للأسبوع الرابع، تجتاح الاحتجاجات الغاضبة مدن الشرق المغربية، ظاهر الأمر ينبئ بحراك على طريقة الربيع العربي، فالتجمعات المكثفة تناقش تطوير الحراك ومناهضة الظلم، وكيفية ممارسة الضغط السلمي لتحقيق مطالب يراها المحتجون عادلة، بداية من إطلاق سراح المعتقلين الذين بلغت حصيلهم حتى الآن، على هامش الاحتجاجات، ثمانية شباب، فيما وجهت استدعاءات لآخرين في تهم “منقوشة” من بلاد مجاورة، فالتظاهر في بلاد العرب، صار مقترنًا بإهانة موظفين عموميين في أثناء قيامهم بعملهم والتجمهر المسلح والتأمر على مصالح البلاد مع قوى خارجية.
المثير في هذه الاحتجاجات، المشاركة الكبيرة للتيار المدني، بجانب المظلة التي تفردها جماعة العدل والإحسان، وهي أكبر جماعة إسلامية منظمة في البلاد، وتقف بقوة جانب الاحتجاجات منذ أسبوعها الأول، وتتبنى مواقفها وهو موقف عنتري لم تتعود عليه الجماعة التي كانت دائمًا تنفي صلتها بأي عمل ثوري.
وهو ما يدفعنا للتساؤل: لماذا تتجاسر “العدل والإحسان” حاليًّا في وجه الدولة المغربية وتسير على أشواك الخطر، في ظل أوضاع إقليمية لا يمكن أن تنجح لا ربيعًا ولا خريفًا آخر؟!
في رحاب الشارع والسلطة.. أيهما يعبر عنها؟
المتتبع لخط سير جماعة العدل والإحسان، يجد من الصعوبة تحديد موقفها السياسي، خصوصًا عندما يتماس مع السلطة، فالجماعة دائمًا كانت ترفض التماهي مع ألاعيب الدولة للزج بها لتحمل مسؤولية دعم وتأجيج التحركات الاحتجاجية، حدث ذلك في ظروف أفضل كثيرًا مما تتعيشة المنطقة، لكنها ربما وجدت في الحراك المغربي المندلع حاليًّا، فرصة متأخرة للتلاحم مع صوت الشارع.
واعترفت الجماعة قبل أسابيع ولأول مرة بدعم الاحتجاجات التي جرت خلال العام الماضي في البلاد، وبشكل خاص بإقليمي الريف وزاكورة، في محاولة لرفع منسوب الثقة بمواقفها شعبيًا، لا سيما أنها بحكم أيديولوجيتها وأشياء أخرى، لم تدع مسبقًا لاحتجاجات أو تحشد لها علنيًا، بل كان يتم الأمر عبر عنتريات فردية من الأعضاء، بدعم لوجستي خفي من الجماعة.
وكان لها رأيًا ثابتًا في ذلك؛ هي لا تريد مواجهة مع دولة تسعى لجرها إلى آتون احتجاجات ستقضي عليها بالقوة، وبعد ذلك ستفرغ معصمها الأمني للنيل منها، بشكل منفرد وبمنتهي القوة الغاشمة، وكان هذا رأيًا ثابتًا للجماعة في مختلف القضايا من هذا النوع حتى وقت قريب.
تخلصت العدل والإحسان من هوسها الأمني، ولم تأبه في شجاعة صدامية، لم تتعود هي بنفسها عليها، من رد فعل اتهامات السلطات لها بانخراطها في أي حراك شعبي، وما تعنيه فاتورة ذلك الاتهام وخلفياته على حرية وسلامة رجالها، ولا سيما في ظل اشتعال الحراك الذي بدأت شرارته مع وفاة بائع السمك محسن فكري، طحنًا في حاوية فضلات بأكتوبر عام 2016، بعدما صادرت السلطات المحلية داخل ميناء مدينة الحسيمة المغربية سمكًا كان يبيعه بحجة أنه ممنوع صيده، ورمته في شاحنة القمامة، ولم يأبه ممثل السلطة باحتجاج الشاب ومحاولتة الاعتصام في وسط شاحنة القمامة، بحسب شهود الواقعة وقتها، فأعطى تعليمات بتشغيل آلة الطحن، ليتمكن أصدقاء فكري من القفز والنجاة من الموت، إلا أن الضحية لم يتسن له اللحاق بهم، فسحقته الآلة بسرعة كبيرة.
