تتجه تركيا مرة أخرى لمشروع عملاق جديد في مدينة إسطنبول التي شهدت من قبل مشاريع كبرى مثل الجسور المعلقة والأنفاق والمطار الثالث، ومن هذه المشاريع التي نُفذت مؤخرًا مشروع جسر السلطان سليم ومشروع مترو مرمراي، ولكن المشروع الذي تتجه المدينة له هذه المرة وصفه الرئيس أردوغان في حملته الانتخابية عام 2011 بـ”المشروع المجنون”.
هذا المشروع هو مشروع قناة إسطنبول الذي أعلن أمس وزير النقل والملاحة التركي أحمد أرسلان مسارها من منطقة كوتشوك تشاكمجة حيث ستربط القناة بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ومن المخطط أن يتم إنجازه عام 2023.
وفي وصف المشروع ذكر أن طول القناة سيكون قريبًا من 45 كيلومترًا وبعرض 400 متر وبعمق 20 إلى 25 مترًا فيما سيبنى فوقها 6 جسور وستبنى مدينة جديدة على جانبيها، ومن المخطط أن تبلغ ميزانية المشروع 10 إلى 15 مليار دولار.
ومن المعروف أن حركة السفن بين البحر الأسود وبحر مرمرة تتم عبر مضيق البسفور وتبلغ أكثر من 56 ألف سفينة سنويًا، ولهذا كان أحد الأهداف التي أعلنت بخصوص هذا المشروع تقليل حركة الملاحة في مضيق البوسفور وخاصة حركة ناقلات النفط الضخمة وهذا من شأنه أن يزيل تهديد المخاطر البيئية على منطقة المضيق.
على الصعيد المحلي وبكل المجالات سيكون هناك انعكاسات كبيرة للمشروع ولعل الإعلان الأول عن المشروع الذي جاء في دعاية انتخابية سيتم استخدامه أيضًا للترويج لقدرة حزب العدالة على إنجاز المشاريع الكبرى مما يزيد من أسهمه في الانتخابات القادمة وهو نهج معروف لحزب العدالة والتنمية، إذ دائمًا ما يقدم إنجازات ملموسة أمام أعين الناخب ولعل هذا ما تجلى في شعاراته الانتخابية “الآخرون يتحدثون ونحن نعمل”.
المشروع لا يحمل أهمية بالنسبة لتركيا فحسب، بل للجغرافيا الإقليمية والدولية، فهي لن تكون مسارًا للمواصلات المحلية بل مسار للتجارة والطاقة والاقتصاد والمواصلات والتكنولوجيا في المنطقة
ومن الناحية الاقتصادية ولعل الأهمية الكبيرة تكمن في العائدات الاقتصادية على المشروع، حيث من المتوقع وفقًا للتقارير الرسمية التركية أن القناة ستدرّعلى تركيا نحو 8 مليارات دولار سنويًا، تساهم في تعويضها عن 10 مليارات دولار حُرمت منها بفعل تسعيرة المرور المخفضة عن السفن التي تعبر مضيق البوسفور، تبعًا لاتفاقية مونترو التي وقعت بالمدينة السويسرية عام 1936 لتنظيم الملاحة في المضائق والممرات المائية التركية”.
وفيما تضاعف عدد السفن عدة أضعاف منذ اتفاقية مونترو، لم تجن تركيا الكثير من الأرباح من عوائد مرور السفن عبر البوسفور، فعلى سبيل المثال لم تجن تركيا إلا قرابة 80 مليون دولار من مرور 50 ألف سفينة العام الماضي، ولهذا فإن المشروع الجديد سيحفز السفن على المرور منها تجنبًا لانتظار دورها في البوسفور وهو ما ستستفيد تركيا من مقابله المادي.
كذلك الحال سيتم فتح مجالات استثمارية جديدة في مجالات العقارات والمشاريع ويرى المختصون في مجال العقارات أن الفترة الماضية شهدت إقبالاً من المستثمرين على المنطقة، ولهذا فإن إعلان المشروع رفع قيمة العقارات في المنطقة بنسب عالية، وهذه الأسعار ستستمر في الارتفاع مع إنشاء المطار الثالث وإنشاء خطوط المواصلات.
