رُسخت القبضة الأمنية الحديدية التي تحكمت بمفاصل المجتمع السوري وتغلغلت في أدق تفاصيل الحياة العامة السورية مع استيلاء الأسد الأب على السلطة عام 1970 واعتماده على أجهزة أمنية حوّلها إلى خط الدفاع الأول والأخير عن نظام حكمه، إذ عمد إلى إعادة ضبط بنية الجيش السوري الطائفية وهندسة الأفرع الأمنية العملياتية، لا سيما إبان انتفاضة الثمانينيات في حماة ثم محاولة شقيق الأسد الأب، رفعت، الانقلاب عليه.
وقد تعاقبت على الأجهزة الأمنية عدة متغيرات في بنيتها الهيكلية وتجاوز عملها حدود الدولة السورية إلى دول الجوار دون أن يتأثر عملها أبدًا، ما يدل على وجود ديناميكية داخلية في طريقة عمل هذه الأجهزة، جعلتها أجهزة ظلٍّ للنظام، فكل من فيها يعرف دوره ومهامه ويستمر بالقيام بها في كل الظروف، لا سيما مع الصلاحيات المطلقة التي تمتعت بها، وحالة التنافسية في الولاء والتي جعلت منها نموذجًا للترهيب والرعب.
مؤخرًا، وفي سابقة مثيرة للاهتمام والتندر والبحث معًا، أصدرت وزارة الداخلية في حكومة النظام مجموعة من التعميمات لوحداتها الشرطية، منها دعوتها لهم بالتقيد بالقوانين التي تكفل حقوق المشتبه بهم المقبوض عليهم، وإبلاغ ذويهم بمكان وجودهم لدى الجهة التي ألقت القبض عليهم.
ودعت الوزارة في التعميم الذي نشرته أبريل/نيسان الفائت، إلى تجنب اللجوء للتعذيب الجسدي أو المعنوي (الإهانة والإكراه والتهديد والإساءة بالكلام) في أثناء التحقيق لانتزاع الاعتراف القسري، كونها تنتهك أحكام الدستور والقانون الذي يجرم جميع أشكال التعذيب، إضافة إلى دعوتها للتعاون البناء مع الجهاز القضائي والتقيد بالمدد القانونية للتوقيف والتحقيق، بالإضافة إلى عدم اللجوء لطلب تمديد التحقيق لفترات طويلة إلا في الجرائم الجنائية الخطيرة، والالتزام بكل القرارات والتعاميم المتعلقة بهذا الشأن.
ومما جاء في التعميم مطالبة الوزارة بتوخي الحذر في التعامل مع المعلومات التي ترد من مخبرين وأصحاب سوابق وأشخاص مقبوض عليهم عند التحقيق معهم، والتحقق من دقتها قبل اتخاذ أي إجراء بشأنها، عدا عن قصر استخدام إذاعة البحث تجاه من تتوافر ضده الأدلة المهمة على تورطه بارتكاب الجريمة موضوع التحقيق، وعدم إذاعة البحث إلا من خلال المفتاح الخماسي مع الرقم الوطني، وبعد التأكد من هويته وتورطه بالجريمة، وعدم الاكتفاء باعتراف أشخاص عليه دون أدلة ومعلومات تؤيد ذلك، والحصول على موافقة قضائية لاستمرار مفاعيل إذاعة البحث، وعدم إساءة استخدام نافذة الأحوال المدنية في استكمال بيانات المذاع البحث عنهم من خلال اختيار عشوائي لأسماء لا تربطهم صلة بالجريمة.
نظام الأسد كان قد عمل على إضعاف وزارة الداخلية لصالح تقوية الأجهزة الأمنية التي يثق بها لحماية نظامه أكثر من جهاز الشرطة، وتعتبر قياسًا بباقي الأجهزة الأمنية أقلها اعتمادًا على الطائفية في انتقاء منتسبيها، وذلك نتيجة العدد الكبير للمنتسبين من ناحية، وتركيز النظام على تطييف الجيش والأجهزة الأمنية كونها الحامي الرئيسي للنظام، فيما تهيمن شعبة الأمن السياسي عليها بشكل رئيسي.
