على مدى التاريخ ظلّ السودان الملاذ الآمن للاجئين من دول المنطقة، ففي نهاية عام 2021 أكدت إحصائيات الأمم المتحدة أن السودان يستضيف أكثر من 1.14 مليون لاجئ وطالب لجوء، أكثرهم من جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد وسوريا واليمن والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وما يميز السودان في هذا الجانب أنه لم يكن يتشدد مع طالبي اللجوء ولا يفرض عليهم قيودًا صارمة، إذ كان يعيش نحو 70% من اللاجئين في البلاد خارج المخيمات في المدن والبلدات والقرى، وسط مجتمعات محلية عُرفت بكرم الضيافة ونجدة الغريب رغم ضيق ذات اليد.
لا أدلّ على ذلك من أن الرئيس الإريتري، إسياس أفورقي، وعدد كبير من رفاقه كانوا قد عاشوا في حي الديوم الشرقية وسط الخرطوم عندما كانت جبهة تحرير إريتريا، وهو أحد قياداتها، تناضل ضد الاستعمار الإثيوبي في فترة السبعينيات والثمانينيات، كما أقام لفترة في مدينة كسلا شرق البلاد ومناطق غرب القاش ولمدة قصيرة بود مدني وسط السودان.
شهد عام 2021 آخر موجة لجوء كبيرة إلى السودان قبل اندلاع حرب 15 أبريل/ نيسان 2023، حيث عندما تفجّر الصراع بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي عبرَ أكثر من 70 ألف مواطن إثيوبي الحدود غربًا باتجاه السودان، معظمهم من المنطقة الغربية لإقليم تيغراي المحاذية لولايتَي القضارف وكسلا السودانيتَين.
لجوء عكسي
عندما اندلعت الحرب السودانية منتصف أبريل/ نيسان 2023، والتي تسبّبت في أكبر أزمة نزوح ولجوء على مستوى العالم، حصل العكس لأول مرة في التاريخ الحديث، حيث عبرَ آلاف السودانيين الحدود شرقًا إلى إثيوبيا، استقرّ منهم نحو 6 آلاف في معسكرَين بإقليم أمهرة المحاذي للسودان، معتقدين أنهم سيجدون الأمن والنجاة من جحيم الحرب.
بينما توجّه آخرون إلى إقليم بني شنقول-غوموز، وهؤلاء في وضع أفضل نسبيًا، تمّت استضافتهم في مركز كرموك للاستقبال المؤقت، وتتمتع المنطقة التي وُفدوا إليها بقدر لا بأس به من الهدوء.
وبعد شهور قليلة من وصول الفارّين من حرب السودان إلى إقليم أمهرة وجدوا أنفسهم في مأزق جديد، إذ تفجّر صراع آخر بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وميليشيا فانو التي تتمتع بثقل كبير في الإقليم، واتّهمَ حينها مسؤول إثيوبي كبير ميليشيا فانو بمحاولة الإطاحة بالحكومتَين المحلية والفيدرالية، بعد أيام من القتال الذي دفع السلطات لإعلان حالة الطوارئ في الإقليم لـ 6 أشهر ثم تمديدها في فبراير/ شباط 2024.
وخلال الأشهر الماضية، تمكنت ميليشيا فانو من بسط سيطرتها على عدد من المواقع المهمة في أمهرة، مثل بلدة أمانيول شرقي محافظة غوجام، ولفترة وجيزة سيطرت المجموعة المقاتلة على مطار مدينة لاليبيلا التاريخية.
هجمات على المعسكرَين
الوضع الأمني المتدهور في إقليم أمهرة أغرى الميليشيات والعصابات الإجرامية على مهاجمة معسكرات اللاجئين السودانيين في منطقتَي كومر وأولالا (34 كيلومترًا من الحدود السودانية) عدة مرات خلال الأشهر الماضية، دون أن تتصدى لهم القوات الحكومية، وقد ازدادت الهجمات وحوادث النهب المسلح على المعسكرَين في أبريل/ نيسان الماضي، ما دفع اللاجئين السودانيين إلى اتخاذ قرار بالخروج منها والتوجه إلى مدينة غوندر ثاني أكبر مدن الإقليم بعد عاصمته بحر دار.
يقول اللاجئ السوداني هشام لـ”نون بوست”، إنهم خرجوا سيرًا على الأقدام في مطلع مايو/ أيار 2024 من معسكر أولالا، وانضمّ إليهم لاحقًا الأشخاص الذين كانوا في معسكر كومر للأسباب ذاتها: رداءة الأوضاع الإنسانية وشحّ الغذاء والدواء، مشيرًا إلى أن الأزمة تفاقمت بعد هجمات المسلحين، حيث قاموا بنهب المواد الغذائية على قلّتها واستولوا على الأموال وعدد من الهواتف الذكية، ونتيجة لتلك الهجمات أُصيب أحد اللاجئين إصابة بليغة وتم إسعافه إلى مدينة قوندر، ومنها تم تحويله إلى أديس أبابا.
