بعد أكثر من مئة سنة على فتحها بالكامل على يد الشيخ الأمين قائد الفتوحات في إفريقية “حسان بن نعمان”، تأسست أولى دول الإسلام في تونس بقرار من الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد سنة 800 ميلادي لوضع سدّ أمام الدويلات المنتشرة في غرب إفريقية والأندلس، من خوارج وأدارسة وأمويين.
حملت تلك الدولة الفتية اسم “الدولة الأغلبية” نسبة إلى مؤسسها إبراهيم ابن الأغلب، وعرفت خلالها الحياة الثقافية في البلاد ازدهارا كبيرا، وأصبحت مدينة القيروان مركز اشعاع في المنطقة، كما شهدت “إفريقية” خلال هذه الدولة تأسيس أسطول بحري قوي لصدّ الهجومات الخارجية الذي مكن أسد بن الفرات لاحقًا من فتح جزيرة صقلية.
تأسيس دولة الأغالبة
عقب وصول الإسلام إليها، عرفت تونس التي كان يطلق عليها سابقا اسم “إفريقية”، اضطرابات سياسية كثيرة، فلا تكاد دولة الخلافة تولي أحد عليها حتى يتم الانقلاب عليه والإطاحة بحكمه، وفي تلك الظروف برز اسم إبراهيم بن الأغلب على مسرح الأحداث السياسية في البلاد، فما كان من الخليفة هارون الرشيد إلا أن ولاه على إفريقية عام 184 هـجري/800 ميلادي، فبدأ إبراهيم منذ توليته الإمارة على تأسيس دولة له ولأبنائه من بعده.
عرف الخليفة العباسي رغبة بن الأغلب، ومع ذلك فقد استبقاه في الإمارة بل ودعمه ما دام يعمل باسم العباسيين في عاصمة الخلافة بغداد، ففي تلك الفترة كان “الرشيد” مشغولاً بحرب الروم، وهجوم الخزر، ومشكلات المشرق الإسلامي، وفي الوقت نفسه يريد أن يحمي الأجزاء الغربية من الإمارات التي قامت في المغرب والأندلس من خوارج وأدارسة وأمويين.
حرص إبراهيم بن الأغلب في البداية على اظهار ولائه للعباسيين وارتباطه بالخلافة العباسية في بغداد، إلا أن هذا الارتباط ما لبث أن انتهى عمليًا
فأقام إبراهيم الخطبة لبني العباس على المنابر ورفع شعارهم، ودفع الخراج المقرر عليه وهو أربعون ألف دينار، ونقش اسم الخليفة على السكة (النقود)، وشيد مدينة جديدة أطلق عليها العباسية (القصر القديم) تمجيدا لهم وتقع على بعد ثلاثة أميال جني القيروان. ويقول المؤرخ “البلاذري” في كتابه “جمل من أنساب الأشراف”، أن أب إبراهيم” “الأغلب بن سالم بن عقال التميمي” كان من أصحاب أبي مسلم الخرساني، وتعود أصوله إلى قبيلة عربية تدعى “تميم” كان لها دور بارز في القضاء على الأمويين وسقوط دولتهم وإقامة الدولة العباسية.
وفد مع القوات العباسية إلى مصر، وعرف بالشجاعة وحسن الرأي، ولقب بلقب الشهيد، ويضيف “البلاذري” أن الأغلب بن سالم سار وابنه إبراهيم إلى إفريقية غير أن زعيم الخوارج في المغرب أبو حاتم الإباضي تمكن من قتله وفر ابنه إبراهيم إلى منطقة الزاب بالمغرب الأوسط، وبدأ يمهد الأمر لنفسه. ولئن حرص إبراهيم بن الأغلب في البداية على اظهار ولائه للعباسيين وارتباطه بالخلافة العباسية في بغداد، فإن هذا الارتباط ما لبث أن انتهى عمليا عندما انشغل العباسيون عن أمور “إفريقية”، فلم يعد الأمراء الأغالبة يدفعون الضريبة السنوية، وإنما اكتفوا بذكر أسماء الخلفاء في الخطبة.