ومن الناحية الأمنية فإن افتتاح مدينة جديدة على ضفتي القناة وزيادة الكثافة السكانية وإحداث جزيرة جديدة في الجانب الأوروبي سيكون له انعكاسات على الجانب الأمني.
ويقول البروفسور محمد فاتح ألطان من كلية الهندسة بجامعة إسطنبول إيدن إن المشروع لا يحمل أهمية بالنسبة لتركيا فحسب، بل للجغرافيا الإقليمية والدولية، فهي لن تكون مسارًا للمواصلات المحلية بل مسار للتجارة والطاقة والاقتصاد والمواصلات والتكنولوجيا في المنطقة.
تمثل السفن التجارية الروسية 40% من الحمولة المارة في المضيقين البوسفور في إسطنبول والدردنيل
ويحمل المشروع أهمية سياسية وقانونية وسيكون له انعكاسات على الصعيد الإقليمي والدولي، وفيما خضعت السيطرة على مضيق البوسفور إلى تنافس كبير من القوى الكبرى وتناولتها اتفاقيات عدة مثل لوزان ومونترو، فمن الجيد الإشارة إلى هذه الاتفاقيات، حيث منحت اتفاقية مونترو لتركيا حق السيطرة التامة على مضيق البوسفور، وقد تم توقيع الاتفاقية بتاريخ 20 من يوليو/تموز 1936 في المدينة السويسرية مونترو.
وجاءت هذا الاتفاقية بعد جهود مريرة أبدتها تركيا لإعادة حقها في السيطرة على حركة المضيق، بعد سلبها هذا الحق في اتفاقية لوزان عام 1923، إذ حسب اتفاقية لوزان، تقع إدارة حركة المضيق تحت الإدارة الدولية، ولكن باتفاقية مونترو حازت تركيا حق إدارة المضيق بشكل كامل، وقد وُقعت اتفاقية مونترو من قِبل بريطانيا والاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا ورومانيا وفرنسا وبلغاريا والنمسا واليونان واليابان وتركيا.
وقد أشار خبراء في القانون الدولي أن اتفاقية مونترو لا علاقة لها بقناة إسطنبول من حيث المبدأ، والسيطرة عليها وإدارتها ستكون تركية بالكامل ولكن ستكون نظرة الدول المجاورة للبحر الأسود نظرة غير مرتاحة للقناة الصناعية الجديدة، فعملية التقييم القانوني لها ستكون مختلفة عن المضائق الطبيعية مثل البوسفور، ومن الناحية العسكرية فإن المشروع سيكون له بالتأكيد دور كبير في التوزانات العسكرية.
وقد أثير موضوع إغلاق مضيق البوسفور بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية عام 2015، وكانت روسيا بالأصل طالبت في أوقات سابقة بتعديل اتفاقية مونترو، حيث “تمثل المضائق التركية، المخرج الوحيد للسفن الروسية من البحر الأسود المغلق، وتمر عبرها نحو 20 سفينة تجارية روسية يوميًا، وتمثل السفن التجارية الروسية 40% من الحمولة المارة في المضيقين البوسفور في إسطنبول، والدردنيل، وقد طالب الاتحاد السوفيتي (السابق) أكثر من مرة بتعديل معاهدة مونترو بأن تشترك دول البحر الأسود جميعًا في الإشراف على الملاحة في المضائق”.
وحسب اتفاقية مونترو يمكن إيجاز الإجراءات الخاصة بالاتفاقية على النحو الآتي:
* الإجراءات الخاصة بالسفن التجارية:
ـ في زمن السلم، تدخل السفن التجارية بصرف النظر عن الحمولة أو العلم، عبر مضيق البوسفور دون أي إجراء أو تفتيش، ولكن يبقى حق لتركيا في إجراء رقابة صحية على السفن العابرة من المضيق.
ـ في زمن الحرب، ستدخل السفن التجارية غير المتحاربة مع تركيا بصرف النظر عن الحمولة أو العلم دون أي عوائق، ولكن يحق لتركيا منع السفن التجارية للدولة المتحاربة معها من دخول المضيق.
ـ إذا كان هناك دولتان في حالة حرب، فإن تركيا ستسمح لسفنهم التجارية من الدخول، لكن بشرط عدم نقل مستلزمات عسكرية.
