الرصيف البحري الأمريكي.. فشل ذريع على كافة الأصعدة

انهار الرصيف الأمريكي قبالة سواحل غزة بعد 12 يومًا من إعلان الانتهاء من تدشينه، وبعد مواجهته سلسلة جرف تدريجي بفعل عوامل طبيعية تسبّبت في تفكيك الرصيف البحري، الذي قال البنتاغون إن كلفة بنائه قبالة غزة تقدَّر بنحو 320 مليون دولار أمريكي.

ظلت عملية تشغيل الميناء تواجه صعوبةً كبيرةً، ما تسبّب في سلسلة من الإخفاقات، والشكوك بعدم نجاح الخطة العسكرية، فلم يرفضه الفلسطينيون فحسب، بل قاومته الطبيعة الجغرافية للقطاع وعواملها الجوية حين تضرر أكثر من 3 مرات، فكّك فيها الجيش الأمريكي الميناء البحري قبالة سواحل قطاع غزة.

تسلسل زمني.. من البناء إلى الانهيار

يتكون الميناء العائم قبالة سواحل قطاع غزة من منصة في عرض البحر مخصصة لاستقبال السفن الكبيرة ورصيف مثبّت على الشاطئ، جرى تنفيذه بموجب قرار من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جو بايدن، ففي الأيام الأولى من مارس/ آذار 2024 أعلن بايدن عن مشروع لبناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة، وقال إن الهدف منه إيصال المساعدات عبر البحر إلى سكان القطاع المحاصرين.

تزامن إعلان بايدن عن قراره مع مرور نحو 5 أشهر من الحرب على قطاع غزة، وتحذيرات أممية من خطر المجاعة، بسبب ما قالت منظمات أممية إنها “عقبات هائلة” تحول دون إيصال إمدادات الإغاثة وتوزيعها في أنحاء القطاع.

وبعد نحو 36 ساعة فقط من إعلان بايدن في خطابه السنوي أمام الكونغرس الأميركي عن توجيه أمر إلى الجيش بتشييد الميناء، غادرت سفينة الدعم اللوجستي “الجنرال فرانك إس بيسون”، التابعة للجيش الأمريكي، قاعدة بحرية في ولاية فرجينيا باتجاه شرق البحر الأبيض المتوسط للمشاركة في المهمة.

وفي 25 أبريل/ نيسان بدأ البناء الرئيسي لمرفق الميناء على الشاطئ بالقرب من مدينة غزة في التبلور، والموقع البرّي هو المكان الذي سيتم فيه تسليم المساعدات من الجسر وإعطاؤها لوكالات المعونة، وفي 30 أبريل/ نيسان تُظهر صور الأقمار الصناعية سفنًا أمريكيةً تعمل على تجميع الرصيف والجسر على بُعد نحو 11 كيلومترًا (6.8 أميال) من الميناء على الشاطئ.

وفي 9 مايو/ أيار، كانت السفينة الأمريكية ساغامور هي أول سفينة محمّلة بالمساعدات تغادر قبرص وتتوجه نحو غزة وفي نهاية المطاف إلى الرصيف، وقد تم بناء محطة أمن وتفتيش متقنة في قبرص لفحص المساعدات القادمة من عدد من البلدان، وبعد الوقت المستهدف البالغ 60 يومًا، تم الانتهاء من بناء وتجميع الرصيف قبالة ساحل غزة والجسر المرتبط بالشاطئ بعد أكثر من أسبوع من تقلب الطقس والتأخيرات الأخرى.

أعرب مسؤولون أمنيون لصحيفة عن شكوكهم بشأن تكرار انهيار الرصيف الأمريكي، وأن الميناء قد لا يكون مناسبًا لظروف البحر والرياح في منطقة مدينة غزة

في 17 مايو/ أيار بدأ تشغيل الرصيف رسميًا بعد نحو شهرَين من انطلاق عملية البناء التي تولاها الجيش الأمريكي، وتطلبت الاستعانة بأكثر من 1000 جندي أمريكي واستغرقت نحو شهرين، وكلفت حوالي 320 مليون دولار، لكن تزامنه مع تقديم الأسلحة والذخائر للجيش الإسرائيلي الذي يشنّ حربًا على القطاع، أثار تساؤلات عمّا إذا كان للولايات المتحدة أهداف أخرى غير معلنة لإقامته، خصوصًا في ظل الترحيب الإسرائيلي.

