بعد أن زار العاصمة الإماراتية أبو ظبي مطلع الشهر الحاليّ، ثم أتبعها الأسبوع الماضي بزيارة مماثلة إلى القاهرة التقى فيها برئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، خرج الرئيس الإريتري أسياس أفورقي بتصريحات نادرة عبر التليفزيون الرسمي المملوك للحزب الحاكم، وصف فيها “الحديث عن وجود تعزيزات عسكرية مصرية في إريتريا بأنه مجرد فبركات صاغتها المخابرات السودانية والإثيوبية لتبرير نشر قواتهما على الحدود مع بلاده”.
واتهم أسياس أفورقي تركيا بالقيام بما أسماه دور توسعي في منطقة القرن الإفريقي، خاصة في السودان والصومال، وتساءل أفورقي عن مغزى هذا التوسع، قائلاً: “ماذا تريد تركيا من التوسع في المنطقة، خصوصًا في السودان والصومال؟ هل تريد استعادة النفوذ العثماني؟ ماذا عن الاتفاقية التركية السودانية في سواكن؟ لماذا ما تخفيه الاتفاقية أكثر مما أعلنته؟ مهما كان مستوى العلاقات بين الخرطوم وأنقرة فإن تأسيس القواعد مبدأ مرفوض، وهذا يعتبر تهديدًا لأمن المنطقة وأمن البحر الأحمر”، حسب ما صرّح به الرئيس الإريتري.
نفي إريتري يناقض الواقع على الأرض
لنبدأ من نفي أسياس أفورقي وجود قوات مصرية وحشود إريترية على الحدود مع السودان، إذ أكّد مواطنون سودانيون يعيشون في منطقة المثلث الحدودي (السودان، إثيوبيا، إريتريا) مشاهدتهم لتحركات عسكرية غير معتادة على الجانب الإريتري.
شكَّلت اللحظة التي وضع فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدميه فوق أرض جزيرة سواكن السودانية، صدمة كبرى في صفوف دول “محور أبو ظبي” الذي تمثله حتى اللحظة كل من أبو ظبي والرياض والقاهرة وأسمرة
كما قطع مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود حامد بأن إعلان حالة الطوارئ وإغلاق الحدود وحالة الاستنفار بولاية كسلا تأتي ردًا على التحركات العسكرية الإريترية المصرية الموجه ضد بلاده انطلاقًا من منطقة “ساوا الإريترية.
وتأتي تصريحات محمود الخميس الماضي، قاطعة كل التكهنات التي راجت مؤخرًا بأن إعلان الطوارئ لا علاقة له بالعلاقات الإريترية السودانية، ولتؤكد أن العلاقة بين الخرطوم وأسمرة تحوم حولها الشكوك، بينما أكّد مصدر صحفي سوداني أن تلك العلاقات شابها التدهور منذ شهور وتفجّرت بعد زيارة نائب الرئيس السوداني لأسمرة مطلع الشهر الحاليّ التي تعاملت معها سلطات أفورقي بتعتيم كامل وكأنها لم تحدث من الأساس.
اتفاق جزيرة سواكن كلمة السر
شكَّلت اللحظة التي وضع فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدميه فوق أرض جزيرة سواكن السودانية، صدمة كبرى في صفوف دول “محور أبو ظبي” الذي تمثله حتى اللحظة كل من أبو ظبي والرياض والقاهرة وأسمرة، وقد بدا أردوغان مرتاحًا لحصوله على حق إدارة جزيرة سواكن التي تُجسّد العصر الذهبي للتوسع العثماني في الضفة الغربية للبحر الأحمر.
وأحدث هذا الاختراق الإستراتيجي حالة من الهلع الشديد لدى عرَّاب المحور محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي بشكلٍ خاص، حيث رأى فيه تهديدًا مباشرًا لوجود قاعدته العسكرية التي يجري إنشاؤها في ميناء عصب الإريتري، كما صعُب عليه نجاح التحالف القطري التركي في استقطاب السودان وإثيوبيا إلى صفه وهما الدولتان اللتان تملكان تأثيرًا ونفوذًا لا يستهان به في إفريقيا.
لذلك، استدعى ولي عهد أبو ظبي على عجل وزير الخارجية المصري سامح شكري ثم الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لمناقشة الاتفاق التركي السوداني ومحاولة تطويقه بكل ما يمكن من إجراءات؛ فكانت الحشود العسكرية المصرية الإريترية.
