“لاحظت خلال الأيام الأخيرة شائعات عن رغيف العيش (الخبز) وأنه هيغلى (يرتفع)، لا طبعًا، الرغيف كان بيتكلف قبل الإجراءات الاقتصادية الماضية 35-40 قرشًا، لكن دلوقت بيتكلف 55-60 قرشًا، لم يُمس ولن يُمس.. لم يُمس ولن يُمس”.. بهذا التوكيد اللفظي تعهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام الشعب المصري في 2016 بعدم المساس بسعر رغيف الخبز المدعم.
اليوم وبعد 8 سنوات تقريبًا على ذاك التعهد، قررت الحكومة المصرية، الأربعاء 29 مايو/أيار الحاليّ، على لسان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، رفع سعر رغيف الخبز المدعم من 5 إلى 20 قرشًا بنسبة 300%، اعتبارًا من حزيران/يونيو المقبل، في خطوة هي الأولى منذ عام 1988.
ويمثل رغيف الخبز للمصريين شريان غذائهم الأول والأخير، وهو الخط الأحمر الذي حافظت كل الحكومات المتعاقبة على حكم مصر طيلة أكثر من 50 عامًا على عدم تجاوزه، والمرة الوحيدة الذي فكرت فيه الحكومة خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات الاقتراب من هذا الخط، شهدت البلاد انتفاضة عارمة عُرفت باسم “انتفاضة الخبز” 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، ما دفع الرئيس حينها للتراجع عن هذا القرار.
رئيس الحكومة المصرية برر هذا القرار الصادم لأكثر من 70 مليون مصري يعتمدون على رغيف الخبز في نظامهم الغذائي اليومي، بأن هناك توجه حكومي رسمي بتقليص الفجوة بين كلفة إنتاج الخبز وبيعه للمواطنين، ويأتي هذا القرار في سياق الحديث عن نية الدولة في تحريك أسعار العديد من السلع الأساسية التي لا يستغنى عنها المصريون، وعلى رأسها الكهرباء والغاز والوقود بجانب “العيش”.
نحاول في هذا التقرير الإجابة عن 5 تساؤلات رئيسية فرضت نفسها على الشارع المصري بعد دقائق قليلة من الإعلان الرسمي عن زيادة سعر الخبز، في وقت كان البعض يؤمل نفسه بحزمة اجتماعية جديدة تخفف عن الشعب المطحون ضغوطات الحياة المعيشية الناجمة عن السياسات النقدية والاقتصادية الخاطئة، وعلى رأسها التضخم وارتفاع الأسعار الجنوني وانهيار قيمة العملة المحلية (الجنيه)، إذ بالمفاجأة الصادمة التي تقترب من خط المصريين الأحمر.
ماذا يعني العيش للمصريين؟
“رغيف العيش بالنسبة للشعب المصري بيمثل أهمية كبيرة وفريدة من نوعها دونًا عن بقية دول العالم، إحنا شعب يحب ياكل عيش، ياكله حاف، يحط علبة كشري في رغيف، يفتو في الشاي، ولو ملقاش حاجة يعضعض في أي لقمة كده، إحنا شعب يحب يعضعض، ولو المواطن معضعضش، هيعضعض في الحكومة، وهيعضعض في الدولة كلها، إحنا بنعتبر رغيف العيش مسألة أمن قومي للبلد، حتى في مثل بيقول: عض قلبي ولا تعض رغيفي”.. لخص الفنان المصري عادل إمام بهذه الكلمات التي جاءت في مسلسله الدرامي “العرّاف” المنتج عام 2013، أهمية الخبز بالنسبة للشعب المصري، وأنه مسألة حيوية لا يمكن الاقتراب منها مهما كانت المبررات.
بحسب الأرقام الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) فإن المصريين يحصلون على ثلث سعراتهم الحرارية اليومية من الخبز، بجانب قرابة 45% من المنتجات التي يدخل فيها محصول القمح، هذا في ظل الارتفاع الجنوني لمصادر التغذية الأخرى التي لم تعد في متناول معظم الشعب المصري.
