عادت قضية الأمراء الموقوفين بالسعودية على خلفية التورط في قضايا فساد إلى الأضواء مرة أخرى في أعقاب نقل بعضهم من فندق “ريتز كارلتون” إلى سجن الحائر جنوب الرياض، والذي يعد واحدا من أخطر خمسة سجون بالمملكة، كما اشتهر في العقدين الماضيين بإيوائه النشطاء السياسيين المطالبين بالإصلاحات، إضافة إلى متهمي الإرهاب.
خروج عدد من المعتقلين وفق تسويات جرت بينهم والسلطات السعودية تنازلوا بمقتضاها عن بعض من أرصدتهم وممتلكاتهم نظير إطلاق سراحهم، في مقابل تعنت آخرين رفضوا الخضوع لما أسماه بعض المراقبين “ابتزاز”، دفع الكثيرين إلى التساؤل حول الدوافع الحقيقية وراء نقل رافضي التسوية إلى الحائر – ذو السمعة السيئة – على وجه الخصوص.
حالة من تباين التأويلات حول تفسير دوافع هذه الخطوة التي تعكس تصعيدًا واضحًا من قبل محمد بن سلمان ضد أبناء عمومته في الأسرة الحاكمة، فرضت نفسها على الشارع السعودي، بين من يراها ورقة ضغط جديدة من أجل الرضوخ لما رضخ إليه نظرائهم المفرج عنهم، وبين من يذهب إلى وجود نية مبيتة لدى ولي العهد الشاب في القضاء نهائيًا على بعض الخلايات المعارضة لتوجهاته والتي من الممكن أن تشكل تهديدًا يعيق طريقه إلى خلافة والده على عرش المملكة.
70 شخصًا إلى “الحائر”
لا يعلم أحد على وجه الدقة العدد الإجمالي لمن نقل إلى سجن الحائر، لكن بعض المصادر تشير إلى أن كل من تبقى من المحتجزين في فندق”ريتز كارلتون” تم نقلهم إلى مقر الاحتجاز الجديد والبالغ عددهم قرابة 60 شخصًا، هذا بخلاف الـ 11 أميرًا الآخرين الذي تم اعتقالهم في وقت سابق من هذا الشهر بسبب مطالبتهم “بإلغاء الأمر الملكي الذي نص على إيقاف سداد الكهرباء والمياه عن الأمراء، كما طالبوا بالتعويض المادي المجزي عن حكم القصاص الذي صدر بحق أحد أبناء عمومتهم” بحسب وسائل الإعلام الرسمية السعودية.
هناك نية مبيتة لدى ولي العهد للإطاحة بفريق محمد بن نايف، هذا الفريق الذي يرى فيه ابن سلمان تهديدًا حقيقيًا لمسيرته نحو خلافة والده
الأيام الأخيرة شهدت موجة من الإفراج عن العديد من الأسماء التي ألقي القبض عليها ليلة السبت، الرابع من نوفمبر/تشرين الماضي، في إطار حملة مكافة الفساد التي يقودها ولي العهد السعودي، وذلك بعد التوصل إلى تسويات وتفاهمات تتعلق بالتنازل عن أجزاء من ممتلكاتهم.
وفي المقابل يبدوا أن من تم نقلهم إلى سجن “الحائر” قد رفضوا مناقشة تلك التسوية التي تنطوي على الاستحواذ على نسبة مرتفعة من أموالهم وممتلكاتهم لقاء الإفراج عنهم، على رأسهم الوليد بن طلال، الذي يرى أن اعتقاله لا علاقة له بشبهات فساد تحوم حوله من قريب أو بعيد، مشيرًا أنه اعتقال “كيدي” له أسباب ودوافع أخرى، رافضًا إجراء محاكمة محلية له، ومطالبًا بمحاكمة دولية وبحضور شركاء له، الأمر الذي وضع ولي العهد، محمد بن سلمان في مأزق حقيقي.