معهد سترافور الأمريكي كشف العام الماضي أن وجود أبو ظبي في ميناء عصب طويل المدى، ويتجاوز الدعم المؤقت للعمليات العسكرية في اليمن
تناقضات أفورقي
وبالعودة إلى تصريحات أفورقي، نجد أنه من الغريب أن يرفض الرجل الوجود التركي ويعتبره مهددًا لأمن المنطقة وهو نفسه قد سمح لدولة الإمارات بالتوسع والانتشار في المنطقة، فقد أجّر لها ميناء ومطار عصب منذ العام 2015.
إذ تُظهر الصور الجوية للميناء انتشارًا كبيرًا للسفن العسكرية الإماراتية على طول الشريط الساحل، بما في ذلك السيطرة على الميناء الذي يعد من أفضل الأماكن لإرساء سفن الإنزال، فضلاً عن سهولة التنقل بينه وبين المواني اليمنية والسيطرة على باب المندب، حيث تمر 3.3 ملايين برميل نفط يوميا و21 ألف قطعة بحرية سنويًا، بحسب تقرير لقناة الجزيرة.
وكان معهد سترافور الأمريكي قد كشف العام الماضي أن وجود أبو ظبي في ميناء عصب طويل المدى، ويتجاوز الدعم المؤقت للعمليات العسكرية في اليمن، ويعتقد المحلل العسكري في المعهد سيم تارك أن هذا الانتشار لا يبدو في إطار الدعم المؤقت للعمليات في اليمن، بل يدل على استخدام مطول ومتطور للقدرات الإماراتية العسكرية الموجودة الآن في المنطقة؛ مما يعني سعي الإمارات لتأسيس قاعدة عسكرية ثابتة في ميناء عصب على ساحل البحر الأحمر.
توسع إماراتي مستمر في القرن الإفريقي
في مايو/أيار من العام الماضي، نشر موقع “بلومبيرغ” تقريرًا عن إنشاء الإمارات قاعدة عسكرية في مدينة بربرة على ساحل خليج عدن، ونقل عن مسؤولين صوماليين في جمهورية أرض الصومال “صومالي لاند”، قولهم إن القاعدة العسكرية التي تخطط لبنائها دولة الإمارات العربية المتحدة على الشواطئ الصومالية قد تضيف قاعدة بحرية إلى المطار العسكري، بحيث توسع من نفوذ الإمارات في منطقة القرن الإفريقي.
ويشير التقرير إلى أن الإمارات وقعت عقدًا لاستئجار المطار في مدينة بربرة من سلطات “أرض الصومال”، لمدة 25 عامًا، لافتًا إلى أن المفاوضات لا تزال جارية بخصوص الشروط، بحسب وزير خارجية “أرض الصومال” سعد علي شير.
لم يتطرق أسياسي أفورقي إلى كل ذلك نسبة لعلاقته الشخصية المريبة مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي التقى به عدة مرات خلال فترة زمنية قصيرة، آخرها في مطلع الشهر الحاليّ وسط أنباء عن أموال طائلة ضختها أبو ظبي لنظام “الجبهة الشعبية” لمنع سقوطه بعد أن تظاهر الآلاف من الإريتريين في أسمرة لأول مرة أواخر العام الماضي، كما أشارت مصادر خاصة إلى أن لقاء أفورقي مع بن زايد تطرق إلى التعاون العسكري بين الإمارات وإريتريا.
رسائل سياسية إلى السودان وإثيوبيا
حملت تصريحات أفورقي وقبلها زيارته إلى مصر رسائل حادة إلى كل من السودان وإثيوبيا، فقد أتى في وقت تشهد فيه العلاقات السودانية المصرية تصعيدًا سياسيًا واضحًا بعد استدعاء الخرطوم لسفيرها في القاهرة عبد المحمود عبد الحليم.
وعمد السيسي إلى توجيه رسائل أخرى إلى إثيوبيا من خلال استقباله أسياس أفورقي – العدو العنيد لأديس أبابا ـ كسلاح محتمل للرد على الموقف الإثيوبي المتعنّت تجاه المطالبات المصرية المتكررة بالتنسيق الكامل في إدارة مرحلة ملء خزان سد النهضة، حتى لا يتعرّض أمن مصر المائي لخطر محدق، على خلفية فشل المفاوضات الثلاثية بين الدولتين والسودان في تجاوز المشاكل العالقة عن تقرير الخبراء الاستشاريين بشأن مرحلة ملء الخزان.
لماذا هاجم أفورقي تركيا؟
موقف رئيس النظام الإريتري الأخير وهجومه على تركيا، مستغرَب ويدل على التخبط الذي يعيش فيه الرجل الذي يسعى بشتّى السبل لإرضاء أبو ظبي فقد وقف إلى جانب الأخيرة في الأزمة الخليجية، رغم علاقاته التي كانت متميزة مع قطر منذ عهد الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة والأمير الحاليّ الشيخ تميم بن حمد، إذ زار أفورقي الدوحة نهاية العام قبل الماضي، وكانت قطر توسطت سابقًا في النزاع الحدودي بين أسمرة وجيبوتي وأسفرت الوساطة على حل وسط للمشكلة.
