يسمّوه “الماس الأسود”، لما يدره من مال وفير على من ينزل في أرضه، أو “بنت الرعد” لعدم نموه في الأرض إلا بوجود المطر الراعد، أو “الچمة” كما يجب أن يطلق عليه أهل بلاد الرافدين، أو “الترفاس” كما في شمال إفريقيا، أو “العبلاج” كما يسمى في بلاد السمر السودان، أو “الفقع” في جزيرة العرب، تعددت الأسماء والكمأ هو المقصود.
فطر الكمأ في الأسواق الخليجية
يعتبر فطر الكمأ اسمًا لعائلة من الفطريات تسمى الترفزية (باللاتينية: Terfeziaceae) وهو فطر يظهر بشكل طبيعي موسمي (من ديسمر وحتى نهاية مارس)، ينمو في الصحراء بعد سقوط الأمطار الرعدية بعمق من 5 إلى 15 سنتيمترًا تحت الأرض.
يستخدم كطعام منذ القدم، فقد ذكر اسمه في أقدم كتاب طبخ في العالم (الكتاب الذي يحتوي على أقدم وصفات الطعام)، حيث ذكر ضمن أصناف الطعام المكتوبة على لوح طيني من الألواح البابلية والمنقوش بلغة الأكادية، ويعود تاريخ هذا اللوح إلى العام 1750 قبل الميلاد، أي في عصر الملك حمورابي صاحب المسلة الشهيرة.
إلى يومنا هذا يعتبر فطر الكمأ من أكثر العناصر الغذائية التي يحاول كل طباخ الحصول عليها لوضعها ضمن قائمة طعامه، فالكمأ وخاصة الأنواع الجيدة منه يضفي نكهة مميزة لأغلب الأطباق التي يضاف إليها.
ولأن الكمأ فطر بري لا يمكن زراعته، أصبح الحصول عليه صعبًا في ظل تزايد الطلب ومحدودية الإنتاج؛ مما رفع سعره بشكل كبير وجعل عملية جمعه وتسويقه عملية اقتصادية تدر أموالاً كثيرة، فقد بلغت إيراداته في إيطاليا نحو 400 مليون يورو، فيوجد في إيطاليا أكثر من 25 نوعًا أشهرهم وأغلاهم ثمنًا الكمأ الأبيض الإيطالي، وفي فرنسا أيضًا تبلغ العائدات 80 مليون يورو في السنة الواحدة!
الكمأ الأبيض الإيطالي الفاخر في مزاد عالمي
الأمر الذي جعل البلاد التي يظهر بها نبات الكمأ، تحاول الاستفادة منه كمورد اقتصادي، وتعتبر الجزائر أبرز الدول العربية المنتجة والمصدرة له وتصدره بشكل أساسي لدول الخليج العربي وبعض الدول الأوروبية، كما يظهر الكمأ في صحراء العراق والسعودية وعمان والسودان وليبيا وغالبًا لا يتم تصديره ولكن يسوق بشكل داخلي لندرته وحاجة السوق الداخلية له.
ذكر الكمأ في أكثر من حديث نبوي لعل أبرزهم ما رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين”، وتحتوي حبة الكمأ على فيتامين أ وفيتامين ب1 وفيتامين ب2 وفيتامين ب6 وفيتامين ب12، وهي فيتامينات مهمة لجسم الإنسان، كما يحتوي على نسبة من الكربوهيدرات والبروتينات ونسبة من الألياف والسعرات الحرارية، ويحتوي أيضًا على الفسفور والكالسيوم.
تختلف ألون الكمأ، فيوجد منه الأبيض والأسود والأحمر، كما أن أحجامه مختلفة، فمنه الكبير الذي يتجاوز الكيلوغرام والمتوسط والصغير جدًا، وأنواعه عديدة قد تصل للعشرات، منه الزبيدي وهو الأشهر عربيًا ويكون غالبًا كبير الحجم، كما توجد أنواع نادرة مثل الكمأ الأبيض الإيطالي ويصل لأسعار مبالغ بها كما حدث عام 2016 حيث بيعت أكبر حبة كمأ إيطالية بيضاء تزن 1170 غرامًا، أي أكثر من كيلوغرام واحد، في هونغ كونغ، للطباخ الصيني تشن شيانغ دونغ بقيمة تبلغ نحو 117 ألف دولار!
