كتبت عن قصور الخيال التونسي بعد الثورة، وأوسع القول في مسألة تبدو لي أقدم من الثورة وأعمق غورًا من خيال النخب السياسية التونسية المفكرة والعاملة بالفكر، إنها مسألة التحقير الذي يسلّط على عمل الأرض وامتهان العاملين فيها أي الفلاحين.
النخب التونسية (وأجزم أن الأمر قابل للتوسيع على النخب العربية، فالمشتركات الثقافية كثيرة بين هذه النخب على اختلاف منشأها الجغرافي) الحاليّة لم تزد أن كرّست التحقير التاريخي الذي يسلّط على عمال الأرض وامتهان جهدهم وبالتالي إقصاؤهم من الفعل السياسي والتنموي.
والأمر لا يتعلق فقط بتدني التأجير في العمل الفلاحي أو ترديد مشاهد السخرية من الفلاح الوسخ عقلاً ومظهرًا، إنها إيديولوجيا مبنية لتبرير توزيع المنفعة من الوجود الاجتماعي ضمن دولة، إنه إقصاء ممنهج وله حججه الزائفة ككل بناء إيديولوجي يقضي لينتفع، لنبحث في الأسباب لعلنا نهتدي إلى تفسير أبعد من رد الفعل العاطفي الشفوق على الفلاح.
السَّوادي لا يزال تائهًا في أزقة بغداد
كما فعل عيسي بن هشام في المقامات ما زال البغدادي يحتال على السوادي أبا عبيد ويناديه أبا زيد ويأكل على حسابه ويهرب من دفع الفاتورة، الفلاح التونسي (العربي) هو السّوادي الجديد وكل العواصم بغداد، سواد القوم هم الفلاحون وأهل الحواضر محتالون يأكلون من يده ويتكبرون عليه.
الفلاح في السينما التونسية جاهل وغبي وهو كذلك في المسرح وكثير من الرواية التي كتبت فقدمت أبطالها دوما من الحضر المنعمين الأنقياء
ورثت الدولة التونسية تمييزًا في الأجر بين الأجر الصناعي الأدنى والأجر الفلاحي الأدنى، ولم تعمل على تسوية الأجرين رغم أن الفلاح يعمل أكثر وساعة العمل الفلاحي أشقى وأمر، انجر عن ذلك فارق مادي ظل يتوسع باطراد بين فئتي العمل الفلاحي والعمل الصناعي والإداري، بصيغة أخرى من خلال قواعد التأجير المقننة عملت الدولة على خلق تفاوت اجتماعي انعكس على موقع الفلاح في المجتمع ثم على الثقافة العامة المحيطة بالعمل الفلاحي المؤجر والعمل في الفلاحة بصفة عامة.
حتى وصل الفلاح إلى تبني كل أشكال الدونية عن نفسه وعن أرضه لاحقًا، لذلك صار الهروب من العمل الفلاحي إلى الصناعي وإلى الإدارة سلوكًا غالبًا حكم بتفقير الريف عامة من البشر وحطم قيمة الأرض العقارية (المالية).
صور التحقير الثقافي للفلاح
مربي المواشي وهو فلاح لا يلبس الجديد عندما يتسوق لذلك يقدم عن نفسه صورة رجل وسخ المظهر، حكم المهنة لا رغبة التاجر ومثله تاجر الخضر ومثلهما الفلاح في حقله لا يعقد ربطة عنقه وهو يعزق الأرض، لكن الحضري حول الضرورة المهنية إلى صورة أبدية تمنحه هو النظيف الهندام صورة متفوقة كأنها قاعدة أخلاقية ظل يستثمرها في الفن.
فالفلاح في السينما التونسية جاهل وغبي وهو كذلك في المسرح وكثير من الرواية التي كتبت فقدمت أبطالها دومًا من الحضر المنعمين الأنقياء على حساب فلاح يخوض في روث الدواب، صورة أبو زيد وأبو عبيد في بغداد.
لم تتغير رغم أن المستثمرين في الثقافة (مسرح وسينما) في غالبهم من اليسار التقدمي الذين يقولون بثورة البروليتارية المفقرة (الشريفة) على حساب البرجوازية المنحطة أخلاقيًا، ولم ينتج غرماؤهم السياسيون من الإسلاميين فنًا أو أدبًا لنحكم على نظرتهم للفلاح ولكن لا أراهم يشذون عن قاعدة تحكم الثقافي في بلادنا (وفي بلاد العرب)، صراع الحضر مع الريف (كما دقق وصفته وتبوبيه ابن خلدون في المقدمة) إنه وجه آخر للصراع الطبقي يتحول فيه المثقف الحضري (رغم أنه ريفي في المنبت) إلى برجوازي صغير يستهلك من عرق الفلاح ويهين صورته في الأدب والفن، إنها الإهانة التي تجعل الفنان حضريًا مندمجًا في النخبة، فالنخبة في المدينة وإن ادعت محبة الريف في الخطاب الانتخابي.
