نستحضر هذه السيرة لرفح التاريخية، والمدينة التي تبلّل رملها بدماء الأطفال، تشهد أكبر حالة نزوح من سائر مناطق قطاع غزة إليها، منذ بداية الحرب الوحشية التي يشنها جيش الاحتلال للشهر الثامن بلا انقطاع، ارتكب خلالها أزيد من 3100 مجزرة، كان من آخرها محرقة خيام النازحين التي استهدفها سلاح الجو الإسرائيلي مساء يوم الأحد 26 مايو/أيار الجاري، مخلفًا عشرات الشهداء والجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، ولا يزال شريان الدم، في رفح خصوصًا والقطاع عمومًا، مفتوحًا ينزف حتى اللحظة.
إن أكثر ما صارت تحيلنا إليه رفح في العقود الأخيرة هو معبرها، لا سيما مع الحصار الإسرائيلي المضروب على غزة وأهلها منذ أكثر من عقد ونصف العقد. إذ غدا معبر رفح إلى الجوار المصري بمثابة بوابة خلاص تارةً، وأداة عقاب للغزيين تارةً أخرى، لناحية ما صار يشترطه ذلك المنفذ الحدودي على حركة خروج ودخول أهالي غزة في السنوات الأخيرة. وهذا ما يجعلنا نستدعي رفح الموضع والموقع، وحكاية تحوّل حدّها البوابي الطبيعي إلى حدود مشروطة استعماريًا.
رفح في الاسم والموقع
تقع رفح على بُعد 38 كيلومترًا جنوبي غزة المدينة، كما تبعد 13 كيلومترًا عن خان يونس، ومسافة 45 كيلومترًا عن العريش المصرية في الجنوب منها، بينما لا تبعد عن مدينة الشيخ زويد في سيناء أكثر من 16 كيلومترًا.
ترتفع رفح 48 مترًا عن سطح البحر، ومحاطة من جميع جهاتها بسوائف من الرمل، حيث ظلت تتمدد إليها الكثبان الرملية على مدار تاريخها، إلى أن غطت كثبان الرمل الزاحف معظم آثار ومعالم رفح القديمة.
تقدَّر مساحة أراضي رفح بنحو 40 ألف دونم، تحيط بأراضيها تاريخيًا أراضي خان يونس وسيناء وبئر السبع، ورغم آفة الكثبان الرملية الزاحفة، إلا أن أهلها تعوّدوا غرسها بالنخيل والعنب والحبوب، خصوصًا الشعير الذي كان مضرب مثل في تخميره وصناعة الجِعَة منه.
تقوم رفح على أنقاض مدينة رفح القديمة التي يعود تاريخ إنشائها إلى 5 آلاف عام، وقد أُطلق عليها تاريخيًا أسماء مختلفة، فالفراعنة المصريون سمّوها “روبيهو”، بينما الآشوريون أطلقوا عليها اسم “رفيحو”، أما اليونان والرومان فقد عرفوها باسم “رافيا”، والعرب هم من أطلقوا عليها تسميتها الباقية إلى يومها هذا “رفح”.
وينسب الشيخ عثمان الطباع، صاحب كتاب “إتحاف الأعزة في تاريخ غزة”، تسمية رفح إلى “رفح” أحد أولاد إفرايم بن يوسف النبي. فقد كانت رفح على مدار تاريخها العربي الإسلامي مدينة عامرة فيها سوق وجامع ومنبر وخانات (فنادق)، ومعظم أهلها عند الفتح العربي أواسط القرن السابع للميلاد كانوا من قبائل لخم وجذام العربية.
عمدان الحد
“أما بعد فإن أدركك كتابي هذا وأنت لم تدخل مصر فارجع عنها، وأما إذا أدركك وقد دخلتها أو شيئًا من أرضها، فامضِ واعلم أني ممدك…”، كان هذا كتاب بعث به الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص في سنة 18هـ/639م، حيث كان هذا الأخير في رفح حينها وعلى وشك مغادرتها بعد فتح ساحل فلسطين.
وممّا يروى أن عمرو بن العاص بعد أن قرأ كتاب الخليفة عمر التفت إلى من حوله وسأل: “أين نحن يا قوم؟ فقالوا: في العريش، فقال: وهل هي من أرض مصر أم الشام؟ فأجابوا: إنها من مصر وقد مررنا بعمدان رفح أمس مساء”.