شهادات حية عن وفاة بعض المحبوسين داخل سجن الحائر بسبب التعذيب
أخطر سجون العالم
يعد “الحائر” الذي يقع على بعد أربعين كيلومتراً جنوبي العاصمة، الرياض، أحد أكبر وأخطر السجون، ليس داخل المملكة العربية السعودية وحدها، بل في الشرق الأوسط، بل إنه وفق إحدى التصنيفات الأخرى جاء في المرتبة التاسعة ضمن أخطر السجون في العالم أجمع.
تزامنت ظروف افتتاحه عام 1983 مع تصاعد التهديد الإرهابي من تنظيم القاعدة وزيادة أعداد المنضمين من الشباب السعودي لهذا التنظيم، يضم حاليا نحو 1،100 سجين يقضون العقوبة بناء على إدانتهم باتهامات تتعلق بالإرهاب، كما يضم سجناء رأي، وتشرف عليه المباحث العامة السعودية.
يعد السجن من أسوأ مقار الاحتجاز سمعة في تاريخ المملكة والمنطقة على وجه العموم، فبحسب روايات سجناء بداخله لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” فإن وسائل التعذيب التي تستخدمها السلطات بداخله ضد المحبوسين تتجاوز كل الأعراف والتقاليد المتبعة، والتي أدت في كثير من الأحيان إلى تعرض البعض للوفاة.
الشهادات تعلقت بتعرض المحبوسين إلى الضرب بانتظام من قبل الحرس كعقاب جماعي على ما يعتبرونه مخالفات، وقال أحد السجناء: “نشب شجار كنت طرفاً فيه، فأتى الحرس وضربونا جميعاً، وجعلونا ننبطح أرضاً ثم ضربونا، وقد كسروا العصي على ظهورنا”، بينما جاء في شهادة أخر “يعلقوننا من القيود التي يضعونها في أيدينا ويجعلون أقدامنا تتدلى في الهواء أو يأخذون البطانيات منا”.
نقل المتبقين من المحتجزين في “الريتز كارلتون” إلى “الحائر” بعد رفض التسوية المقدمة من الدولة، خطوة فسرها مراقبون على أكثر من محمل، جميعها يصب في تعبيد الطريق أمام محمد بن سلمان وصولا إلى العرش
في العام 2007، نُشرت على شبكة الإنترنت مقاطع فيديو مصورة بهاتف ذكي تظهر حارساً يضرب السجناء بعصا بلاستيكية، وقالت منظمة “هيومن رايتس واتش” التي زارت السجن والتقت بعض السجناء “إن حالات الضرب وغيرها من أشكال سوء المعاملة في السجون السعودية أكثر شيوعاً بكثير من تلك الحادثة المنفردة التي جرى تصويرها”.
المنظمة جمعت روايات عن 12 حالة وفاة في السجون السعودية قيل إنها نجمت عن سوء المعاملة وعن أمراض قابلة للعلاج. وفي سجن الحائر، قال عدد من السجناء، كل على حدة، إن اثنين من السجناء ماتا بسبب نقص الرعاية الطبية، وثلاثة بسبب الضرب، من بينهم: جريان المطير الذي توفى في العام 2006 بسبب إعطائه علاجاً خاطئاً، وفي العام نفسه توفى معناز الدوسري، وقيل حينها إن الوفاة نجمت عن إصابات ناتجة عن الضرب، إذ قال أحد السجناء: “ضربه الحرس ثم أرسلوه إلى المستشفى زاعمين أنه مات ميتة طبيعية”، هذا بخلاف عبدالله الحارثي، الذي أرجع السجناء سبب وفاته إلى الضرب المبرح.
وبخلاف ما سبق فإن إدارة سجن “الحائر” تسمح للسجناء المتزوجين بقضاء بين 3 و5 ساعات مع زوجاتهم مرة شهرياً على الأقل، مع تأمين أغطية جديدة وشاي وحلويات، حيث يتضمن السجن جناحاً للأسر، هو عبارة عن فندق داخل السجن يستخدم لمكافأة السجناء من ذوي السلوك الحسن. ويضم أيضاً 18 جناحاً يتسع كل منها لـ9 أشخاص، بحسب الشهادة التي أدلى بها الصحفي كيفين سوليفان إلى صحيفة “واشنطن بوست“.