في حديثه لـ”نون بوست”، يقول الباحث محمد منير الفقير، وهو شريك مؤسس لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، إن القرار موجّه للأفرع الأمنية التابعة إداريًا لوزارة الداخلية فقط، رغم أن التعذيب فيها والتجاوزات محدودة مقارنة بالأفرع الأخرى التابعة لوزارة الدفاع أو القصر الجمهوري، إلا أن الهدف من القرار إيصال رسالة شكلية لممارسة سياسات تمنع التجاوزات في مراكز التوقيف وتعطي انطباعًا أن هناك تحركًا رسميًا إيجابيًا فيما يتعلق بالبرنامج العربي “خطوة بخطوة” وخلق بيئة آمنة لعودة اللاجئين.
هيكلية الأجهزة الأمنية
تتميز الأجهزة الأمنية السورية بهالة كبيرة من الغموض والسرية المطلقة، إلا أن المتفق عليه هو توحشها المنافس لتوحش العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية في تعاملها مع الخصوم، وقد كانت صور “قيصر” خير دليل على سلوكها.
تتألف تلك الأجهزة من أربع إدارات تسمى “شعب” بإشراف مكتب الأمن الوطني الذي ينتهي عند القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة (رئيس الدولة) والمسؤول عن إصدار الأوامر لجميع الفروع الاستخباراتية، وهذه الشعب هي شعبة “المخابرات الجوية” (الأكثر إجرامًا والأشد قبضة) وشعبة “الأمن العسكري”، وشعبة “الأمن السياسي”، وشعبة “المخابرات العامة-أمن الدولة”، ولكل منها مهامها الخاصة والمستقلة عن غيرها، أما مقرها الرئيسي ففي العاصمة دمشق ويتبع لها عشرات الفروع في كل المحافظات السوريّة، ويحمل كلّ فرع من الفروع الأمنيّة رقمًا يميزه عن البقيّة.
المخابرات الجوية: يقع مقرها الرئيسي في “الآمرية” بجانب رئاسة الأركان القريبة من ساحة الأمويين، وتعتبر الأكثر ولاءً للنظام، وتتألف من 12 فرعًا، 6 منها في العاصمة دمشق والباقي تغطي أنحاء سوريا.
أسسها الأسد الأب وأَولاها اهتمامًا واسعًا بحكم أنها ترتبط باختصاصه كطيار. تصنّف على أنها أحد المكونات الأمنية بوزارة الدفاع، لكن ليس للوزارة أي سلطة عليها في الواقع، إذ تعد مهمتها الأساسية حماية سلاح الجو السوري، إضافة إلى طائرة الرئيس وأمنه خلال وجوده خارج سوريا، ومراقبة عناصر وضباط القوى الجوية وأمن المطارات، وكان له دور بارز في قمع جماعة الإخوان المسلمين واختراق الحركات الإسلامية وإفشال عدة محاولات انقلابية.
شعبة الأمن العسكري: الذراع الأمنية لمؤسسة الجيش والقوات المسلحة في المجتمع السوري، وتتبع لوزارة الدفاع إلا أن التقارير تشير لسيطرة المخابرات العسكرية على الوزارة. مهمتها الظاهرية مراقبة العسكريين للتأكد من ولائهم، إلا أن سلطتها الفعلية أكبر بكثير كاعتقال واستجواب المدنيين والسيطرة على عمليات البيع وشراء الأملاك قرب حدود البلاد والقواعد العسكرية.
تتألف من 12 فرعًا أهمها وأقدمها الفرع 235 (فرع فلسطين) حيث يعادل حجم المهام الموكلة له حجم إدارة استخباراتية كاملة، وله نشاط داخلي وخارجي. ومن المفترض أن يكون هذا الفرع متخصصًا بالنشاط ضد “إسرائيل” والحركات والأحزاب والمنظمات والأفراد الفلسطينيين داخل القطر وخارجه، إلا أن مهامه توسعت كثيرًا وأضحت تشمل مطاردة الحركات الإسلامية والعمل على اختراقها ومحاولة توجيهها والتحكم بها، عبر قسم مكافحة الإرهاب.
وهناك فروع أخرى تتبع هذه الإدارة منها: فرع التحقيق العسكري (248)، الفرع الإداري (291)، فرع شؤون الضباط (293) ومهمته مراقبة الضبّاط، فرع أمن القوات (294)، الفرع الفني (211) ومهمته مراقبة الإنترنت، فرع الاتصالات (225)، فرع اللاسلكي (237)، فرع سريّة المداهمة والاقتحام (215)، فرع الدوريات (216)، فرع المنطقة (227)، فرع الجبهة–سعسع (220).