كانت رفح تعرف بعمودَيها الشهيرَين اللذين أشارت إليهما أمّهات الكتب العربية الإسلامية ودفاتر الرحالة والحجاج على مدار التاريخ، وذلك بوصفهما حدًّا متعارفًا عليه يفصل البرَّين عن بعضهما، برّ الشام عن برّ مصر، كما كان العمودان علامة حدودية طبيعية تحدّ ما بين القارتَين الآسيوية عن الأفريقية، وحدًّا مناخيًا ما بين مناخ البحر المتوسط ومناخ الصحراء الجافة، حيث يتمدد ما يعرَف برمل الجفار.
كما عُرفت رفح بذاكرة الغزيين وعموم أهالي جنوب فلسطين بوصفها “أول الرمل” أو “باب صحراء التيه”، نسبة إلى صحراء سيناء التي تاه فيها بنو إسرائيل 40 عامًا.
يذكر أن عمودَي الحد بين الشام ومصر في رفح قد زُرعا في موقع كان يُسمّى “الشجرتين”، حيث كانت شجرتا جميز هما الحد الأساس الذي يفصل البرَّين، وممّا يذكره المؤرخ الإسلامي اليعقوبي في كتابه البلدان: “ومن خرج من فلسطين مغربًا يريد مصر خرج من الرملة، إلى مدينة غزة، ثم إلى رفح، وهي آخر أعمال الشام، ثم إلى موضع يقال له الشجرتين وهي أول حد مصر، ثم إلى العريش…”، ما يعني أن عمودَي الحد في رفح قد أُقيما على حد طبيعي قائم تمثل في شجرتَي الجمّيز.
كانت تلك الأعمدة بحسب الروايات عبارة عن مسلّات فرعونية، وُضعت كحدّ للأراضي المصرية الفرعونية، وممّا ذكره الرحالة شوماخر الذي مرَّ من رفح في سنة 1886 عن الأعمدة أنها رخامية، اثنان منها منتصبان، وارتفاع كل واحد منهما 13 قدمًا بقطر 16 بوصة، ويمثلان الحدود بين مصر والشام.
بينما نعوم شقير، وهو من أصل لبناني عمل في قسم هندسة المساحة التابع للجيش البريطاني في مصر، وزار رفح غير مرة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ضمن تكليفه مهمة ترسيم حدود سيناء، أشار في كتابه “تاريخ سيناء والعرب” إلى عمودَي الحدود في رفح المصنوعَين من الغرانيت الأسمر، أحدهما وجهته إلى الشام والثاني وجهته إلى مصر، وقد نقش الخديوي إسماعيل حين زار رفح سنة 1898 اسمه وتاريخ زيارته على العمود الذي كانت وجهته إلى جهة مصر.
من الحد إلى الحدود
في سنة 1906، ولما أرغم البريطانيون الذين احتلوا مصر العثمانيين على قبول ترسيم الحدود بين مصر والشام، اعتمد البريطانيون العمودَين خطًّا حدوديًا. وكان شقير شاهدًا على ذلك الإرغام والترسيم، وممّا يذكره أن الجنود الأتراك قاموا بإزالة العمودَين من مكانهما وطمروهما في الرمال بعد أن حطموا أحدهما تحطيمًا كاملًا، وذلك احتجاجًا على البريطانيين وفكرة فصل برّ الشام عن مصر.
كان عام 1906 عامًا فاصلًا في ذاكرة رفح التاريخية والحضارية، وذلك لسببَين: الأول هو في تحويل الحد الطبيعي التاريخي إلى حدود سياسية فصلت الشام عن مصر، فعمودا الحدّ لم يكونا حدودًا تفصل البلدَين بالنسبة إلى أهالي رفح، بقدر ما أنهما مثّلا حدًّا يوصل ديار الشام بمصر وديارها.
ومن هنا يمكننا فهم احتجاج العثمانيين والجنود الأتراك الذين بادروا إلى إزالة العمودَين وتحطيمهما، بعد أن تحولا من حدٍّ إلى حدود سياسية قطعت أوصال البرَّين تقطيعًا استعماريًّا، فقد أُزيل الحد وحلت مكانه الحدود، وإلى ذلك العام وتلك الحادثة تعود مع سردية رفح الغزية ومعبرها مع البر المصري وسيناء، فأكثر ما تحيلنا إليه رفح عند ذكرها في العقود الأخيرة هو الحدود والمعبر.
أما السبب الثاني متصل ليس بما ترتب من سياسة فصل بين البرَّين الشامي والمصري مع إقامة الحدود فحسب، إنما ما مثّلته عملية صناعة الحدود من تأسيس لفكرة فصل وتقطيع أوصال رفح نفسها إلى نصفَين: رفح الفلسطينية ورفح المصرية، وقد أشار الشيخ الطباع الذي عايش تلك المرحلة وذلك التحول في كتابه، إلى ما ترتب عنه شق رفح إلى نصفَين من تحولات وسياسات.