ـ يمكن لتركيا فرض إجراء معين على عبور السفن التجارية الخاصة بالدول الأخرى، في حين شعرت بأن هناك تهديدًا أمنيًا يُحيط بها.
تُحدد حمولة السفن الحربية، دون استثناء، في زمني الحرب والسلم، بـ15 ألف طن
* الإجراءات الخاصة بالسفن الحربية:
ـ في زمن السلم، يحق لجميع الدول العبور بسفنها الحربية عبر المضيق، ولكن بشرط إعلام الحكومة التركية قبل وقت العبور بمدة 8 أيام لدول البحر الأسود، و15 يومًا للدول غير القريبة للبحر الأسود، ويُمكن للغواصات الحربية المرورمن المضيق شريطة الظهور على السطح، ولكن يُمنع مرور حاملات الطائرات بشكل قاطع.
ـ في زمن الحرب، إذا كانت تركيا من الدول غير المشتركة في الحرب، فإن السفن الحربية لجميع الدول غير المشتركة في الحرب يمكنهم العبور من المضيق.
ـ في زمن الحرب، إذا كانت تركيا مشتركة في الحرب، فإنه يحق لها التصرف في إجراءات المضيق كما تشاء ولكن دون مخالفة مواثيق وأعراف القانون الدولي الخاصة بالملاحة البحرية.
ـ يمكن لتركيا فرض إجراء معين على قضية عبور السفن الحربية الخاصة بالدول الأخرى، في حال شعرت أن هناك تهديدًا أمنيًا مُحيطًا بها، ولكن في حين رأى “مجلس عصبة الأمم” بمقدار 3/2 أن الإجراءات التي قامت بها غير عادلة، يجب على تركيا تغيير هذه الإجراءات.
ـ تُحدد حمولة السفن الحربية، دون استثناء، في زمني الحرب والسلم، بـ15 ألف طن.
فترة انتهاء الاتفاقية
حسب القسم الخاص بفترة انتهاء الاتفاقية، فإن الاتفاقية تنتهي بعد 20 عامًا من تاريخ إعلانها، ولكن تبقى مادة حق العبور من دون أي قيد أو شرط لجميع سفن دول العالم سارية المفعول إلى أن يتم إبرام اتفاقية جديدة بما يخص المضيق.
تعمل تركيا على التركيز على المزايا الاقتصادية للمشروع ودوره في المساهمة في الاستقرار الدولي واستقرار المنطقة
انتهت الاتفاقية بتاريخ 20 من يوليو 1956، وحاولت الدول المُوقعة إبرام الاتفاقية بشروط جديدة عام 1956، ولكن أخفقت في ذلك وإلى الآن لم يتم تجديد اتفاقية مونترو. ويرى المتخصصون في القانون الدولي أن الخشية من منع تركيا لدول ما من العبور من وإلى البحر الأسود سيكون أقل احتمالاً وذلك لأن القناة توفر طريقًا بديلاً.
ويتوقع مع طبيعة نتائج المشروع الكبيرة ومكاسبه التي ستحققها تركيا على أكثر من صعيد أن تتعرض تركيا للمزيد من الضغوط ويمكن النظر إلى مشروع المطار الثالث الذي اعتبر أنه سيسحب مكاسب الملاحة الجوية من عدد من المطارات الدولية عندما يصبح نقطة ربط عالمية في مجال الطيران، ومن المعروف أيضًا أن الكثير من الدول تعمل على التدخل في شؤون دول أخرى من أجل منع تنفيذ مشاريع كبرى في هذه الدول خاصة المواني الكبرى التي قد تسحب مزايا عظيمة من دول أخرى وقد أشير في هذا السياق إلى ميناء عدن والميناء الجديد في قطر.
إلى ذلك، ستعمل تركيا على التركيز على المزايا الاقتصادية للمشروع ودوره في المساهمة في الاستقرار الدولي واستقرار المنطقة وستعمل على تجنب أي انعكاسات سلبية على الصعيد السياسي والأمني، ولكن من المؤكد أن هذا المشروع سيرفع تركيا عدة درجات في مصاف الدول القوية اقتصاديًا وعلى مستوى تصنيفات القوة العامة للدول.