كيف يطبخ الكمأ؟
لا يمكن حصر الأطباق التي يمكن إنتاجها أو استخدام حبات الكمأ فيها، حيث يؤكل نيئًا أو مطبوخًا ويستخدم في كل الأكلات بديلاً للفطر الاعتيادي لكن بنكهة مميزة، كما يقدم نيئًا دون طبخ كشرائح رقيقة فوق بعض الأطباق الأوروبية والآسيوية الفاخرة، بينما في منطقتنا العربية وخاصة في الخليج يقدم مع الأرز واللحم وغالبًا يطبخ بعد تنظيفه الجيد من عوالق الرمال التي يستخرج منها ويتم سلقه بالماء ولا يتبل فقط يضاف له القليل من الماء.
كبسة اللحم مع “الفقع” من المطبخ الخليجي
في أغلب المدن العراقية يطبخ فطر الكمأ سلقًا بالماء ويقدم بشكل أساسي مع البرغل ولحم الخروف “القوزي”، ويعتبر هذا الطبق قمة هرم الأطباق الفاخرة ويقدم للضيوف الأعزاء، وأيضًا يضاف لبعض الأكلات المشهورة مثل الدولمة لتكون إضافة مميزة للطبق أو يطبخ كطاجن مع البصل وقطع اللحم أو كفطيرة بيض وكمأ.
ويمكن حفظ الكمأ بعد موسمه بالتجميد، حيث ينظف ثم يسلق بشكل نصفي ثم يجمد، ويتم استخراجه وإكمال الطبخ عند الحاجة، أو يتم تنظيفه وتقطيعه لشرائح وييبس تحت الشمس ثم يستخدم عند الحاجة بعد غمره بالماء في غير موسمه للمحافظة على قدر كبير من النكهة والطعم الطازج.
كما يقدم في بلاد المغرب العربي مع الكسكسي أو مع الطاجن المغربي ليكون الطبق مميزًا بحبات الكمأ الواردة غالبًا من مدن جنوب الدول المغاربية (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب) المتمتعة بالصحراء الممتدة التي تعتبر مزارع طبيعية للكمأ.
صيد الكمأ
تعتبر عملية جمع الكمأ من الصحراء أشبه برحلة الصيد أو التخييم في البر، حيث تعتبر الساعات الأولى من النهار مع بزوغ الفجر أفضل الأوقات لجمعه، فيوجد الكمأ على شكل ارتفاع بسيط في التربة غالبًا ينتج عنه شبه تشقق للأرض ويتم الحفر باليد لتجنب كسر أو ثقب الفطر الموجود على بعد بسيط لا يتجاوز 5 سنتيمترات من سطح التربة.
جمع الكمأ من الصحراء العراقية
بينما يحتاج استخراج الكمأ الأسود والأبيض الأوروبي لعملية بحث بالكلاب وفي مناطق وجود أشجار البلوط التي يكثر بالقرب من جذورها حبات الكمأ.
زراعة الكمأ
لعل أبرز ما يميز نبات الكمأ أو فطر الكمأ هو عجز الإنسان عن زراعته وترويضه ليكون نباتًا إنتاجيًا يمكن زراعته ليشكل صناعة، لكن هذا لم يمنع عدد من الدول من تجربة زراعة الكمأ، كما فعلت قطر في عام 2017، حيث تم إنشاء مزرعة لأشجار البلوط الملقحة بالكمأ.
الإنتاج يتوقع أن يتم خلال 4 سنوات من زراعة تلك الأشجار، وهذا ما قد يجعل الأمر موردًا اقتصاديًا للبلد المنتج لهذا النوع الفاخر من الكمأ، حيث يصل سعر الكيلوغرام الواحد لـ6000 يورو في بعض المواسم، وهذا الأمر إذا نجح قد نشهد هبوط أسعاره ليكون في متناول الجميع، وهذا أمر مفرح لأن طعمه يستحق أن يتذوقه الجميع فعلاً، فهو غني بالطعم والفائدة.