لكن وبعد 3 أيام، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” عن توقف العمل في رصيف غزة العائم، وإجراء عمليات إصلاح لإعادته إلى العمل مجددًا بعد تعرض عدة سفن أمريكية لأضرار وجرف بعضها إلى الشاطئ بسبب الظروف البحرية الصعبة، ونتيجة لذلك تضرر الرصيف أيضًا.

وقالت الوزارة إن إصلاح الرصيف البحري العائم الذي أقامته الولايات المتحدة في قطاع غزة لإدخال مساعدات إنسانية، سيستغرق أكثر من أسبوع، وأعرب مسؤولون أمنيون لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن شكوكهم بشأن تكرار هذا الأمر، وأن الميناء قد لا يكون مناسبًا لظروف البحر والرياح في منطقة مدينة غزة.

“عورة النوايا الأمريكية” من الميناء البحري

يرى الكاتب والمحلل السياسي، ياسين عز الدين، أنه بات من الواضح أن الهدف من رصيف الميناء البحري قبالة سواحل غزة، كان دعائيًا ولتخفيف الضغط الإعلامي والدبلوماسي عن دولة الاحتلال، فما نُقل عبره من مساعدات محدود جدًا ولا يتجاوز 100 شاحنة، ثم أعلنوا عن تحطمه بسبب “الأحوال الجوية”.

وأضاف ياسين في حديثه لـ”نون بوست”: “لا وجود لعواصف قوية هناك، هي أحوال عادية ولا نتكلم عن عواصف أو شيء يقترب من العاصفة تستطيع اقتلاع رصيف بهذه المتانة، بالتالي فإنّ وضعه كان لإقامة مناورات، فمن خلال ما يسمّى بالخلل الفني لا أحد يستطيع تصديق أن رصيفًا تكلفته بهذا الحجم، يمكن أن يتوقف عن العمل أو يغرق بسبب هبوب رياح أو عاصفة”.

وأشار إلى أن من الواضح أنهم أقاموا ميناءً مؤقتًا بمواصفات هندسية متدنية لأنهم لا يريدون تحول الميناء إلى دائم يستفيد منه الفلسطينيون مستقبلًا، مردفًا: “أمريكا لا تريد من هذا الميناء خدمة أهل قطاع غزة، بل تريد خدمة مشروعها من خلال إيجاد طريقة ما للربط بين الرصيف البحري في غزة وميناء أسدود، بالتالي هذه طريقة ستمكّن الولايات المتحدة من فرض السيطرة هناك بطرق غير أمنية في الشكل، لكن في الجوهر هي العكس تمامًا”.

كما أوضح أن الطرق البرية لم يتم الاستغناء عنها أصلًا، إنما كان الهدف المعلن من الميناء هو مساندة الطرق البرية بسبب الإشكالات والعقبات التي تواجهها، والأمريكيون لا يبدون أي جدّية في حل مشكلة المساعدات ووصولها إلى الفلسطيينين في غزة، هو فقط عمل دعائي لذرّ الرماد في العيون والتظاهر أمام العالم أنهم يهتمون بأمر الفلسطينيين.

وأبعد من ذلك، ذهب الكاتب والمحلل السياسي نهاد أبو غوش بالقول إنه من الواضح أن الخراب السريع لمشروع الرصيف البحري والتلميح إلى التخلي عنه يدلان على الارتجال والتسرع، وأن طرحه وتنفيذه كان يهدف إلى خدمة أجندات سياسية أبرزها الإيحاء بأن الإدارة الأمريكية مهتمة بمعاناة الفلسطينيين ومعنية بحلّها.

وبالتالي احتواء الانتقادات والاعتراضات على السياسة الأمريكية القائمة على الانحياز المطلق لـ”إسرائيل” وتبرير حربها العدوانية، والإيحاء بأن موقف الإدارة الأمريكية متوازن، يضاف ذلك إلى الانتقادات التي تظهر بين وقت وآخر بشأن العمليات العسكرية ونتائجها الفظيعة تجاه المدنيين.

