تعتبر الأسرة العامل الرئيسي في تنشئة الطفل وتربيته على كافة الأصعدة النفسية والاجتماعية والعقلية، فهي ترسم ملامح شخصيته وتحدد سلوكه ومبادئه منذ مراحل طفولته الأولى، كما تُسهم في إشباع رغباته النفسية وتشكيل كيانه النفسي الذي يمتدّ معه لاحقًا عبورًا بمرحلة المراهقة أو البلوغ ومرورًا إلى المراحل اللاحقة.
ولا شكّ أنّ المشاكل الأسرية أو تلك التي تحدث بين الأبوين تؤثر سلبًا على نموّ الأبناء، سواءً في مراحل الطفولة المبكرة أو في مرحلة المراهقة، وتستمرّ آثار تلك النتائج لاحقًا في المراحل الحياتية المتقدمة، فتنعكس على الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع من حوله أو على الطريقة التي ينظر بها إلى الآخرين والعلاقات الاجتماعية أو الحميمية التي يكون جزءًا منها.
أمّا في مراحل الطفولة الأولى، فغالبًا ما تؤدي المشاكل الأسرية إلى اختلالات واضطرابات في النموّ الهام للطفل، نظرًا لأنّ تلك المشاكل تؤثر بقوة على الطريقة التي يتطوّر بها دماغه وتتشكّل بها الخلايا العصبية المسؤولة عن القدرات المعرفية أو الإدراكية المهمة في المراحل المختلفة.
يؤدي الضغط الشديد إلى التأثير على أجزاء الدماغ المسؤولة خاصة المخيخ، والمسؤولة عن تنظيم الإجهاد والتعامل مع التوتر والقلق والصعوبات النفسية
تتعدّد أنواع الاضطرابات الأسرية وتختلف استراتيجياتها، سواء تلك التي يستخدمها الآباء تجاه أبنائهم أو التي تكون بين الأبويْن في حضور الأبناء؛ فهناك العدوان اللفظي مثل السب والشتم والتهديد أو الاستصغار والتحقير، وهناك العدوان البدني مثل الضرب أو الإيجاع، وهناك العدوان الصامت مثل التجنب والإهمال والابتعاد.
ينشأ الاكتئاب عند استخدام تلك الاستراتيجيات العدوانية بشكل متكرر، فيطوّر الطقل شعورًا بانعدام الأمان العاطفي وغيابه إضافةً للخوف من المستقبل أو القلق حياله. وفي مراحل معينة يبدأ الطفل باكتساب مشاكل سلوكية معينة مثل الغضب والعدوانية والعنف في المنزل أو في المدرسة، أو قد يطوّر اضطرابات في النوم والأكل وبعض المشاكل الصحية والنفسية، التي تنعكس على علاقاتهم بالآخرين وعلى قدراتهم التعليمية والأكاديمية في المدرسة.
وتشير بعض الأبحاث إلى أن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ستة أشهر يستطيعون تمييز خلافات والديْهم والمشاكل العالقة في الأسرة، إذ أنّ درجة حساسيتهم واكتشافهم للعاطفة والمشاعر بأنواعها السلبية والإيجابية أكبر بكثير مما يظنّه الأبوين، ويظلّ حساسًّا لتلك الصراعات حتى عمر 19 عامًا.
بيولوجيًّا، يؤدي الضغط الشديد إلى التأثير على أجزاء الدماغ المسؤولة خاصة المخيخ، والمسؤولة عن تنظيم الإجهاد والتعامل مع التوتر والقلق والصعوبات النفسية في وقتٍ لاحق، بالإضافة إلى السيطرة الحسية الحركية والعديد من الوظائف الأخرى.
وعلى الرغم من أنّ دماغ الطفل قد تتضرر بسهولة بسبب عوامل الإهمال أو الإجهاد التي يتعرّض لها، إلا أنه من غير المرجح أن تكون هذه الأضرار دائمة إذا أمكن علاجها والتدخّل في تطوّرها في الوقت المناسب، سواء عن طريق الأبوين نفسهما أو اللجوء لمساعدة المختصين النفسيين والعاملين في المجال النفسي.