ووجّه هشام (اسم مستعار) انتقادات لاذعة لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وللحكومة الإثيوبية، قائلًا إن القوات الحكومية أوقفتهم بعد تحركهم بنحو 5 كيلومترات، واحتجزتهم داخل غابة في ظروف لا إنسانية لمنعهم من الوصول إلى مدينة قوندر، وأوضح أنهم دخلوا في إضراب عن الطعام للتعبير عن احتجاجهم على احتجاز السلطات لهم في الغابة.
وفي شأن مفوضية شؤون اللاجئين، قال محدثنا الذي اشترط عدم ذكر اسمه الحقيقي، إن المنظمة الأممية لم تبذل أي جهد لمساعدتهم، بل حثّتهم على العودة إلى المعسكرَين لافتًا إلى أنهم كلاجئين يفضلون البقاء داخل الغابة في العراء ومواجهة خطر الحيوانات المفترسة والثعابين وغيرها على العودة إلى المعسكر، بسبب انعدام الأمن جرّاء هجمات الميليشيات والعصابات المسلحة.
عالقون في غابات نائية
وفقًا لإحصائية تنسيقية اللاجئين السودانيين، يقدَّر عدد اللاجئين الموجودين داخل الغابة بـ 6 آلاف و80 شخصًا، منهم 2133 طفلًا، و1017 امرأة، و1719 رجلًا، و1135 مريضًا، و76 من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وإجابة عن سؤال “نون بوست” حول مطالب اللاجئين السودانيين، قال هشام إن الكثير منهم باتوا يطالبون بإعادتهم إلى السودان طالما أنه لا يتوفر الأمن في إثيوبيا، مشيرًا إلى أنهم قصدوا الجارة الشرقية هربًا من جحيم الحرب، وطالما لم يتوفر الأمن فلا داعي للبقاء، حسب تعبيره.
أضاف كذلك أن السلطات السودانية ممثَّلة في السفارة بأديس أبابا لم تقم بالاتصال بهم أو الاطمئنان على أحوالهم، مشيدًا في هذا الخصوص بالحملة الرقمية التي دشّنها عدد من النشطاء السودانيين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال إنهم كلاجئين لا دخل لهم بسياسة البلد المضيف وما يجري فيه من أحداث داخلية، لكن يتعيّن على السلطات الوفاء بتعهّداتها وحماية اللاجئين إلى حين تأمين عودتهم إلى بلادهم، مستطردًا أنهم تضرروا من فرض حالة الطوارئ في إقليم أمهرة، حيث لا تتوفر شبكة الإنترنت إلا في منطقة تبعد نحو 45 كيلومترًا من الغابة التي يقيمون فيها.
وأضاف هشام أن أقرب قرية إلى الغابة التي استقروا فيها تبعد نحو 3 كيلومترات، وتتوفر فيها المواد الغذائية بأسعار عالية تفوق قدرتهم المادية، إذ كشف أن قارورة المياه الصغيرة نصف لتر تباع في القرية بـ 50 بيرًا إثيوبيًا (ما يقارب 1 دولار أمريكي).
وقال إن ثلثَي اللاجئين الموجودين في الغابة من النساء والأطفال وكبار السن، بينهم مرضى وحوامل ومرضعات، يحتاجون إلى رعاية صحية وتغذية خاصة، لافتًا إلى أنّ الأيام الأخيرة شهدت 4 حالات ولادة في ظل الظروف الحالية.
مبادرة رقمية لمساعدة اللاجئين
ذو الكفل، المؤثر السوداني الأبرز على منصة إكس، قاد مع عدد من رفاقه الشباب من الجنسَين حملة رقمية لمساعدة اللاجئين السودانيين العالقين في غابات أولالا، حيث أسفرت جهودهم عن التعريف بالوضع الطارئ للاجئين العالقين داخل الغابة، كما تمكنت الحملة من استقطاب دعم يزيد عن 30 ألف دولار لتلبية الاحتياجات العاجلة لهم.
أجرى “نون بوست” مقابلة مع ذو الكفل، موضحًا أنه ظلَّ على تواصل مع العالقين منذ 20 مايو/أيار عبر أحد ممثلي اللجنة الإعلامية لتنسيقية اللاجئين العالقين في الغابة، وقال إن هذا الشخص يقطع مسافة 45 كيلومترًا من أجل التواصل معه وإرسال المواد الإعلامية وإبلاغه بالمستجدات، موضحًا أن العالقين يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة مثل مياه الشرب، حيث يذهبون إلى مسافة بعيدة للحصول على مياه غير نظيفة من مجرى سيل، ومن ثم يقومون بغليها وشربها.
كما أشار ذو الكفل إلى أن العالقين دخلوا في إضراب مفتوح عن الطعام منذ 23 مايو/ أيار بسبب شحّ الغذاء، وقرروا أن يتم تخصيص الموجود على قلّته للنساء خاصة الحوامل منهنّ، وللأطفال وكبار السن، أي أنهم اضطروا إلى الإضراب عن الطعام اضطرارًا وأنه لم يكن خيارهم.