لقي عامل السمك مصرعه في الحال أمام أعين ممثل السلطة الذي لم يحرك ساكنًا، ولكن تركت هذه الواقعة فجوة كبيرة وعلاقة ثأرية بين العديد من قطاعات المجتمع المغربي والسلطة، وهو الأمر الذي استندت عليه “العدل والإحسان” لتبرير موقفها لمؤسسات الدولة المعنية من دعم الحركات الاحتجاجية، بزعم أنها جادة وسلمية وتهدف للوقوف في وجه الظلم والمطالبة بالحق سواء في حراك المدن أو في المناطق التي تعاني من هشاشة الأوضاع والتهميش.
في وسط هذه المواقف الليّنة، يمكنك أن ترى الجماعة مرة في وسط الشارع تدافع عن آماله وطموحاته، متحصنة بإطار شرعي من أدبياتها، فهي جماعة في الأساس ذات نهج معارض للظلم ويتسم بالمقاومة السلمية والمقتحمة، إلا أنها كسائر الجماعات الدينية، لم تتفرع خلال العقود الماضية، لتحصين نفسها بأدوات تمكين سياسية موضوعية، يمكنها تسيير مجريات الواقع باتجاه بوصلتها لتحقيق طموحاتها وأهدافها.
تعيش جماعة العدل والإحسان، صراعًا مكتومًا على طول الخط مع الدولة المغربية
كما يمكنك أيضًا رؤيتها من زاوية أخرى، في وضع دافئ سياسيًا بجانب الدولة، حتى لو كانت تصريحاتها عن الأحداث في الشارع المغربي مثل قنابل الصوت، تحدث “صوتًا مُلفتًا” دون مضمون واضح، فكل ما قالته الجماعة حتى الآن في مجملة، يمكن فهمه على أنه لعب متوازن، يهدف لمهادنة الحكومة والشارع معًا دون أن تزج الجماعة بأنصارها في صراع مع الدولة، تعلم جيدًا أنها بعد هدوء الأحوال ستكون الخاسر الأكبر.
وبالتالي تحاول التمويه على مشاركاتها في الاحتجاجات، وتكتفي فقط بالتوجيه والتأطير عن بعد، وتوفير الدعم اللوجيستي، وربما لهذا حمّلت مواقفها منذ بداية أسبايع الاحتجاج حالة من التناقض، وإن كان بدرجة أقل كثيرًا من تناقضاتها في فعاليات سابقة.
ففي يونيو من العام الماضي، شاركت العدل والإحسان في “حراك الحسيمة” بجانب الكثير من القوى السياسية الفاعلة، عبر عدد من المحامين المنتمين لها في هيئات الدفاع عن معتقلي الريف، خاصة مدينة البيضاء، كما شارك رموز الجماعة في الوقفات المتزامنة مع المحاكمات، ولكنها لم تتصدر الصورة، واكتفت بحضور يثبت وجودها.
وقبل ذلك شاركت أيضًا في حركة 20 فبراير 2011، لكنها انسحبت منها بشكل مفاجئ، واعتبر مراقبون وقتها أن انسحاب الجماعة جاء بسبب الفشل في السيطرة على الحركة وتوجيه مطالبها بما يتوافق مع أهدافها غير المعلنة.
علاقات شد وجذب مع الدولة.. لماذا؟
تعيش جماعة العدل والإحسان، صراعًا مكتومًا على طول الخط مع الدولة المغربية، فرغم انسحابها من حركة 20 فبراير عام 2011 التي كانت ستذهب بالنظام المغربي إلى حيث انتهت مآلات الأنظمة العتيقة في المنطقة، إلا أن عدم التزام العدل والإحسان، والمحظورة منذ تأسيسها، على حصر ممارستها في القيام بأنشطة سرية دون تعريض الدولة للحرج، يرشح العلاقة للصدام العاقل طوال الوقت.