البحرية الأغلبية: فتوحات إسلامية ونشاط تجاري كبير
في فترة حكم “الأغالبة” التي دامت 108 سنة، شهدت “إفريقية” تأسيس أسطول بحري كان له دور كبير في فتحِ جزر الحوضين الأوسط والغربي للبحرِ الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا، وما تبع ذلك من بسطِ السيادةِ الإسلامية على هذه الجهات ونشرِ الإسلام فيها.
وعرف حكم الدولة الأغلبية أهمّ حدثٍ في تاريخ البحرية الإسلامية في ذلك الوقت، ألا وهو فتح جزيرة صقلية الإيطالية التي تُعتبرُ من أهمِّ جزر البحرِ الأبيض المتوسط، وقد استمرَّ فتحُها قرابة القرن من الزَّمانِ؛ أي: منذ عهد ثالث ولاة الأغالبة زيادة الله، حتى نهاية دولة الأغالبة، وقبلها تمّ فتح عديد الجزر من بينها جزيرةِ قوصرة؛ وهي أقرب جزيرة للسَّاحلِ التونسي.
تمكنت دولة الأغالبة من امتلاك اسطول بحري قوي
وبعد فتح صقلية توجّه “الأغالبة” لجنوب إيطاليا، كما وصلت غاراتهم إلى روما – قلب إيطاليا ومركز البابوية الرئيس – خلال عدة مرات وتهديدها، وتم فتح بقية جزر البحر الأبيض المتوسط، كجزيرةِ مالطة وغيرها من الجزرِ الصغيرة، التي تقعُ في وسطِ البحر الأبيض المتوسط، إلى جانبِ المحاولات التي قاموا بها للاستيلاء على جزيرة سردينيا.
فضلاً عن الفتوحات الإسلامية التي ساهمت فيها البحرية، عرفت البحرية الأغلبية نشاطا تجاريا كبيرا، فقد ورثتِ البحريةَ البيزنطية في السيطرةِ على الحوض الأوسط للبحر الأبيض المتوسط، وورثت عنها النشاطَ التجاري البحري بين حوضي البحر الأبيض المتوسط الشرقي والغربي، ما أعطى للمسلمين دورًا كبيرًا في تجارةِ البحر الأبيض المتوسط بين المشرق والمغرب، بالمقارنة بما كانت عليه هذه التجارةُ عندما كانت السيادةُ البحرية لهذا البحرِ في يدِ بيزنطة، وعندما كانت تفرض رقابتَها على طرقِ التجارة به.
حركة فكرية وثقافية كبيرة
عرفت الحركة الفكرية خلال حكم الأغالبة ازدهارًا كبيرًا، فقد كانت عاصمة دولتهم “القيروان” قطبًا ثقافيًا مشعًا برز فيه أعلام لهم مكانتهم وعلى رأسهم قاض القيروان وفاتح صقلية أسد بن الفرات الذي جمع بين العلم والقضاء والجهاد في سبيل الله، والإمام سحنون بن سعيد الذي كان من أشهر فقهاء المالكية بالمغرب العربي.
ومن أوجه ازدهار الثقافة في تلك الفترة في “إفريقية”، تأسيس “بيت الحكمة” بمدينة رقادة القريبة من القيروان سنة 878 ميلادي وهي أول “جامعة علمية” في إفريقية والمغرب، تولى فيها التدريس عدد من العلماء المشهورين مثل الأديب الشاعر بن الصائغ والطبيب اسحاق بن عمران صاحب كتاب “الماليخوليا” وأحمد بن الجزار صاحب كتاب “زاد المسافر”.
