تجلس مها على ركبتيها وأمامها وعاء مليء بالمياه الذي اصطفت لأجله ساعات طويلة، تفرك بيديها مرة ومرتين فأكثر الغسيل المتسخ، تلاحظ بقعة فتعود لفركها مجددًا، ثم تضعه في “طشت الغسيل”، تمهيدًا لنشره على الحبل، فالظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها قطاع غزة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية التي خلفت أكثر من 36 ألف شهيد، دفعت الكثيرين لابتكار مشروعات يعيلون من خلالها عوائلهم.
الطفلة مها السرسك (15 عامًا) صنعت من العدم شيئًا عظيمًا “يستحق أن يُحتفى به”، على حد قولها، فهي تجمع الملابس المتسخة من النازحين والصحافيين في مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط قطاع غزة وتغسلها، لتكسب ما تعيل به والدتها وشقيقاتها الخمسة (بينهن اثنتان مريضتان)، وشقيقين صغيرين (عمرهما 4 سنوات).
نزحت مها مع عائلتها لأول مرة من بيتها في حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، إلى مراكز عدة للإيواء، لكن المطاف لن ينتهي عند الخيمة التي نصبتها عائلتها داخل المستشفى في ظل الحرب البرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي.
تروي مها: “ليس لنا مكان، أصبحت عائلتي بلا مأوى ودون طعام أو حتى شراب، قررت بنفسي مساعدتهم والوقوف منذ ساعات الفجر حتى المغرب ليلًا كي أبيع ربطة خبز أو ربطتين بمبلغ بسيط”.
على طوابير الانتظار ومن مخبز لآخر ورغم عراك النساء، بقيت مها لمدة شهر ونصف تقف تحت أشعة الشمس الحارقة لأكثر من عشر مرات في اليوم، لكن الذي لم يكن بالحسبان حين باغت المرض جسدها وبقيت عائلتها بلا معيل، تقول: “الوجع أصاب كل جسدي، لم أعد قادرة على الوقوف من الفراش، ولم يهتم أحد لصحتي”.
“تمنينا خبزة ناشفة”، هكذا وصفت مها الوضع المأساوي الذي وصلت له عائلتها في الفترة التي مرضت بها، دفعها ذلك للنهوض مجددًا رغم وجعها والبدء بعمل آخر.
من طوابير الخبز إلى وعاء الغسيل والجلي، وبينهما رحلات عذاب وشقاء عانتها مها وما زالت: “أقف ساعتين حتى أعبئ جالون المياه ثم أعود مرةً أخرى لتعبئته لأتمكن من غسل الملابس”، وأحيانًا كثيرة تعود وتجد طابور المياه كبيرًا فلا تتمكن من تعبئته، ما يضطرها إلى تأجيل عملها لليوم الذي يليه.
تعقب: “مرات كُثر أذهب الساعة الثانية عشر ليلًا لتعبئته حتى لا يذهب عملي سدى وأستيقظ منذ الفجر لبدء الغسيل”.
تطرق مها أبواب النازحين وأحيانًا يأتون إلى خيمتها حاملين ملابسهم، تروي: “أقابلهم في الشارع أيضًا يسألونني أنتِ اللي بتغسلي الأواعي؟”، تردف: “لا أخجل بل أفرح أنني كسبت زبائن من خلالهم سأستمر في توفير احتياجات عائلتي”.
تتابع: “أبقى لساعات أغسل الملابس ثم أقوم بنشرها وتجفيفها وبعد الانتهاء أطويها وأذهب بنفسي وأسلمها لأصحابها”.
أما الجلي فهو حكاية أخرى لدى مها، تقول: “يأتي النازحون إلى خيمتي ومعهم الأواني، أقضي ساعتين في غسلهم، يداي لا أشعر بهما من شدة التعب والحساسية التي أصابتهما، ناهيك بعظم ظهري الذي يؤلمني طوال الليل”.
أكثر من ثلاثة أشهر ومها تركض بين أروقة المستشفى لأجل مواصلة عملها، فماذا عن شعورك حين جنيتي ربحك لأول مرة؟ تجيب: “وأخيرًا حققت إنجازًا يستحق أن يحتفل به، 15 شيكلًا فرحت كثيرًا لأنه جاء بتعب جبيني، ثم أصبحت أجني أكثر مع مرور الأيام، أشتري به طعامًا وحين يزيد من المبلغ أشتري فاكهة”.
تتابع: “أحيانًا أجني مبلغًا ضئيلًا لا يكفي لشراء الطبخة فأضطر للذهاب لتكيات أهل الخير وأجلب ما توافر لنأكله”.
لم تكن تتخيل مها أن تقضي ربيع طفولتها في العمل، وأن تحمل على عاتقها مسؤولية أكبر من عمرها، تهرب عينيها جانبًا لتخفي دمعتها وتقول: “خواتي يطلبن بعض الأكلات والحاجيات والملابس، ألبي بعضها والآخر لا أستطيع”، وتتابع: “لدي أختان من ذوات الاحتياجات الخاصة وتحتجان لحفاضات وأدوية لا أستطيع تلبيتها”.
وعن أكثر المواقف وجعًا في قلب وذاكرة مها، تقول: “ذهبت للطبيب وبيدي فلوس الحفاضات وطلبت منه إعطائي بالمقابل، لكنه حتى لم ينظر لوجهي وطردني من الغرفة”، تردف: “لقد أغلق أمامي جميع أبواب الحياة”، قالتها مها وبكت.
لم تكن مها طالبة متفوقة في مدرستها، لكن تبددت أحلامها في إكمال مسيرتها التعليمية في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تقول: “كنت أحلم أن أنتهي من المدرسة وأتخصص في الجامعة كما أحب”، تعقب: “الآن أتمنى أن تنتهي الحرب ويكبر مشروعي وأفتتح مغسلة”.