تتماشى تركيا مع الايديولوجية الكمالية والمبادئ العلمانية التي يقر بها الدستور، وعلى أرض الواقع، هناك ضياع أو صراع واضح بين الهوية الإسلامية التي توارثها الأتراك عن الدولة العثمانية، وبين محاولات التغريب التي تستهدف شعبها وتاريخهم، ومع ذلك يمكن ملاحظة الطابع الإسلامي للدولة بسهولة من خلال مساجدها الموجودة في كل مدينة من مدنها.
يعلو الأذان في تركيا خمس مرات يوميًا بحسب الفريضة الإسلامية، لكن في تركيا يبدو الأذان مختلفًا قليلًا عن غيره في الدول الأخرى، وذلك لجمال صوت المؤذنين ومهارتهم العالية في جذب الناس إلى الاستماع إليهم، سواء من المسلمين أو غيرهم، وهناك أسباب عديدة تفسر هذا الاختلاف.
منع الأذان باللغة العربية لمدة 18 عام
الأذان باللغة التركية
“إن الدين لم يتدخل في شؤون الدولة، ولكن القوانين لم تمنع الدولة من التدخل في الشؤون الدينية” هذا ما نشره موقع “أ خبر” التركي في تقرير عن ذكرى منع قراءة الأذان باللغة العربية في تركيا، بأمر من مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، مع العلم، حظرت الدولة برئاسة عصمت إينون استخدام اللغة العربية حصرًا، وسمحت بتداول اللغات الأخرى لمن يشاء، مثل: الصينية والروسية والفرنسية والإنجليزية.
تم مناقشة هذا القرار لسنوات طويلة، وذلك بعد أن طالب الأديب التركي ضياء كوك ألب في أحد أبياته الشعرية بتتريك القرآن، حتى سُمع الأذان باللغة التركية من الشيخ حافظ رباط في مسجد الفاتح لأول مرة، وبعدها بأيام، أصدرت مديرية الشؤون الدينية في تاريخ 18 تموز عام 1932 تعميمًا بمنع تداول اللغة العربية أثناء الصلاة وقراءة القرآن الكريم والأذان بالتركية، وأمر أتاتورك بسجن الذين أصروا على استخدامها، وبعد عام واحد من إصدار قرار الحظر، ألقي القبض على المؤذن عمر أفندي و مصطفى عوني أفندي بسبب قراءة الأذان بالعربية في مدينة إزمير، أما بشأن مدة الحبس فهناك تضارب بين المصادر التي تشير إلى وصول فترة الحبس إلى ثلاثة أشهر وأخرى تؤكد على بلوغها إلى 30 سنة.
استمر هذا القانون حتى عام 1950، عندما سمح الرئيس السابق عدنان مندريس بقراءة الأذان باللغة العربية مجددًا، ولقب فيما بعد “شهيد الأذان”، ثم بدأت تركيا تشهد مرحلة جديدة من هجرات مواطنيها إلى العراق وسوريا لتعلم قراءة الأذان وبرعوا في إتقان مخارج الحروف وتحسين أصواتهم.
الأذان بأصوات تركية
تتضح ملامح اعتناء تركيا بالمساجد من خلال الفعاليات والأنشطة التي تقوم بها الحكومة طيلة العام لإرجاع المكانة التاريخية لها من جديد، وتحديدًا مع قدوم حزب العدالة والتنمية، لكن هذا الاحتفاء برز أيضًا في عهد الدولة العثمانية التي اهتمت بالثقافة والفنون بصفة عامة، واعتبرت إسطنبول عاصمة أو مركز الموسيقى الدينية، كذلك، خصصت داخل قصور السلاطين قسمًا خاصًت يهتم بالأذان واستطاعت أن تجمع بين العلم والجمال والمهارة الموسيقية.
كما أسست مدرسة “الحفاظ الأنديرون” التي تختص بتدريس المقامات الموسيقية المستخدمة في قراءة القرآن والأذان، إذ تعد هذه المقامات مذهبًا عثمانيًا خالصًا، ويصل عدد المقامات المستخدمة إلى خمسة عشر مقام، ولكل أذان مقامه الخاص، فمثلًا يستخدم مقام الصبا في أذان الفجر لتميزه بالهدوء وما يتركه من خشوع لدى السامع، أما وقت صلاة الظهر فيقرأ الأذان على مقام البيات أو العشاق، لإيقاعه السريع والحركي الذي يوافق حركة الناس في الأسواق وأعمالهم، وحين يأتي وقت العصر، فإن مقام الراست هو الأنسب لوقاره وفخامته ولنغمة البهجة والسرور التي تطلقها إيقاعاته، ويطلق عليه أبو المقامات، أما أذان المغرب فيتماشى مع مقام السيكا الذي يتناسب مع مدة فترة المغرب القصيرة والسريعة، وأخيرًا يرفع أذان العشاء على مقام الحجاز لهدوء نغمته والذي يتوافق مع سكون الليل، فيخفف عن الناس تعبهم وارهاقهم طوال اليوم. وتتسم جميع المقامات بالوقار والرصانة والتي استخدمت أيضًا في إيران والمملكة السعودية ومصر ولكن بشكل محدود جدًا، مثل: مقامي الحجاز والراست.
مؤسسة تدريس الأذان
نجحت تركيا في تحويل هذه الدعوة إلى علم يدرس ومنصب يفتخر به أصحابه، فهيئة الشؤون الدينية تشترط مجموعة من التعليمات على من يريد أن يكون مؤذنًا، ومنها: التحاقه بمدرسة الأئمة والخطباء، وأن يكون متخرجًا من الثانوية ولديه صوت جميل ومرونة، والأهم من ذلك، أن يكون حافظَا للقرآن الكريم كاملًا، ومخارج حروفه سليمة ودقيقة، وعند اكتمال هذه المتطلبات، يجرى امتحانًا لتقييم القدرات، خاصة لمن يجري تعيينهم في المساجد المزدحمة والتي تحمل أهمية تاريخية كبيرة مثل مسجد السلطان أحمد والسليمانية والفاتح.
وهناك المسابقة السنوية التي تنظمها الهيئة، بعد عام كامل من الدورات لتدريب المؤذنين على المقامات، إذ تتكون اللجنة من أساتذة موسيقيين يراقبون الصوت والنفس ومخارج الحروف.
استطاعت تركيا إعلاء قيمة الأذان الدينية ووضعت قواعد واضحة لعلاقته الوثيقة مع العلم والموسيقى، فلقد جعلت لكل أذان ميزانًا ومقياسًا، والهدف من هذا كله تلقى إستجابة الناس للصلاة وجذب الذين يذهبون للمسجد والذين لا يذهبون أيضًا لجمال الفن الإسلامي.