ساهم “بيت الحكمة” الذي تأسس في فترة حكم “إبراهيم الثاني الأغلبي” في ترجمة العديد من المؤلفات اللاتينية واليونانية إلى العربية ونسخ المصنفات
وتأسست هذه المكتبة محاكاة لبيت الحكمة التي أسسها هارون الرشيد في بغداد حيث كانت هذه البيت نواة لمدرسة الطب القيروانية التي أثرت في الحركة العلمية في المغرب لزمن طويل. وقد استقدم إبراهيم بن أحمد الأغلبي أعدادًا كبيرة من علماء الفلك والطب والنبات والهندسة والرياضيات من المشرق والمغرب وزوده بالآلات الفلكية. وكان إبراهيم بن أحمد يبعث كل عام (وأحيانا كل ستة أشهر) بعثة إلى بغداد هدفها تجديد ولاءه للخلافة العباسية واقتناء نفائس الكتب المشرقية في الحكمة والفلك مما لا نظير له في المغرب واستقدام مشاهير العلماء في العراق ومصر.
وساهم “بيت الحكمة” الذي تأسس في فترة حكم “إبراهيم الثاني الأغلبي” في ترجمة العديد من المؤلفات اللاتينية واليونانية إلى العربية ونسخ المصنفات، فضلاً عن تنظيم المناظرات ونشر علوم الطب والفلسفة والفلك. وكان يتولى الإشراف عليه حفظة مهمتهم السهر على حراسة ما يحتويه من كتب، وتزويد الباحثين والمترددين عليه من طلاب العلم بما يلزمهم من هذه الكتب حسب تخصصاتهم، ويرأس هؤلاء الحفظة ناظر كان يعرف بصاحب بيت الحكمة. وأول من تولى هذا المنصب عالم الرياضيات أبو اليسر إبراهيم بن محمد الشيباني الكاتب المعروف بأبي اليسر الرياضي.
ازدهار عمراني شاهد على حضارتهم
الازدهار وصل أيضا إلى الجانب المعماري، فقد عرف مسجدي عقبة بن نافع والزيتونة خلال العهد الأغلبي تحسينات كبرى، ففي فترة حكم زيادة الله بن الأغلب، أدخل على مسجد عقبة عديد التحسينات فقد تمّ رفع قبابه ومئذنته وإعطائه صورته الحالية، ويذكر “ابن عذاري المراكشي” في كتابه “البيان المُغْرِب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب” أن زيادة الله أنفق أموالا كثيرة في هذا العمل، وكان يفتخر بهذا العمل.
جامع عقبة بن نافع
وفي عهده أيضًا، قام إبراهيم بن أحمد سادس أمراء الأغالبة تم تجديد وتوسيع جامع الزيتونة بتونس، فقد تمّ بناء قبابه المضلعة، ووضع فيه أعمدة الرخام وزينه بالزخارف والنقوش والكتابات الكوفية الجميلة، وكذلك أمر إبراهيم بن أحمد ببناء القبة الكبيرة الموجودة الآن في جامع القيروان وهي من أجمل القباب في تاريخ المساجد الإسلامية.
إحدى قباب جامع الزيتونة المعمور
فضلا عن ذلك، قام أبو العباس محمد بن الأغلب خامس أمراء الأغالبة ببناء جامع سوسة، الذي يعتبر من أجمل الآثار المعمارية الإسلامية في تونس، ومن منشآته أيضا رباط سوسة المعروف بقصر الرباط، والذي خصّص للمجاهدين والمرابطين من المتطوعين.
فستقية الأغالبة
ومن الأثار التي تشهد على عظمة حضارة الأغالبة، فستقية الأغالبة في القيروان التي تعتبر أهم أهم معلم هيدروليكي في تاريخ العالم الإسلامي، تم تشييد هذا المعلم في فترة حكم أبو إبراهيم بن الأغلب بهدف بناء عدة أبار مياه لتزويد القيروان بالماء. تم بناء الفستقية من الأحجار الركامية المغطاة بالقصارة على مساحة 000 11 متر مربع، وتحتوي أيضا على مصفاة صغيرة وحوض كبير لتخزين المياه وصهراجين كبيرين لتخريج المياه، ومجموع ما يمكن أن يحتويه ويخزنه كل هذه القطع هو 800 68 متر مكعب من المياه.