شعبة الأمن السياسي: تتبع نظريًا فقط لوزارة الداخلية، تُشرف وتقيّم أداء وزير الداخلية وضباطه وعناصره والوحدات الشرطية كافة، أي أنها عمليًا تعد إدارة مستقلة وتتمتع بتواصل مباشر مع رئيس الجمهورية. وهي أكثر الأجهزة الأمنية تغلغلًا في المجتمع واحتكاكًا بالمدنيين وانتشارًا بين المواطنين وتغطيةً لكامل القطر وشرائح المجتمع.
ولها فروع في المحافظات، ففي دمشق وحدها توجد عدّة فروع، مثل فرع التحقيق وفرع الإشارة وفرع الأحزاب السياسيّة والهيئات، وآخر بشؤون الطلبة، وفرع المدينة، وفرع الدوريات والمراقبة، وفرع المهام الخاصة، وفرع التحقيق، وفرع المعلومات، وفرع الأمن الاقتصادي، وفرع الأجانب والعرب.
شعبة المخابرات العامة: هي أقدم جهاز أمني، وكانت تابعة في السابق لوزارة الداخلية، لكنها الآن تتبع بشكل مباشر للرئيس تمامًا كجزء من مكتب الأمن القومي، تضم 12 فرعًا مركزيًا إضافة إلى فروع عاملة في جميع محافظات، تأخذ أرقامًا ثلاثية كما تضم الإدارة المعهد العالي للعلوم الأمنية الذي تم إحداثه عام 2007 بهدف إخضاع المبتعثين والمندوبين للخارج لدورات أمنية مكثفة، أهم الفروع المتمركزة في العاصمة دمشق والتابعة لهذه الإدارة هي: فرع المعلومات (255)، فرع التحقيق (285)، فرع مكافحة الارهاب (295)، فرع مكافحة التجسس (300)، الفرع الخارجي (279)، الفرع الفني (280)، الفرع الداخلي (251)، فرع التدريب (290)، الفرع الاقتصادي (260).
ويمكن ملاحظة إحداث روسيا أفرعًا أمنية جديدة مكّنتها من التحكم في عدة نشاطات ضمن الجغرافية السورية، منها:
- فرع الأمن الرقمي: يتبع شعبة الأمن السياسي بإشراف روسي مباشر.
- فرع أمن المنشآت (الفرع 108): يتبع إدارة أمن الدولة، ويتضمن عدّة أقسام ويتبع له مفارز في كل المدن السوريّة، وتكمن مهمته الأساسيّة في تأمين الحماية للمواقع والمؤسسات والمنشآت.
- الفرع (24): يتبع إدارة المخابرات الجويّة، ومهمته مراقبة حركة التنقل من وإلى سوريا.
منهجية العمل والأداء
من المعلوم أن وظيفة أجهزة الاستخبارات العالمية تكمن في حماية الدولة وأمنها وتأمين سير الحياة العامة، بسرّيّة تامة، فيما تبرز مهمة الأجهزة الأمنية السورية في حماية السلطة الحاكمة فقط عبر سلوك مفتوح لارتكاب أي تجاوز، فقد تحوّلت سلوكيات الأجهزة الأمنية عمومًا إلى جملة من القوانين أهمها الصلاحية المفتوحة التي أعطيت لها من اعتقال وتفتيش وتعذيب وترهيب والتعتيم ومراقبة الاتصالات والتوقيف العرفي، وحظر السفر والقتل السري دون التحقيق بأسباب هذه الحوادث والحرمان من المحاكمات العادلة.
لا سيما أنها ضمنت حسب قانون الطوارئ الصادر 1962 ودستور عام 1973 عدم قدرة أي مؤسسة أو سلطة في الدولة، حتى القضائية منها، على محاسبتها، ووجود قوانين تمنع تحريك الدعوى العامة بحق أي من العاملين في الأجهزة الأمنية حال ارتكابهم لجرائم في أثناء قيامهم بمهامهم أو في معرض قيامهم بها، ما أدى بالمحصلة إلى تسلّمها دورًا كبيرًا في صنع السياسة الداخلية والخارجية السورية.