كما يحتوي على مستشفى داخلي يتسع لـ200 سرير، وتجرى فيه العمليات الجراحية على يد نخبة من الأطباء، إلا عمليات القلب المفتوح. وفي المستشفى أيضاً عيادة للأسنان، بالإضافة إلى عيادة جلدية وتجميل، إضافة إلى استوديو، وهو عبارة عن ثلاث غرف متصلة بها أجهزة ومعدات تجدها بالاستوديوهات المحترفة، وللنزلاء قناة خاصة يبثون من خلالها مقاطع يقومون بمنتجتها بأنفسهم، على حد وصف الصحفي الأمريكي.
ابتزاز أم تصعيد؟
نقل المتبقين من المحتجزين في “الريتز كارلتون” إلى “الحائر” بعد رفض التسوية المقدمة من الدولة، خطوة فسرها مراقبون على أكثر من محمل، جميعها يصب في تعبيد الطريق أمام محمد بن سلمان وصولا إلى العرش، سواء كان عن طريق الحصول على أموالهم لسد جزء من العجز المالي الذي تعاني منه المملكة قبل عدة سنوات، أو تعلق بتقليم أظافر المعارضين من فريق محمد بن نايف ومتعب بن عبدالله وغيرهم من المتحفظين على الصعود المفاجئ والسريع للأمير الشاب.
فريق يرى أن تلك الخطوة لا تعدوا كونها ورقة ضغط تصعيدية لجأ إليها ابن سلمان بهدف إجبار المحتجزين من الأمراء ورجال الأعمال الموقوفين على الرضوخ للتسويات عبر التنازل عن الحصة الأكبر من ثرواتهم لصالح الدولة، وهو ما أشارت إليه بعض المصادر سابقًا بشأن توقع جمع ما بين 50 و100 مليار دولار من اتفاقات التسوية مع المشتبه بهم المحتجزين في حملة مكافحة الفساد.
وفق إحدى التصنيفات الموثقة جاء سجن “الحائر” في المرتبة التاسعة ضمن أخطر السجون في العالم أجمع
هذا التوجه يرجع وفق خبراء إلى ارتفاع العجز في الميزانية العامة للعام الثالث على التوالي، والناجم عن تراجع عائدات النفط بسبب انخفاض أسعاره، ما دفع الحكومة السعودية، إلى إطلاق حزمة من الإجراءات التقشفية الواسعة في بعض القطاعات بهدف تقليل الإنفاق إلى حد ما، حيث اعتمدت السياسة التقشفية الجديدة على تخفيض الدعم للمحروقات والكهرباء والماء وبعض السلع الأساسية الأخرى، وربما إلغاؤه كليًا، بالإضافة إلى دراسة إمكانية فرض ضرائب على الدخل والتحويلات الخارجية بالنسبة للأجانب، وزيادة بعض الرسوم على تجديد الإقامات ورخص القيادة والخدمات البيروقراطية الرسمية الأخرى.
وكانت الإرهاصات الأولى لهذه السياسة الجديدة في أكتوبر/تشرين الأول 2016 حين أصدر مجلس الوزراء السعودي قرارًا بتخفيض مزايا موظفي الدولة، تبعها زيادة غير مسبوقة في الأسعار، تلتها بعض الإجراءات الأخرى منها طرح المملكة لمجموعة من سنداتها الدولية للبيع.
ومن ثم لم تترك السلطات السعودية بابًا يخفض من نفقاتها أو يزيد من دخولها إلا وطرقته في محاولة منها لتخفيف العجز في موازنتها المستمر طيلة السنوات الماضية حتى وصل الأمر إلى استهداف العمالة الأجنبية لديها، ومؤخرًا ابتزاز الأمراء والمسئولين وكبار رجال الدولة للحصول على حصة من رؤوس أموالهم، وذلك عبر استخدام عصا مكافحة الفساد.
مفاوضات دائمة للتوصل إلى تسوية مع الوليد بن طلال. فهل يرضخ؟
بينما يذهب فريق آخر إلى أن هناك نية مبيتة لدى ولي العهد للإطاحة بفريق محمد بن نايف، هذا الفريق الذي يرى فيه ابن سلمان تهديدًا حقيقيًا لمسيرته نحو خلافة والده، خاصة وأن عمه كان الأقرب لهذا المنصب بحكم أنه كان وليًا للعهد قبل أن يجبر على التنازل عن يوليو الماضي لصالح نجل سلمان.