وأوضح الكاتب أبو غوش لـ”نون بوست” أن المشروع كان يعني ضمنيًا أن الإدارة الأمريكية ليست متعجّلة في إنهاء الحرب، وهي المهمة الرئيسية التي كان يراها المجتمع الدولي كله باستثناء الولايات المتحدة و”إسرائيل”.

وأشار في معرض حديثه إلى أن الموقف الأمريكي غير المتعجل في إنهاء الحرب، ما زال قائمًا حتى بعد 8 شهور كاملة من الحرب والتدمير، وهو ما يمكن استنتاجه حتى من الصيغة الغامضة للمشروع الإسرائيلي بشأن الصفقة وتبني الإدارة الأمريكية له حتى مع غموض الموقف بالنسبة إلى وقف الحرب.

التحكم في إدارة توزيع مساعدات الميناء

أضاف الكاتب أبو غوش أن الكيفية التي يراد بها إدارة الرصيف البحري الذي اقترحه الرئيس الأميركي جو بايدن لإيصال المساعدات الإنسانية من قبرص إلى قطاع غزة، تحرف الفكرة الإنسانية إلى مسار معاكس تمامًا، وهو تكريس الاحتلال، مردفًا: “قد يلبي الرصيف بعض المطالب الإنسانية الملحة لمئات آلاف الفلسطينيين الذين يتضورون جوعًا. لكن اختزال حاجات الفلسطينيين الملحّة في دخول المساعدات الإنسانية بمعزل عن مطالب وقف الحرب، وانسحاب قوات الاحتلال، ثم التسليم بمسؤولية “إسرائيل” عن التحكم في المواد الغذائية وتوزيعها، ينطوي على مخاطر سياسية جمّة”.

وتصبّ آلية التحكم في خدمة الأهداف السياسية الإسرائيلية لإعادة هندسة مستقبل قطاع غزة والتحكم به لسنوات طويلة قادمة، خاصة أنه ترافق مع محاولات إسرائيلية لإشراك “عشائر” من غزة في مهام توزيع تلك المساعدات في إطار إيجاد حكم بديل عن حركة حماس في غزة.

تمكين “إسرائيل” من التحكم في توزيع المساعدات الإنسانية يساعدها على هندسة مستقبل القطاع، على جميع المستويات السياسية والأمنية والإدارية

إضافة إلى استهداف أفراد وضباط من الشرطة الفلسطينية التي تساهم في حفظ الأمن والإيصال الآمن للمساعدات بشكل متعمد ومستهدف، ما ساهم في نشر الفوضى والفلتان الأمني المرافق لشاحنات المساعدات سواء تلك التي عبرت من خلال منظمات أممية أو عبر الرصيف الأمريكي.

وتعلقيًا على ذلك، أوضح المحلل السياسي أبو غوش أن إيصال المساعدات بحرًا وارتباطه برفض “إسرائيل” وجود أي جهة فلسطينية منظمة (شرطة، تنظيمات، متطوعون)، ورفض أي دور للأونروا والمنظمات الدولية في توزيع المساعدات، وكأن الفوضى في هجوم الناس الغريزي على المساعدات هو هدف بحدّ ذاته، يحقق لـ”إسرائيل” جزءًا من صورة النصر التي تريدها إلى جانب صور القتلى والمشردين.

وفسّر خلال حديثه أن تمكين “إسرائيل” من التحكم في توزيع المساعدات الإنسانية يساعدها على هندسة مستقبل القطاع، على جميع المستويات السياسية والأمنية والإدارية، حيث ترى المصادر المقربة من نتنياهو (التي تفسّر خطته لغزة ما بعد الحرب) أن “إسرائيل” بحاجة إلى 10 أعوام لإنهاء مهمتها في غزة، اثنان للقضاء على حماس، وثمانية لضمان عدم تجدد التهديد والقضاء على الأونروا وتغيير مناهج التعليم وغيرها.

ويمكن لـ”إسرائيل” اصطناع هيئات وأجسام بديلة عن الهيئات الوطنية القائمة في القطاع، واستخدام المساعدات كوسيلة لتعزيز دور الأجسام المصطنعة، كما فعل الاحتلال مع روابط القرى حين مكّنها من معالجة بعض قضايا الناس واستخراج تصاريح التنقل والعمل والتجارة.