وقال لـ”نون بوست” إنه ومجموعة من الشباب قرروا إطلاق حملة تبرعات رقمية لإغاثة العالقين، طالما أن المنظمات تتجاهل معاناتهم وكذلك الحكومة السودانية والسياسيين السودانيين المجتمعين حاليًا في أديس أبابا، لافتًا إلى أن هؤلاء السياسيين الذين يدّعون تمثيل المدنيين لم يبذلوا أي جهد للضغط على المنظمات المعنية باللاجئين، أو الضغط على الحكومة الإثيوبية بصفتها البلد المضيف.
أضاف محدثنا أنهم كشباب مستقلين لم يقتصر جهدهم على الحديث عن معاناة العالقين السودانيين وإيصال صوتهم فحسب، بل أطلقوا مبادرة لتبرعات رقمية تمكنت من جمع أكثر من 10 آلاف دولار خلال ساعات، واليوم فاقت الـ 30 ألف، بهدف تمكين اللاجئين العالقين في الغابة من شراء المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات العاجلة، لافتًا إلى أن عددهم كبير وهناك مخاطر تهدد حياتهم متمثلة في الثعابين والحشرات والعواصف الرعدية والأمطار، إلى جانب نقص الغذاء والدواء.
وعبر “نون بوست” حثّ ذو الكفل المنظمات المختصة والسفارة السودانية في أديس أبابا وقيادات الأحزاب السياسية المجتمعين حاليًا في إثيوبيا نفسها، على الإسراع في تقديم يد العون للعالقين السودانيين في غابات أولالا، موضحًا أن وضعهم حرج للغاية ويستلزم تدخلًا عاجلًا لإبقائهم على قيد الحياة.
وقال إنهم قاموا بتحويل جزء من المبلغ الذي تمّ جمعه إلى العالقين من أجل الاحتياجات العاجلة، وأشار في ختام حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه تأثر جدًّا بعد تلقّيه العديد من الرسائل والاستفسارات من خارج السودان من مواطنين مصريين وفلسطينيين وأردنيين وخليجيين وغيرهم، للسؤال عن كيفية مساعدة العالقين السودانيين في الغابات.
ووالله انه وصلتني رسائل من إخواننا في فلسطين
يسألونني: كيف ممكن نتبرع ونساعد إخوننا السودانيين في الغابة؟
وكذلك عشرات الرسائل من أشقائنا في مصر الحبيبة ..
وايضًا من عدة دول عربية أخرى .
شكرًا على سؤالكم
شكرًا على تضمانكم
شكرًا لكم من القلب#السودانيين_العالقين_بإثيوبيا
— ذوالكــفـل ® (@HkZuk) May 28, 2024
العودة إلى السودان
فيما يتعلق بمطالبة بعض اللاجئين السودانيين في إقليم أمهرة الإثيوبي بإعادتهم إلى بلدهم طالما أنه لا يتوفر الأمن في إثيوبيا، قالت المحامية المختصة في قضايا الهجرة واللجوء رحاب مبارك، إن اللجوء هو شكل من أشكال الحماية التي تمنحها الدولة المضيفة، لأن الشخص المتقدم بطلب اللجوء لم يعد قادرًا على العودة إلى وطنه الأم، نظرًا إلى تعرضه لتهديد أو خطر.
وأبدت مبارك خشيتها من فقدان طالب اللجوء وضعه وصفته كلاجئ وحقّه في إعادة التوطين في بلد ثالث في حالة سفره إلى بلده الأم، وذلك لأن وضعية اللجوء تُمنح لأن طالبها يعتبَر بحاجة إلى الحماية من وضع في بلده، وهذا هو السبب في أنه سعى للحصول على وضعية اللاجئ في بلد آخر.
وقالت لـ”نون بوست” إن هناك العديد من الحالات التي تُلغى فيها وضعية اللاجئ، منها إذا تبيّن أن الشخص الذي يتمتع بالحماية قد ارتكب جريمة حرب أو جريمة جنائية خطيرة وغير سياسية، أو إذا كان الشخص المعنيّ يشكّل خطرًا على أمن الدولة المستضيفة.
وأضافت أن العالقين السودانيين في غابات أولالا هم أدرى بحالهم نظرًا إلى أوضاعهم المأساوية وما سيقررونه، بما في ذلك قرار العودة إلى السودان رغم استمرار الحرب وإمكانية فقدان صفة اللجوء أو حق إعادة التوطين في بلد ثالث مستقبلًا.
تلقي هذه الأصوات والمحاولات بعض الضوء على معاناة السودانيين المتفاقمة في ظل غياب الاهتمام الإعلامي والسياسي عن التدهور المتسارع لظروفهم الإنسانية، وما تشكله من عبء نفسي وجسدي واقتصادي أيضًا على المدنيين الذين يدفعون أثمانًا قد لا تكون مرئية للجميع في مناطق النزاعات المسلحة.