تقارير حقوقية كانت قد أشارت لهذا السلوك والأدوات التي ترقى لجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب كما حصل في مجزرة مدينة حماة 1982، وقد عزّز ذلك السلوك تطييف البنية الأمنية، إذ إن أغلب عناصر الأجهزة الأمنية والفاعلين فيها من الطائفة العلوية لتحقيق معيار الولاء، وكل ذلك كان يجري بمنتهي السرية قبل اندلاع الثورة السورية، وهو ما أدى إلى غياب المعلومات الدقيقة عن تركيبة وسياسة وطبيعة عمل هذه الأجهزة وآلية تجنيدها، عكس مرحلة ما بعد الثورة، فقد أتاحت الثورة المعلوماتية توقّع ديناميكية النظام السياسية في التعامل مع الاحتجاجات عبر العنف المفرط للأجهزة الأمنية، والتي أكدها تسريب المصور العسكري المنشق “قيصر” عشرات آلاف الصور لآلاف الضحايا وعليهم آثار تعذيب وحشي وتجويع حدّ الموت.
ولم يكن من العبث أن تصف منظمة “العفو الدولية” سجن صيدنايا العسكري بالمسلخ البشري بسبب عمليات القتل المرعبة والبشعة داخل أقبيته، واستخدام أساليب تعذيب متنوعة لانتزاع المعلومات.
وقد لخصت دراسة لـ”مركز عمران”، مكمن الخلل والانحراف في عمل هذه الأجهزة بعدة أمور: الأول البُنية الأمنية المتشعبة التي ساهمت في تطويق الحركة المجتمعية والسيطرة على جميع جوانب الحياة اليومية العادية للمجتمع، والثاني متعلق بوظيفة هذه الأجهزة التي كانت تتسم بالسيولة واللامحدودية، باستثناء وظيفة تثبيت وتعزيز عوامل استقرار النظام الحاكم، والثالث فساد العقيدة الأمنية التي قامت عليها الأجهزة الأمنية السورية المبنية على أساس الولاء المطلق لرأس النظام وانعكاس ذلك على سوء الأداء المهني، إضافة إلى التداخل الشديد في مهام الأجهزة الأمنية الذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد التضارب في السلوكيات والقرارات، عدا عن حالة التنافس الشديد بين الأجهزة الأمنية والتنافر بينها ومراقبة بعضها البعض في سبيل خدمة رأس النظام، والفساد المستشري فيها.
يتفق الباحث منير الفقير في أن الانحراف والخلل في هذه الأجهزة ناتج عن أن النظام بالأصل غير شرعي وأقلوي، وبالتالي يريد أن يعوّض النقص بشرعيته عبر أمرين: التعذيب المفرط من أجل إرهاب الناس، والإخفاء القسري من أجل ابتزاز الناس وتخويفهم، والغرض من ذلك كله قمع أي حراك ضده وتحويل الحاضنة المجتمعية لطبقة إضافية تحميه مُجبرة من أي طرف معارض بسبب خوفها من رده فعله الإجرامية تجاهها.
تراكم خبرة إجرامية
في فبراير/شباط الفائت وللمرة الأولى أعاد نظام الأسد هيكلة قيادات ضمن أجهزته الأمنية، فأصدر تعميمًا سريًّا عن مدير مكتب الأمن الوطني يطلب من خلاله ربط كل الأفرع الأمنية التابعة لشعبتَي المخابرات العسكرية والأمن السياسي وإدارتَي المخابرات العامة والمخابرات الجوية بمكتب الأمن الوطني، وإعلان مسؤولية الأمن الوطني في الإشراف المباشر على هذه الفروع وإدارته لعملية التنسيق بينها في محاولة منه لتقليص صلاحيات قادة أجهزته الأمنية التي انقسمت بالولاء لصالح الجناحين الإيراني والروسي، إضافة إلى رغبته في الالتفاف على العقوبات والملاحقات الني قد تطاله مستقبلًا.
إلا أن تقارير عدة لفتت إلى أنه لا تغيير جوهري في بنية تلك الأجهزة وأن تلك الإجراءات لا تعدو عن كونها دعائية، فسرّ قوة النظام واستدامة وجوده تكمن في هذه المنظومة المتوحشة التي اكتسبت خبرة في التعامل القمعي مع الشعب السوري كأفراد وطوائف وعشائر وحركات.