كيف ستتعامل فصائل المقاومة مع الميناء مستقبلًا؟

يؤكد المحلل السياسي، إبراهيم المدهون، أن الفلسطينيين لا يرفضون الرصيف العائم ولكن ينظرون إليه نظرة الريبة والتشكيك، كونه جاء من الولايات المتحدة الأمريكية وطُرح بحجّة المساعدات، في حين أن هناك طرقًا أكثر جدوى من إيصال المساعدات عبر البحر.

وبيّن المدهون في حديث خاص لـ”نون بوست” أن هذا الرصيف جاء بفكره أمريكية دون تنسيق مع أي من الجهات الفلسطينية، بذلك يحمل الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها حتى اللحظة، مردفًا: “لهذا نلاحظ أن هناك حالة ترقُّب وصمت أكثر من حالة الرفض لهذا الرصيف من الجانب الفلسطيني”.

وأشار: “أي طريقة يمكنها إيصال المساعدات وإغاثة شعبنا الفلسطيني في هذه اللحظة الحرجة لا شكّ لا أحد يستطيع أن يقول لها لا أو يقف في وجهها، ولهذا الآن هناك حالة ترقُّب وغموض بشأن أهداف الولايات المتحدة من الرصيف العائم، وإذا ما كان هو بداية الاحتلال الأمريكي أم بداية لمشروعات أمريكية كبرى”، مضيفًا: “خصوصًا نحن نعرف أن قطاع غزة يوجد قبال سواحله حقول غاز يمكن أن تكون مطمعًا للقوى الإقليمية والدولية”.

أما على المدى البعيد، لا يعتقد المحلل إبراهيم المدهون أن الولايات المتحدة معنية أو تهدف إلى الوجود على الأراضي الفلسطينية. موضحًا ذلك بالقول إن هذه الحرب ما زالت طويلة وصعبة والأولوية بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، مستدركًا: “لكن في حين انسحاب الاحتلال الإسرائيلي وبقاء أي قوة مهما كانت من أي جنسية دون تنسيق وترتيب مع المقاومة الفلسطينية، فأعتقد أنه سيتم التعامل معها كقوة احتلال”.

رغم قدرة الرصيف المائي العائم قبالة سواحل غزة من إدخال مساعدات إنسانية، إلا أنها تبقى نقطة في بحر احتياجات قطاع غزة الإنسانية

وعن موقف المقاومة بغزة، يضيف المدهون: “المطروح الآن في المفاوضات يؤكد على أمرَين، أولهما وقف العدوان والمجازر الوحشية وانسحاب الاحتلال الاسرائيلي من كل قطاع غزة، في حال تمّ ذلك هناك كثير من الملفات والقضايا يمكن معالجتها ومناقشتها بما يشمل الميناء الأمريكي”.

وخلص المحلل السياسي المدهون بالقول: “لكن كما أعرف حماس والمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني لن يقبلوا بأي قوة على أرض قطاع غزة، ومستقبل قطاع غزة سيتم دراسته فلسطينيًا، دون أي تدخل خارجي، وأي تنسيق يجب أن يرضي القوى الفلسطينية وخصوصًا قوى المقاومة الفلسطينية”.

وهذا ما أكدته الفصائل، في مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، في بيانات مشتركة مع فصائل المقاومة الفلسطينية، على حق الشعب الفلسطيني بوصول كل المساعدات التي يحتاجها في ظل الكارثة الإنسانية التي صنعها الاحتلال في عدوانه الغاشم على قطاع غزة، كما أعادت الحركة وفصائل فلسطينية التأكيد على رفض أي وجود عسكري لأي قوة كانت على الأرض الفلسطينية، وشددت على أن “أي طريق لإدخال المساعدات بما فيه الرصيف المائي، ليس بديلًا عن فتح المعابر البرية كافة وتحت إشراف فلسطيني”.

ورغم قدرة الرصيف المائي العائم قبالة سواحل غزة من إدخال مساعدات إنسانية، إلا أنها تبقى نقطة في بحر احتياجات قطاع غزة الإنسانية، وبحسب أحدث الأرقام، أفاد المكتب الحكومي الإعلامي في قطاع غزة أن المساعدات القادمة من الرصيف الأمريكي لم تتجاوز 100 شاحنة فقط، في ظل سياسة تجويع 2.4 مليون إنسان في قطاع غزة.