اجتهدت الكنيسة في العصور القديمة بالتحكم في الحياة الثقافية والإجتماعية والسياسية بأكملها في مختلف أنحاء أوروبا، وأخضعت جميع هذه المؤسسات تحت رقابة صارمة لتضع حدًا للتفكير الحر، وتحدد السلوك الصحيح -بتعريفها- لأفراد المجتمع، بالاتفاق مع سلطات أخرى مثل الرب الإقطاعي أو الأمير، ومع تقلص قوة هذه الهياكل السلطوية، نمت النزعة الفردانية تدريجيًا -في اليونان تحديدًا- كنتيجة معاكسة لتأثير كل هذه القيود الفكرية والاجتماعية، والتي مهدت إلى تحدي السلطات الحاكمة وخلق منظومة جديدة تعبر عن استقلال الفرد واعتماده على نفسه في تقرير مصيره.
ومنذ ذاك الوقت، تبنت المجتمعات الغربية هذه السياسة في علاقاتها وأفكارها، ودخلت الفردانية في دراسة علوم كثيرة مثل علم النفس والاجتماع والفلسفة، واتخذت مساحات واسعة من كتب ونظريات العلماء والفلاسفة المؤيدين لهذه النظرية والمخالفين لها، وبدأ العالم يتساءل حول طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع أو الدولة، فهل يجب أن تكون الأولوية للفرد على الدولة، أم العكس تمامًا؟
ما المقصود بالفردانية؟
باختصار، هي استناد قرارات الفرد على منفعته ومتعته الشخصية على أساس أنه مركز الاهتمام الرئيسي، أي أن مصالحه الشخصية تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين، وبمعناها فهي تناقض الجماعية السمة التي تتميز بها المجتمعات العربية إلى حدٍ كبير.
وفي القرن التاسع عشر، ظهرت الفرادنية بشكل واضح في المجتمعات الغربية، وانتشرت ابتداء من ألمانيا وإنجلترا التي تعاملت معها من منطلق اقتصادي، وأمريكا التي اعتمدت عليها مع القيم السياسية والاجتماعية السياسية مثل الديمقراطية والرأسمالية، ولا شك أن ظهور الرأسمالية أكد على أن الفرد هو صاحب المصلحة الأساسية، وهذا ما دعى إليه الفيلسوف آدم سميث بقوله إن رفاهية المجتمع تتحقق عندما يسعى كل فرد إلى تحقيق غايته دون الرجوع السلطات.
لا شك أن ظهور الرأسمالية أكد على أن الفرد هو صاحب المصلحة الأساسية، وهذا ما دعى إليه الفيلسوف آدم سميث بقوله إن رفاهية المجتمع تتحقق عندما يسعى كل فرد إلى تحقيق غايته
جدير بالذكر، أن اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر مهد بشكل كبير إلى تشكيل الفردانية، لإنها أتاحت الفرصة لنشر الأفكار، مما ثمّن من اللغة الفردانية في المجتمعات وعظم النظرة الاجتماعية للفرد وتوجهاته، وقبل هذا كله، في القرن الرابع وجد كتاب للقديس أوغاسطيس الذي كتب فيه آرائه الشخصية حول الكتاب المقدس ويعبر عن وجهة نظره فيه، واعتبر هذا أول دليل على أهمية الفردانية في الفكر المستقل والشخصي.
وجهة نظر بعض الفلاسفة من الفردانية
بدأت هذه الفكرة بالتطور مع جون لوك وبرنارد مانديفيل وديفيد هيوم، واحتلت مساحة جيدة في أعمال يوشيا تاكر وآدم فيرغسون وآدم سميث وأدموند بورك، وهذا بين نظريات رافضة لهذه المنظومة، وآراء أخرى تساند هذا التوجه.
جون لوك
اشتهر الفيلسوف والمفكر السياسي جون لوك بموقفه المعارض للسلطة، حيث رأى أن الشعب هو صاحب السيادة وله الحق في انتقاد السلطة، واصفًا إياها بإنها “عبارة عن ممارسة السلطة التي لا تستند إلى أي حقٍّ أبدا، والتي تستحيل أن تكون حقاً لشخصٍ ما، والطغيان هو استخدام السلطة من شخص لمصلحته الخاصة، لا من أجل منح الخير لعموم المحكومين، وتتجسد السلطة المطلقة حينما يجعل الحاكم إرادته قاعدةً للسلوك عوضاً عن القانون، وعندما تتجه أفعاله نحو أرضاء تطلعاته، أو شفاء غليله عوضاً عن المحافظة على مكتسبات شعبه”، ويؤكد على ضرورة سعي الإنسان إلى تحقيق مصلحته واستقلاليته عن غيره حتى تكتمل إنسانيته.