فيقول الطباع: “ثم انقسمت إلى قسمين: قسم منها تابع لبلاد فلسطين، والقسم الثاني لبلاد مصر، وفي كل منها سكان ومنازل. وذلك بعد أن كان صدر الأمر السلطاني ببناء قلعة فيها، ونقلت حجارة القلعة إلى رفح من خان يونس، كما صار فيها دور وسكان من أهالي خان يونس ومن عرب البادية”.
الرمل المدمّى
حاول الصهاينة استيطان رفح منذ مراحل مبكرة في مطلع القرن العشرين، وذلك قبل أن تغزو القوات البريطانية وتحتل البلاد في الحرب العالمية الأولى. ويشير نعوم شقير إلى نشاط الحركة الصهيونية ومساعيها لشراء أراضٍ في رفح، غير أن تلك المساعي بائت بالفشل في حينه لرفض أهالي رفح بيع أراضيهم، وحتى من حاول من أهلها بيع أرضه للصهاينة لم يتمكن لأنه كان متنازع على ملكية أراضيها بين أهاليها.
كانت رفح أول ما احتلته القوات البريطانية قادمة من سيناء إلى فلسطين أثناء الحرب سنة 1917، وقد خاض الأتراك فيها معركة بوابية دامية لمنع تقدم القوات البريطانية، راح فيها ما لا يقل عن 200 شهيد من العثمانيين، حيث مثّل سقوط رفح وقتها تحصيل حاصل لاحتلال البريطانيين غزة المدينة ثم باقي البلاد.
ظلت رفح ترزح تحت الحكم البريطاني إلى حين عام النكبة، وحاول الصهاينة احتلالها عام 1948 غير مرة وفي أكثر من معركة دارت عليها، إلا أنها ظلت بعيدة المنال بسبب بسالة أهلها ودور الجيش المصري في التصدي للعصابات الصهيونية.
ومع النكبة لم تُطَل غزة المدينة حتى رفح جنوبًا، إلا أن هذه الأخيرة طالتها تداعيات النكبة، حيث تحولت رفح وعموم ديار غزة إلى أكبر ملاذ للاجئين النازحين من المدن والقرى الممتدة من يافا وحتى مجدل عسقلان جنوبًا، بما فيها معظم قرى لواء غزة.
نزحت كل تلك المدن والقرى إلى غزة حتى رفح التي أُقيم فيها سنة 1949 مخيم رفح للاجئين، والذي اُعتبر الأكبر والأكثر اكتظاظًا من بين مخيمات غزة الثمانية التي نشأت إثر النكبة، إذ تفرعت مع الزمن عنه عدة مخيمات، منها الشابورة ويبنا وبشيت وأسدود وكندا وبدر والمخيم الغربي ومخيما تل السلطان والشعوت.
تحولت غزة إلى قطاع يتبع للحكم المصري بعد النكبة بما فيها رفح، والقطاع تسمية مصرية أطلقها المصريون في مطلع خمسينيات القرن الماضي. إلى أن كان عام 1956، فكانت رفح وتحديدًا مخيمها على موعد مع مذبحة المدرسة الأميرية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء العدوان الثلاثي على مصر.
كان ذلك في صباح يوم 12 نوفمبر/ تشرين الأول 1956، حين نودي بأهالي مخيم رفح من قبل جيش الاحتلال للخروج من بيوتهم، وتحديدًا الشباب والرجال من سن 15 إلى 50 عامًا، مرفوعي الأيدي، والتجمع في ساحة المدرسة الأميرية في وسط مدينة رفح.
ثم فتح جيش الاحتلال الإسرائيلي النار على المقيدين في أكبر مذبحة عرفتها غزة وقطاعها منذ النكبة، وقتها راح ضحيتها ما لا يقل عن 102 شهيد في ذلك اليوم، ويقول غازي غريب في تناوله لمذبحة المدرسة الأميرية في ذكراها إن عدد الشهداء كان ضعف العدد الذي أحصته وكالة الغوث، وذلك لأن مدير الوكالة لم يذكر عدد الشهداء الذين لا يحملون بطاقة تموين من عائلات رفح من غير اللاجئين. ومن حينه وأطفال مخيمات رفح ينشدون في ذكرى المذبحة: “في اطنعش احدعش لمونا يا حانونا… في الشوارع ذبحونا يا حانونا”.
لا يعيد التاريخ نفسه، إنما مآسيه يعيدها التاريخ اليوم على رفح، والتي يلوذ بمخيمات اللجوء التاريخية فيها مئات آلاف النازحين من شمال القطاع ووسطه فرارًا إليها من وحشية الحرب، في خيام تصلي نيرانها لحم من فيها على مرأى من العالم حتى اللحظة.