المشاكل الأسرية وأثرها في مرحلة البلوغ
العديد من البحوث الآثار النفسية التي أجريت على الأطفال في مرحلة البلوغ، وركّزت على أثر الصراعات والمشاكل الأسرية على تلك المرحلة، تؤكد على أنّ الاكتئاب وصعوبة الحفاظ على العلاقات وانعدام الأمان العاطفي هي سماتٌ مميزة لأولئك المراهقين الذين يعيشون في أوساط أسرية غير مستقرة. لكنّ النتائج لا تتوقف عند ذلك الحد وحسب، وإنما تتأثر العملية النمويّة للطفل بطرق شتى.
يؤدي التوتر والإجهاد الناتجين عن مشاكل العائلة وعدم استقراريتها إلى تسريع الوصول لسنّ البلوغ في وقتٍ أبكر من المعدّل الطبيعي المتعارف عليه بين أقران الطفل
تخضع مرحلة بلوغ الطفل للعديد من العوامل النفسية والاجتماعية عوضًا عن العضوية أو البيولوجية المعروفة؛ فالتوتر والإجهاد الناتج عن مشاكل العائلة وعدم استقراريتها يؤديان إلى تسريع الوصول لسنّ البلوغ في وقتٍ أبكر من المعدّل الطبيعي المتعارف عليه بين أقران الطفل. وقد أظهرت العديد من الأبحاث على مدى عقود طويلة أنّ الأحداث المجهدة في الأسرة تسرّع من البلوغ عند الفتيات، والذي يُقاس أساسًا بالحيض أو الدورة الشهرية الأولى، فعلى سبيل المثال تميل الفتيات اللواتي يكبرن في أسرة ملآى بالمشاكل أو مع وجود أبٍ غير مستقر نفسيًا أو أولئك الفتيات اللواتي يتعرّضنَ للعنف سواء كان جسديًا أم جنسيًا أم نفسيًا، إلى البلوغ قبل عامٍ أو اثنين من الفتيات اللواتي يكبرن في بيئة أسرية أكثر استقرارًا.
يفسّر علم النفس التطوريّ وعلم الاجتماع البيولوجي بأنّ السرعة في البلوغ هذه ترجع إلى أنّ الإنسان الأول كان يميل إلى التركيز أكثر على النموّ التناسليّ أو التوالديّ في حال شعوره بخطر الموت الناتج عن صراعاته مع الأنواع الأخرى، لرغبته بالأساس في تمرير جيناته إلى الأجيال الأخرى اللاحقة له، تماشيًا مع الرغبة في استمرار النوع والخوف من الانقراض، ما يؤدي إلى البلوغ المبكّر لتهيئة الجسم للعمليات التنموية المرتبطة بالجنس والتزاوج، والأمومة المبكرة.
أحد التنبؤات النظرية لهذه الفرضية هي أنّ الفتيات اللاتي يكبرن في أسرٍ تعاني من عدم الاستقرار العائلي الكبير، خاصة في حين غياب الأب، يكنَّ أكثر عرضةً للبلوغ في سنّ مبكرة من غيرهنّ من الفتيات، عوضًا عن العوامل الرئيسية التي تحدد سنّ الحيض مثل الوراثة والصحة والتغذية والبيئة.
البلوغ المبكّر، خاصة عند الفتيات، يكون محفوفًا بالعديد من المشاكل النفسية والاجتماعية، بما في ذلك الاكتئاب الناتج عن عدم القدرة على إدراك التغير المفاجئ في سنّ أصغر من اللازم
ومن المعروف أنّ البلوغ المبكّر، خاصة عند الفتيات، يكون محفوفًا بالعديد من المشاكل النفسية والاجتماعية، بما في ذلك الاكتئاب الناتج عن عدم القدرة على إدراك التغير المفاجئ في سنّ أصغر من اللازم، والذي يكون مصحوبًا بالكثير من التغيرات الجسدية الظاهرة مثل نمو الثديين، وبالتالي تبدأ الطفل بالشعور بالإحراج من شكلها الخارجي واختلافها عمن حولها ممن هم في نفس العمر.
يقودنا ذلك أيضًا إلى الضغط الاجتماعي الناتج عن الاختلاف عن الأقران وعدم التوافق معهم، فتنشأ المقارنة الاجتماعية والتي تؤدي غالبًا إن لم يكن دائمًا إلى نشوء القلق وانعدام الثقة في العلاقات مع الأهل والأصدقاء، الأمر الذي يزيد من احتمالية التوتر والضغط النفسي الذي تتعرض له الطفلة عوضًا عن ذلك الناشئ عن المشاكل في عائلتها أساسًا.