خصّ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي قناة الجزيرة بهجوم لافت، قائلاً: “مكتبها الذي تم تأسيسه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا يحمل أجندة ضد إريتريا، وله أهداف خفية يريد تحقيقها في المنطقة”
وكذلك كانت علاقات تركيا مع أسياس أفورقي جيّدة إلى حدٍ كبير، لدرجة أن حكومة أردوغان ألغت بصورة مفاجئة العام الماضي مهرجانًا ثقافيًا كبيرًا كانت تعتزم إقامته مجموعات شبابية إريترية في مدينة إسطنبول، وقامت تركيا بإلغاء الفعالية استجابة لطلب السلطات الإريترية رغم الموافقة المسبقة التي نالها المنظمون ورغم الخسائر الهائلة التي تكبدوها.
وإضافة إلى ذلك، تعد الخطوط الجوية التركية واحدة من شركات الطيران المعدودة التي تُسيِّر رحلات منتظمة من وإلى مطار أسمرة.
هجومه على قناة الجزيرة
في تصريحاته النادرة، خصّ الرئيس الإريتري أسياس أفورقي قناة الجزيرة بهجوم لافت، قائلاً: “مكتبها الذي تم تأسيسه في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا يحمل أجندة ضد إريتريا، وله أهداف خفية يريد تحقيقها في المنطقة”.
وأضاف أن مكتب الجزيرة في أديس أبابا عندما تم تأسيسه رافقته حملة كبيرة في إثيوبيا في وسائل الإعلام كافة، وتساءل: “لماذا هذا التسويق المبالغ فيه، هذا يشير إلى أن المكتب هدفه ليس إعلاميًا وحسب، وإنما أيضًا يحمل أجندة ضد إريتريا وأهدافًا خفية يريد تحقيقها في المنطقة، فمثلاً خبر وجود قوات مصرية في إريتريا كان مكتب أديس أبابا هو المصدر”.
اتخاذ الحكومة التركية قرار بإيقاف رحلات ناقلتها الوطنية إلى إريتريا، سيكون ضربةً قاصمة لأسمرة التي تعتمد على السياحة الأوروبية بدرجة كبيرة، حيث لا منفذ أمام مواطني دول أوروبا إلى أسمرة إلا عبر الخطوط التركية
هنا نستطيع أن نتفهم موقف أفورقي من قناة الجزيرة ومكتبها في أديس أبابا، لأنه يفرض تعتيمًا كاملًا على وسائل الإعلام في إريتريا التي لا يوجد فيها سوى تليفزيون واحد وإذاعة واحدة وكذلك صحيفة وإذاعة واحدة وجميعها مملوكة للحزب الحاكم وناطقة باسمه، لذلك من الطبيعي أن يعتبر افتتاح مكتب قناة الجزيرة مهددًا لنظام حكمه.
كما أن أسياس أفورقي يتخوف من اختيار قناة الجزيرة للصحفي محمد طه توكل مديرًا لمكتبها في إثيوبيا، نسبة لتمتع الأخير بعلاقات جيدة في الداخل الإريتري، فقد نجحت مصادره الخاصة في الكشف عن التحركات العسكرية المصرية في إريتريا قبل وسائل الإعلام الأخرى.
هل ستوقف الخطوط التركية رحلاتها إلى أسمرة؟
ذكرنا بالأعلى أن الخطوط الجوية التركية واحدة من الشركات القليلة التي تُسيّر رحلاتٍ منتظمة إلى العاصمة الإريترية أسمرة، بعد أن أوقفت العديد من شركات الطيران رحلاتها عن هذا الخط لعدم الجدوى الاقتصادية.
ورغم أن تركيا تنتهج العقلانية والهدوء في سياستها الخارجية، فإن اتخاذ الحكومة التركية قرار بإيقاف رحلات ناقلتها الوطنية إلى إريتريا ردًا على هجوم أفورقي وتصريحاته ضد أردوغان، سيكون ضربةً قاصمة لأسمرة التي تعتمد على السياحة الأوروبية بدرجة كبيرة، حيث لا منفذ أمام مواطني دول أوروبا إلى أسمرة إلا عبر الخطوط التركية بعد أن أوقفت الخطوط القطرية رحلاتها من وإلى إريتريا منذ مطلع العام الماضي 2017 قبل اندلاع الأزمة الأخيرة.