الفريق الداعم لبن نايف وعلى رأسهم الوليد بن طلال لا يزال يشكل غصة في حلق ولي العهد وكابوسًا ينغص احلام الفتى الشاب الطامع في أن يصبح أصفر ملكًا في تاريخ بلاده، ومن ثم لابد من التخلص منهم، إما بصورة كاملة أو على الأقل أصحاب الصوت العالي والمتشبثين بمواقفهم المعارضة، ما لم يتراجعوا.
ومن ثم تأتي خطوة نقل المحتجزين الرافضين للتسوية إلى “الحائر”، فإما أن يرضخوا ويسيروا على درب نظرائهم ممن خضعوا مبكرًا للضغوط التي مورست عليهم أو يلقوا في هذا الجب إلى حيث لا عودة، وفي كلا الحالتين، الأمور تسير في صالح حلم الوصول إلى العرش بالنسبة لنجل سلمان.
زاوية أخرى في التعاطي مع هذه الخطوة تطرق إليها تقرير استخباراتي بريطاني كشف أن “القرار السعودي الأخير، يعد بمثابة صفعة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى كافة الضغوط الدولية، التي مورست عليه، من أجل الإفراج عن الأمير الوليد تحديدا”
التقرير الذي نشره موقع “ستراتفور” الاستخباراتي أشار إلى أن هناك ضغوط دولية من أجل الإفراج عن الوليد، موضحًا أن الرئيسين الفرنسيين السابقين، نيكولا ساركوزي، وفرانسوا هولاند، اتصلا بصورة شخصية بولي العهد، وأعربا عن قلقهم من استمرار توقيف الأمير الملياردير، غير أنه أفاد أن نقله إلى هذا السجن – الحائر – تحديدًا يعكس تحديًا سعوديًا لوجهة النظر الدولية.
هيومن رايتس ووتش: “إن حالات الضرب وغيرها من أشكال سوء المعاملة في السجون السعودية أكثر شيوعاً بكثير من تلك الحادثة المنفردة التي جرى تصويرها”
ومن الواضح أنه ليس لدى الحكومة السعودية، دافع لإبقاء الوليد محتجزا إلى أجل غير مسمى، أو حتى محاكمته بصورة رسمية، وفي ظل عدم امتلاكه نفوذا سياسيا كبيرا داخل المملكة وهو ما اتضح من رد فعل الأسرة الحاكمة على حملة التطهير التي قادها ابن سلمان، يبدو أنه – الوليد – سيكون مضطرا إلى التوصل إلى اتفاق مع السلطات، بحسب التقرير.
وخلص التقرير الاستخباراتي إلى أن “المسألة في النهاية، تتعلق بالتفاوض على السعر، الذي ينبغي عليه دفعه من أجل مغادرة سجنه الجديد” مرجحًا أن ينصاع الأمير آجلا أم عاجلا لهذه المساومة ما لم يطرأ طارئ يجبر ولي العهد على الإفراج عنه بدون مقابل، أو على الأقل القبول بتسوية سياسية، يضمن من خلالها ابن سلمان صمت الوليد والكف عن انتقاد النظام الجديد بملامحه وشخوصه، وهو ما يصعب الجزم به في ظل ما يتناقل عن الملياردير السعودي من تعنت وتمسك بموقفه حتى كتابة هذه السطور.
وهكذا يبدوا أن مسرحية الصراع بين ولي العهد، محمد بن سلمان وفريقه من جانب، وأمراء المملكة وكبار شخصياتها والتيار المناهض له داخل الأسرة المالكة من جانب آخر، لن يسدل ستارها قريبًا، وما نقل المحتجزين إلى “الحائر” إلا فصلا جديدًا من هذا العرض الذي من الواضح أنه لن ينتهي قبل أن يتمكن الأمير الشاب من العرش، ليبقى السعوديون في أماكنهم على مقاعد المتفجرين في انتظار ما ستسفر عنه هذه المعركة التراجيدية بين أبناء العم.