وفي هذا الشأن، يعارضه الفيلسوف توماس هوبز الذي يجد ضرورة حتمية في الخضوع لسيادة الدولة، فهو إحدة الدعاة الذين يؤمنون بأهمية وجود السلطة والقوة التي تردع الناس عن أفعال الفوضى والبطش والسلب، وإلا سينتهي الأمر بتحول المجتمعات إلى غابات يكون فيه الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، كما يرى البعض أن موقف هوبز من السلطة لا يتنافى مع الفردانية، فهذه السيادة موجودة من أجل المنفعة الفردية وضمان لآمان المجتمع والمساواة بين حقوق أفراده.
برنارد مانديفيل
وفقًا لنظريته “اسطورة النحل” فإنه يصور الجماعة بمجموعة من النحل التي تعمل وتزدهر حياتها وتتطور حتى تصبح مبنية على القيم الفاضلة، لكن مع وجود الحوافز والأهداف الشخصية يمكن أن يزيد تقدم هذه “الخلية”، أي أن انعدام الرغبات الشخصية أو “الرذائل الخاصة” كما يصفها لن تفيد المنافع العامة، ولن يساعد في تطوير المجتمعات ونقلها إلى مراحل متقدمة.
توماس جيفرسون
أقر ثاني رؤساء الولايات المتحدة في الدستور الأمريكي بأهمية الفردانية في المجتمع الأمركي، والقائل بأن “الناس ولدوا جميعًا متساوين في حقهم بالحياة والحرية والبحث عن السعادة.. والفردانية هي السمة المثلى للإنسانية لأن كل إنسان ولد حرًا، وبمقدار ما يفقد الإنسان جزءًا من هذه الفرادة يفقد – بالضرورة – جزءًا من إنسانيته في هذا الوجود، إذ تدين الفردانية بالفضل للحقيقة القائلة: “من الأفضل أن يكون الناس أحرارًا لتنمية مواهبهم وميولهم الفردية”.
ومن خلال هذا المبدأ، رُسخ مفهوم الفردانية في المجتمعات الأمريكية، معتمدة على مبدأ الإيمان بالقدارات الشخصية غير المحدودة ودورها في صناعة النجاح الشخصي.
كتاب “مأزق الفرد في الشرق الأوسط”
لمعرفة مدى وجود هذه النزعة في المجتمعات العربية، لا بد من الحديث عن هذا الكتاب من تأليف حازم صاغية، معلق صحفي وكاتب سياسي، والذي يشرح وضع الفرد في المنطقة العربية ويرى أن المنطقة العربية ما زالت لم تحقق فردانيتها، بل إنها تابعة للجماعة بمختلف أشكالها -الدين والعائلة والمجتمع والقبيلة والحزب- وأن هذه المجموعات لها الحق الكامل في التدخل في حياته ومعارضته إذا كانت خياراته تخالف المعتقدات والأعراف الاجتماعية.
ويتساءل الكاتب عن إمكانية تحقيق الديمقراطية في ظل غياب الفردانية، خاصة في الزمن التي تلعب فيه الحرية الفردية دورًا كبيرًا في تنمية المجتمعات اقتصاديًا، وكأنها شرطًا للتقدم الاقتصادي المرهون بالخروج عن المألوف وطرح أفكار جديدة ومبتكرة.
يعتبر الكاتب أن غياب الفردانية في البلدان العربية، ساعد على تأخر مشروع الحداثة، بسبب خضوع المواطن العربي للكثير من القوانين الاجتماعية والسياسية التي تقيده وتحد من رغباته الشخصية
ويعطي صاغية مثال تاريخي عن وجود الفردانية في الثقافة العربية وذلك من خلال شعراء الصعاليك، وهم من كانت آراؤهم مرفوضة في قبائلهم وكان عليهم أن يهاجروا من بلادهم لإنهم مخالفين للجماعة ولتقاليدها الثقافية، ويعتبر الكاتب أن غياب الفردانية في البلدان العربية، ساعد على تأخر مشروع الحداثة، بسبب خضوع المواطن العربي للكثير من القوانين الاجتماعية والسياسية التي تقيده وتحد من رغباته الشخصية، وكأنه جسمًا غريبًا عن المجتمع العربي.
وبطبيعة الحال، تظل هذه الفكرة جدلية، منذ وجودها وحتى في العصر الحديث، ولا يمكن الجزم بضروريتها أو بدورها في ازدهار أو تخلف بعض المجتمعات الأخرى، ولاسيما أن مجتمعات متقدمة مثل كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة هي بلدان جماعية لا تعتمد على الفردانية في نظام حياتها.