حتى على المستوى الدولي والإقليمي وبعد إخضاع المجتمع المحلي، تدخلت المنظومة الأمنية في لبنان ونفّذت عمليات سريّة ضد التنظيمات الفلسطينية وتعاملت مع حزب العمال الكردستاني المناهض لتركيا، إضافة إلى إجراء عدة عمليات في عواصم أجنبية، فضلًا عن استضافتها سجونًا سرية ساعدت في نقل أو تعذيب أشخاص يشتبه في كونهم “إرهابيين” بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001.
حسب ما كشفته منظمة حقوقية أمريكية، فإن سوريا واحدة من 54 بلدًا شاركت في برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) الخاص بتسليم المعتقلين وتعذيبهم في السجون السوداء، بأساليب مختلفة بما في ذلك فتح سجون سرية على أراضيها والمساهمة في القبض على المشتبه بهم ونقلهم واستجوابهم وتعذيبهم وتقديم المعلومات الاستخباراتية وفتح مجالها الجوي للرحلات السرية.
ما يعني أن الأجهزة الأمنية تحولت إلى ماخور للأجهزة الاستخباراتية العالمية، فتقوم بالأعمال التي لا يمكن أن تقوم بها تلك الأجهزة العالمية المتقدمة بسبب القيود القانونية في دولها، وهو ما يبرر مساهمة الاستخبارات العالمية بإطلاق يد أجهزة الرعب القمعية السورية لحماية النظام الحاكم وتثبيت سلطته وإلغاء الدولة.
النظام قدم نفسه أمام العالم أنه وكيل أمني في منطقة حساسة بالشرق الأوسط، باعتباره بات يمتلك قاعدة بيانات لكل المطلوبين والمتشددين النوعيين في العالم الذين قاتلوا في سوريا، حسب حديث الباحث الفقير، منوهًا إلى أن النظام أراد بذلك ابتزاز تلك الدول لاعتماده كوكيل أمني لديهم في المنطقة قادر على التفرد بممارسة مهام أمنية قذرة في انتزاع المعلومات لا يملك أحدًا غيره تلك القدرة كونه متفلتًا من أي قيود قانونية رغم ضعفه السياسي والاقتصادي.
مفرخة التطرف
إلى ذلك، يمكن الجزم بأن الفكر المتطرف في سوريا قد تخرّج في سجون الأفرع الأمنية المروعّة، ويعد سجن صيدنايا اليوم أحد أكبر الأماكن التي يستخدمها النظام لتفريخ الفكر المتطرف وإنتاج متشددين يستفيد منهم عند الحاجة عبر إطلاق سراحهم ليكونوا نواة تنظيم متطرف عامل على الأرض.
وعادة ما تكون هذه الفئة معبأة بالأفكار المتشددة لتنفيذ مهمات يستفيد منها النظام إعلاميًا بطريقة غير مباشرة لصالحه عبر دعاية مكافحة الإرهاب، ويعد التعذيب الوحشي إلى جانب اختلاط المتشددين التكفيريين بالمساجين العاديين أهم سببين لتأصيل هذا الفكر، وإعادة صياغة الأفكار الساعية للانتقام، وهو ما تريده تلك الأجهزة عمومًا.
يمكن القول إنه لو حصل انتقال سلمي للسلطة، وهو افتراض بعيد بالنظر للوقائع الحالية، فإنّ أمام أي سلطة جديدة تحديات جسيمة تكمن في كيفية التعامل مع هذا الجهاز البوليسي المتجذر ليس في عمق ومفاصل الدولة السورية فحسب، بل في شبكة علاقاته بدول المنطقة والعالم، وهي علاقات غاية في التعقيد والتشعب، لدرجة يصعب معها تصوّر أن الدول المتنفذة في الشأن السوري قد ترضى بحله.
ختامًا، فإنّ إصلاح أجهزة الأمن السورية كإصلاح النظام الأسدي، عملية مستحيلة، لأن إصلاح الأجهزة لنفسها أو النظام لنفسه يعني الفناء، وهو أمر يفهمه الأسد وصناديد المخابرات، على الأقل هذا ما يظهر أنهم مقتنعون به، ولهذا فإنّ النظام واجه ثورة السوريين التي بدأت بمطالبات بالإصلاح بوحشية غير محتملة منذ أول صرخة حرية، ومن أجل ذلك يطالب السوريون اليوم بحل وتفكيك تلك الأجهزة، وطي صفحتها إلى الأبد.