فالجماعة التي تنتهج السلمية وترفض العنف أو الارتباط بالخارج كذراع داخل المغرب، ترى أنها بذلك تكسر كل شواكيش الدولة التي يمكن أن تستخدمها في الطرق على رأسها بأي وقت، كما هو الحال في اللعبة بين الإسلاميين والأنظمة بالأقطار العربية كافة، وهو ما يصب في النهاية بصالح علاقة ملتبسة ومتوجسة وغامضة مع النظام المغربي.
رغم حالة الحراك الجديدة على منهج العدل والإحسان تجاه الدولة، فإن دلائل الصدام لنيل شرعيتها أمر غير واضح الملامح
كما يساهم رفض جماعة العدل والإحسان المشاركة في الحياة السياسية، ومقاطعة الانتخابات والتسفيه من مراجعات كل القوى السياسية المعارضة التي انخرطت في الإصلاح من داخل المؤسسات، في تأصيل فكرة التوتر مع الدولة، وحتى القوى السياسية الأخرى.
فالجماعة دائمًا ما تطرح شروطًا متضاربة لمعالجة أزمات الواقع، بجانب استخدام مفردات إسلامية فضفاضة، مما يعرضها دائمًا لتهمة التهرب من مسؤولية المشاركة الحقيقية من داخل المؤسسات، لأنها تخاف كشفها أمام أنصارها والمتعاطفين معها، وهذه الاتهامات أثيرت على نطاق واسع في ندوة بديسمبر الماضي، بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان.
الأمثال لـ”شبه محظورة” أو الصدام قادم؟
على عكس السنوات والعقود الماضية، تبدو جماعة الإحسان أنها تعيش حالة تمرد على رغبة السلطات المغربية تقاسم “الصبر” معها في إطالة التعامل معها بهذا الشكل، فاستمراها “شبه محظورة” يجعل في أيدي السلطة مبررًا دائمًا لمحاسبة أعضاء الجماعة، جراء الإقدام على مخالفة القانون من وجهة نظرها، مع حرص الدولة بالطبع على وزن خطواتها وألا يكون العقاب جماعيًا في أي مرحلة.
وتعلم الجماعة التي ظلت “شبه محظورة” رغم حصول أغلب التيارات المشابهة في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي، على حرية تأسيس وتكوين أذرع سياسية وحزبية والعمل العلني، وأبرز مثال في ذلك جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر التي أسست حزبًا سياسيًا وخرجت للعلن لأول مرة من ثمانية عقود بعد ثورة 25 يناير – قبل أن تعود لما هو أسوأ مرة أخرى – وهي صيغة قانونية ملتبسة مثل “تحت التأسيس” التي تترك الباب مفتوحًا للانتقال نحو الوضعية الطبيعية أو عدمها، حسب مكان المؤسسة من السلطة ودرجة قربها واتفاقاتها وصفقاتها معها.
ورغم حالة الحراك الجديدة على منهج العدل والإحسان تجاه الدولة، فإن دلائل الصدام لنيل شرعيتها أمر غير واضح الملامح، فمن ناحية الجماعة تمارس نشاطها الدعوي المنتظم، وتختار المناسبات الاحتجاجية بعناية لإبراز قوتها، وأنها ما زالت تهيمن على التظاهرات الحاشدة التي تدعو إليها الأحزاب والنقابات والفعاليات الحقوقية، ولكن يحدث ذلك بحرص شديد، مما يعني أن الجماعة تدرك أنها تمارس نشاطًا تحت أعين السلطات الأمنية، خصوصا أنها تجرى تغييرات تنظيمية جوهرية على هياكلها، بعد رحيل مؤسسها، حيث أصبح لها ناطق رسمي باسمها.
كما وزعت الأدوار والمسؤوليات بين قيادات الصف الأول بشكل محترف إداريًا وهي صيغة جديدة عليها، وهو ما يترك نهاية مفتوحة لمصير العدل والإحسان في الأيام القادم، سواء راجعت الجماعة أدبياتها وثوابتها تجاه الاشتغال بقواعد المنافسة في بورصة السياسة، خصوصًا في ظل الإشارات التي يرسلها الملك محمد السادس، بإمكانية العمل للجميع، في ظل ثوابت كبرى تطبق على الأحزاب والكيانات السياسية كافة، أو انزلاقها إلى مزالق الصراع والصدام والحظر على خطى الإسلاميين في أغلب بلدان العالم العربي؟