لو أخذنا بعين الاعتبار الإحصائيات التي تشير إلى وجود 30% من المصريين (32 مليون مواطن) تحت خط الفقر المحلي المقدر بدولار واحد يوميًا، أو 60% (64 مليون مواطن) كما في المعدل العالمي (دولارين يوميًا)، فإن العيش هو مصدر الغذاء الأكبر والأهم في حياة ثلثي الشعب المصري.
وفي بيان للبنك الدولي عام 2010، قال إن منظومة الخبز المدعم في مصر حافظت على عدم هبوط ما يقرب من 90% من سكان الدولة إلى ما دون خط الفقر، خاصة بعد أزمة الغذاء التي ضربت العالم في 2008.
وظلت منظومة التموين ودعم الخبز هي المكتسب الأبرز وربما الوحيد منذ سبعينيات القرن الماضي، التي حافظت عليه كل الحكومات المتعاقبة، متجنبة الاقتراب من هذا الملف الشائك، لما قد يترتب عليه من كوارث اجتماعية، فهو حائط الصد الوحيد أمام الشعب في مواجهة غول الأسعار.
وبفضل تلك المنظومة حافظت مصر على معادلة التوازن الاجتماعي والحياتي، فقد تكون هناك نسب فقر متزايدة لكن لم تتعرض البلد للجوع، بفضل استمرارية ضخ الخبز المصدر الأساسي للغذاء لأغلب المصريين، الذي أصبح لا غنى عنه في ظل القفزات الجنونية في معدلات التضخم التي زجت بالملايين إلى مستنقع الفقر، لكنهم حتى اليوم لم ينزلقوا بعد إلى مستنقع الجوع.
هل مبررات رفع الأسعار حقيقية؟
الكلمة التي قالها رئيس الحكومة، لإعلان قرار رفع سعر الخبز واستعرض فيها مبررات تلك الخطوة، تضمنت 3 أخطاء رئيسية استعرضتها صفحة “صحيح مصر” المتخصصة في تصحيح المعلومات والتصريحات الخاطئة الصادرة عن المسؤولين.
الخطأ الأول: ما قاله مدبولي بإنه لم يتم تحريك سعر الخبز المدعم منذ أكثر من 30 عامًا، وهو التصريح الذي وصفه الموقع بـ”المضلل” فإن لم يرتفع سعر الخبز بشكل رقمي لكن قيمته تراجعت من خلال إنقاص وزنه تدريجيًا، حيث انخفض وزن الرغيف البلدي المدعم من 150 جرامًا إلى 130 جرامًا ثم بدأ وزنه في التناقص ليصبح الآن 90 جرامًا، ما يعني أن كلفة الرغيف تراجعت بنسبة 60%.
الخطأ الثاني: الإشارة إلى أن رغيف الخبز يكلف الدولة جنيهًا وربع، إذ بلغت تكلفة رغيف الخبز في موازنة العام المالي الحاليّ 2023/2024 أقل من جنيه واحد، بحسب البيان المالي للموازنة العامة للدولة 2023/2024، ولم تبلغ جنيهًا وربع كما ادعى مدبولي.
الخطأ الثالث: الحديث عن تجاوز دعم الدولة للخبز حاجز الـ120 مليار جنيه، إذ بلغ دعم رغيف الخبز في موازنة العام المالي الحاليّ نحو 91.5 مليار جنيه فقط، بحسب البيان المالي للموازنة العامة للدولة 2023/2024، تراجعت إلى نحو 90.7 مليار جنيه في مشروع موازنة العام المالي المقبل 2024/2025.
– يستحوذ بند دعم الخبز في مصر قرابة 2.1% فقط من إجمالي الموازنة العامة المصرية، حيث بلغ في موازنة العام الحالي نحو 91.6 مليار جنيه من إجمالي 4.3 تريليون جنيه، كما يستحوذ على قرابة 8.7% من إجمالي حجم بند الاستثمارات الإجمالي الذي يبلغ قرابة 1.1 تريليون جنيه، منها 587 مليار جنيه استثمارات مُدرجة داخل الموازنة العامة، و463 مليار جنيه استثمارات خارج الموازنة العامة.