تفطن إلى هذه المعادلة المختلة أستاذنا الهادي التيمومي وهو يقرأ تاريخ الثورات، فكل ثورة قامت في تونس قام بها الفلاحون والمفقرون في الأرياف منذ 1864 إلى ثورة 2011 وجنى غلتها سكان المدن من التجار خاصة
الدولة تقود التحقير بالقانون
ربطت الدولة نظام التبادل بالمدينة، فهي الموئل النهائي للاستهلاك، لذلك على الفلاح أن يموّلها فينتج ويحمل منتجه إلى المدينة التي تحكم عليه عبر أسواق الجملة التي يديرها تجار محترفون يعرفون كيف يحطّون من قيمة المنتج ليسهل تسويقه للمستهلك الحضري، فصار الفلاح رهينة لدى نظام التوزيع الموجه لمصلحة سكان المدن.
نظام التبادل في اتجاه واحد ونظام التأجير في الفلاحة كانا أهم سببين لتضخم المدن وتفقير الريف، وكلما تضخمت المدن تفاقم تفقير الريف وشهدت الدولة على ذلك ولم تراجع أنظمتها بما يعيد التوزان بين مستهلك حضري متحكم ومنتج فلاحي تابع.
إنه نظام من الإقصاء المقنن بقوة الدولة (الإدارة) أين منه الإقصاء السياسي الذي تمارسه الأحزاب على بعضها البعض باسم صراع الهويات أو صراع الرجعية والتقدمية، هذا صراع في القشرة النخبوية التي لا تهتم بأمر الفلاح لأنها صنيعة المدن وغايتها التمدن تجري إليه كما قال ابن خلدون.
الطريف المحزن أن الطبقة السياسية منحدرة في غالبها من أوساط فلاحية فقيرة تنتقل بحكم الدراسية (وهي احتكار حضري آخر) فتستوطن وتنسى ثم تنقلب بدورها إلى حضر يحقرون الريف أي يحقرون جذورهم لينتموا إلى المدينة، نوع من خصاء الذات يجري على حساب التوازن الثقافي بين الأرياف الفلاحية ومدن الموظفين.
الفلاح يثور والتاجر يحكم
تفطن إلى هذه المعادلة المختلة أستاذنا الهادي التيمومي وهو يقرأ تاريخ الثورات، فكل ثورة قامت في تونس قام بها الفلاحون والمفقرون في الأرياف منذ 1864 (ثورة على بن غذاهم) إلى ثورة 2011 وجنى غلتها سكان المدن من التجار خاصة.
الفلاح يثور فيحدث تغييرًا سياسيًا، ويأتي التاجر ليقطف الجني ويعيد تحقير الريف الزراعي، هذا قانون تاريخي في تونس تقريبًا ولا نرى ثورة عرابي مختلفة في مصر (طبعًا التنظيرات الماركسية الوافدة وأنصارها في تونس لا ترى هذا التناقض الاجتماعي المختلف عن تناقضات الصراع الاجتماعي في الغرب الصناعي وهذا أحد أسباب غربة اليسار العربي عامة والتونسي خاصة).
عندما يخرج من هذه الفوضى حزب يفكر في أن منتج الغذاء يستحق التقدير أكثر من مستهلكه سنقدم له كراسات برامج جاهزة، ولكن حتى ذلك الحين سنتمتع برؤية الغباء المستحكم
ما العمل إذًا؟
هذا السؤال اللينيني لن يجيب عنه اليسار ولا اليمين طبعًا، بل يحتاج خيالاً مختلفًا بمرجعيات جديدة يفترض أن ثورة في القرن 21 تنتجها وتحكم بها، النخب التونسية (العربية) تعيد إنتاج مخيال السلطة التي عارضتها دهرًا طويلاً، فلم تخرج من جلبابها، فما هي إلا نسخ منها بمسميات تقدمية أو إسلامية أو قومية، فالثورة هي قلب المعادلات وإعادة بناء قواعد التفكير تتجسد فيها صورة جديدة للعالم.
كيف لحكومات عاجزة عن التفكير أن تضع بدائل ثورية؟ كيف لنخب تهتم فقط لمكاسب زعمائها أن تخترق نظم التفكير السائدة وتنقضها وتبني بدائل، إن وجبة البغدادي المحتال على السوادي أيسر وألذ فلا جهد فيها وإنما هي الحيلة.
لست في موضع تقديم البدائل لأحد، فأنا أتهجى واقعًا مسطحًا يبدو لي لسطحيته فقيرًا، المطلوب قلب المعادلات القائمة بكل التذاكي الذي تزعمه لتأكل على حساب السوادي أو الفلاح وتهرب من دفع الكلفة.
عندما يخرج من هذه الفوضى حزب يفكر في أن منتج الغذاء يستحق التقدير أكثر من مستهلكه سنقدم له كراسات برامج جاهزة، ولكن حتى ذلك الحين سنتمتع برؤية الغباء المستحكم، وندع للبغدادي متعة الظن بأنه الأذكى حتى يقتله غباؤه.