسلاميين، وهذا لن يحصل لأن الإسلاميين هم من يمكنهم ترجيح كفة على أخرى إذا فتح الصندوق، حبذا لو يحمل الإسلاميون على ظهورهم مرشحًا لكن دون وضع شرط مشاركته في شيء بل المحبذ الاختفاء نهائيًا من أمامه ليواصل نفس العمل الذي يقوم به الرئيس الحاليّ.
هل تودع تونس الصندوق الانتخابي؟
هذا سؤال يفتح على حزن ثقيل، فالذهاب إلى الصندوق بلا أمل في دوره وتأثيره هو بمثابة غدر بالصندوق ورمزيته في التاريخ، لا يكون الذهاب لمتعة الذهاب، والعبرة كما يقول الخاسرون في الرياضة ليست بالمشاركة، فهي مشاركة مهينة للمستقبل لأنها تبتذل الجمهور وتستهين بحقوقه ودوره. هناك ما يجب فعله قبل الذهاب إلى الصندوق إنه الإيمان بالصندوق أولًا ثم الانتخاب لاحقًا.
الإيمان بالصندوق يترجم على الأرض بإعلان القبول بنتائجه قبل فتحه، يوجد شركاء في الصندوق وجب قبولهم إذا منحهم الجمهور حقًا، خلاف ذلك ومهما تعددت الدورات وتغير الأشخاص فإن النتيجة واحدة، الدائرة المفرغة من كل معنى وتأثير، ولو تم تصعيد عمر الفاروق ذات نفسه بصندوق انتخابي. فالأمر لا يتعلق بسلطة شخص بل بسلطة جمهور ناخب يفوض بصوته ويصبر على النتائج، هذا درس الديمقراطية الذي نشاهده في الغرب ونرى نتائجه وقد رأيناه يصعد أشخاصًا بلا قيمة ولا كاريزما لكن المؤسسات ظلت شغالة ومنتجة والمجتمعات حرة وتغير دومًا بالصندوق.
الصندوق الانتخابي التونسي القادم مفرغ من معناه قبل فتحه، ولن تكون له نتيجة على بناء الديمقراطية ولا استعادة الحريات المهدرة، وهذا بعلم النخب التي تشارك في الإيهام به رغم غياب كل شروط الانتخابات النزيهة.
لنختم بأسى، لنكن مثل وائل الدحدوح في تونس يعرف أكثر من غيره، ومن معاناته في غزة، أن الذي قبل جبينه يكذب عليه.