– الزيادات في حجم دعم الخبز جاءت بسبب السياسات الاقتصادية والنقدية التي اتخذتها الدولة في 2016 حين حُرر سعر صرف الجنيه المصري، استجابة لشروط صندوق النقد الدولي، وعليه وفي الأعوام 2014/2015، و2015/2016 كان الحد الأقصى للزيادة في هذا البند لا تتجاوز 25%، مقارنة بعامي 2016/2017، و2017/2018 إذ وصلت نحو 53.7%.
– استحدثت الدولة نظامًا جديدًا لتصفية عدد المستفيدين من الخبز المدعم، من خلال عدة معايير (من يزيد استهلاكهم للكهرباء أكثر من 1000 كيلو وات شهريًا، ولمن يلحق أبناءه بمدارس تبلغ مصاريفها السنوية 30 ألف جنيه فأكثر، ومن يمتلك سيارة فاخرة وموديل 2014 فأكثر، وحيازة زراعية لأكثر من 10 أفدنة، ومن يسدد ضرائب تقدر بـ100 ألف جنيه فأكثر، ما أدى في النهاية إلى حذف 20 مليون فرد من قائمة المستفيدين، لينخفض العدد من 82.2 مليون فرد عام 2014/2015 إلى 62.2 مليون فرد في موازنة العام الحالي.
– المثير للتناقض هنا أنه في الوقت الذي يستحوذ فيه دعم الخبز على 2.1% من موازنة الدولة، تلتهم فوائد الديون قرابة 25.7% من إجمالي الموازنة، وذلك بعد الزيادات الجنونية في نسبة الفوائد من 40% في 2012/2013، إلى 53.7% في 2017/2018 بسبب سياسة الاقتراض التي لا تتوقف على مدار السنوات الـ10 الماضية التي أوصلت الدين الخارجي المصري إلى 168 مليار دولار.
هل التوقيت مناسب؟
يأتي هذا القرار في سياق زمني وحدثي مثير للجدل، الأمر الذي دفع الكثيرين للتساؤل عما إذا كان هذا هو التوقيت المناسب فعليًا للإقدام على تلك الخطوة أم لا.
أولًا: حالة التوتر على الحدود المصرية الفلسطينية، واستشهاد مجندين مصريين إثر استهداف مباشر من قوات الاحتلال، الأمر الذي أثار الغضب الشعبي، لا سيما في غياب الرد المصري السريع على تلك الجريمة المتكررة أكثر من مرة منذ بداية حرب غزة.. فهل كان الهدف من رفع أسعار الخبز إلهاء المواطنين عما حدث هناك في رفح استنادًا لسياسة “بص للعصفورة” التي يلجأ إليها النظام بين الحين والآخر مع كل أزمة يتعرض لها؟ هكذا يتساءل البعض.
ثانيًا: تزامن هذا القرار مع استضافة مصر لوفد صندوق النقد الدولي القادم من أجل مراجعة مدى التزام الحكومة بالبرنامج الاقتصادي المقدم، الذي على رأس أولوياته تقليل دعم مشتقات الوقود كالبنزين والغاز والسولار (كخطوة أولى نحو التصفير) وتحريك أسعار جميع السلع والخدمات، بجانب تحرير سوق الصرف ودفع الحكومة للتخارج من القطاع العام ومنح القطاع الخاص الفرصة كاملة.. فهل جاء قرار رفع سعر الخبز لتقديم الدولة أوراق الاعتماد لدى الصندوق الدولي لتمرير الأقساط المتبقية من القرض البالغ قيمته 8 مليارات دولار؟ وهل تضحي الحكومة بأكثر من ثلث سعرات المصريين الحرارية وتعرض غالبيتهم للجوع إرضاءً للصندوق ورضوخًا لشروطه من أجل القرض؟
ألم يكن هناك من بديل غير عيش المصريين؟
دومًا ما يتحمل المواطن لا سيما محدود الدخل فاتورة الفشل في السياسات الاقتصادية والنقدية، أو حتى بمسماها التجميلي “الإصلاح”، ليتحول – كما يقول المصريون – إلى “الحيطة المائلة” للحكومة لحلب مدخراته وتفريغ جيوبه لسد العجز الناجم عن الإدارة الخاطئة للملفات الاقتصادية والمعيشية.
وكان أمام الدولة عشرات الحلول الأخرى التي يمكن من خلالها تعويض هذا الفارق بين كلفة إنتاج الخبز وبيعه للمواطن، كما تقول الحكومة (إجمالى دعم الخبز لا يتخطى 5% من الإيرادات الضريبية في مصر واللي متوقع توصل لـ2.02 ترليون في السنة المالية القادمة) بدلًا من القفز على المصدر الرئيسي – وربما الوحيد – لغذاء غالبية المصريين في تلك السنوات العجاف التي يعيشونها.. ومن الأمثلة التي ساقها المصريون وكان يمكنها سد هذا الفارق الذي تزعمه الدولة:
– كلفة البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة تجاوزت 3 مليارات دولار (114 مليار جنيه) أي أكثر من مخصصات دعم منظومة الخبز في الموازنة بـ13.3 مليار جنيه.
– كلفة مشروع القطار الكهربائي المعلق “المونوريل” تتجاوز 30 مليون دولار (1.4 مليار جنيه) لكل كيلو متر بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة النقل، أي أن كلفة الكيلو متر الواحد من هذا المونوريل تكفي 772 مواطنًا مصريًا خبزًا على مدار العام كله (5 أرغفة في اليوم للفرد، الرغيف يساوي جنيه حسب كلام الحكومة، أي أن الفرد في اليوم يحتاج 5 جنيهات، أي 1825 في العام، وبقسمة الـ1.4 مليار دولار كلفة الكيلو متر الواحد في المونوريل على نصيب الفرد سنويًا من دعم الخبز، فإن الرقم يكفي 772 مواطنًا سنويًا)
– كلفة مشروعات الطرق والكباري خلال السنوات الـ10 الماضية بلغت 530 مليار جنيه، بما يساوي 53 مليار جنيه سنويًا، أي تقريبًا أكثر من نصف الميزانية المخصصة لدعم الخبز، بل وصل الأمر في بعض السنوات كعام 2018 أن وصل دعم الخبز إلى 80% من حجم الموازنة المخصصة للطرق والكباري.
– تبلغ كلفة بناء مسجد مصر الكبير 800 مليون جنيه وهي تكفي لتوفير الخبز لـ438 ألف مواطن مصري لمدة عام كامل، فيما تكفي ميزانية بناء مسجد الفتاح العليم في العاصمة الإدارية الجديدة والبالغة 400 مليون جنيه لتوفير الخبز لـ219 ألف مواطن مصري لنفس المدة.
وهنا يتساءل المواطن: أليس من باب أولى تعويض هذا العجز من خلال المشروعات سالفة الذكر كالطرق والكباري والمونوريل والمشروعات الأخرى، كأكبر مسجد وأكبر كنيسة وأطول سارية وأعلى برج.. إلخ، وهي المشروعات التي وإن كانت مهمة لكنها ليست ضرورية في الوقت الراهن في ميزان فقه الأولويات.
وتماشيًا مع التساؤلات التي فرضت نفسها على الساحة خلال الساعات الماضية تعقيبًا على قرار رفع سعر الخبز المدعم، هناك تساؤل آخر ربما يكون أكثر إلحاحًا: أين ذهبت أموال صفقة بيع مدينة “رأس الحكمة” للإمارات والبالغ قيمتها 35 مليار دولار، وغيرها من صفقات بيع الشركات الكبرى للصناديق السيادية والمستثمرين الخليجيين؟ لماذا لم يستقطع منها جزء لضمان استمرارية دعم منظومة الخبز التي يعتمد عليها غالبية الشعب المصري؟
وبعد التغول على الخدمات الرئيسية التي لا يستغنى عنها المواطنون، كالكهرباء والمياه والاتصالات والدواء والتعليم والسكن، والتي شهدت ارتفاعات جنونية أثقلت كاهل الملايين من محدودي ومتوسطي الدخل، هاهو الشعب المكلوم يتلقى ضربة موجعة جديدة، لكنها هذه المرة في مقتل، حيث مصدر الغذاء الرئيسي، ليبقى السؤال: ماذا يأكل المواطن إن لم يجد العيش وهو أرخص سلعة من الممكن أن يحصل عليها؟ هل يستيقظ الجميع فجأة على سيناريو مشابه لما حدث في 1977؟ وماذا إن عضّت الدولة قلب مواطنيها بعضّ رغيفهم؟