“لو كنت تتابع مسلسل ماكمافيا McMafia))، وتساءلت عن الطريقة التي تمتد فيها المافيا والجريمة المنظمة حول العالم، لكنت مهتمًا بمشاهدة سلسلة من ثلاث حلقات عن العائلة السعودية الحاكمة“.
العبارة السابقة تصدرت الإعلان الترويجي لسلسلة وثائقية جديدة من إنتاج هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، جاءت تحت عنوان “بيت آل سعود.. عائلة في حالة حرب”، في محاولة لفك عُقدة المال السعودي الغامض في جميع أنحاء العالم.
“عائلة في حالة حرب” الذي بدأ عرضه على (بي بي سي2)، كان نقطة انطلاق غير متوقعة لفيلم وثائقي يستكشف التحديات التي تواجه آل سعود في العموم، وولي العهد الأمير الشاب محمد بن سلمان على وجه الخصوص.
الإعلان الترويجي للفيلم
توأمة المملكة والإرهاب
تبدأ الأحداث بنظرة عامة وقاتمة لتجميع الأدلة عن دور الأموال السعودية في تمويل التطرف، ويسير وثائقي “بي بي سي” في هذا الاتجاه، من خلال دراسة جريئة للأساليب الغامضة للنفوذ السعودي في العالم الإسلامي.
وبدلاً من صحراء البادية التي تشكل هوية المملكة، تبدأ الأحداث منطلقة في جزئها الأول من قرية في جبال البوسنة، حيث يرفرف علم أسود ممزق للجهاد وسط المناظر الطبيعية المليئة بالثلوج، وبعد فض الحرب فيها (البوسنة)، أصبحت مؤسساتها ومراكزها الخيرية مرتعًا للفكر المتطرف الذي نتج عنه جماعات جهادية تؤمن بالعنف والقتل الهمجي الذي انتعش بالمليارات من الدولارات.
كل تلك الأموال من مصدر واحد هو السعودية لدعم “قضايا جهادية” في أفغانستان والأرضي الفلسطينية المحتلة وسوريا والهند واليمن، إضافة الى العراق وأماكن أخرى، كما يشير الفيلم الوثائقي.
الإدانة المباشرة جاءت في مقابلة مع شون كارتر المحامي الرئيسي للمدعين في قضية هجمات 11 من سبتمبر/أيلول ضد الحكومة السعودية
ويبدو من الأحداث أن المال السعودي قد مول لعقود طويلة جماعة “مقاتلي الحرية” التي يوصف مقاتلوها بـ”أشرار العالم”، ووفرت المملكة مستلزمات الدعم اللوجستي والمالي والاستخباري لما يسمى بالجهاديين، ومنهم منفذي هجمات 11 سبتمبر.
البرنامج بدأ في حلقته الأولى بقول خبير سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه): “المرء يحتاج إلى توخي الحذر وعدم اتهام المملكة بأنها الراعية للجماعات الإرهابية”، كان يقول ذلك كما لو أنها تفعل ذلك تمامًا.
لكن الإدانة المباشرة جاءت في مقابلة مع شون كارتر المحامي الرئيسي للمدعين في قضية هجمات 11 من سبتمبر/أيلول ضد الحكومة السعودية، ويقول: “عملاء سعوديون وتمويل الجمعيات الخيرية سهَّل لعملاء القاعدة القيام بهجمات 11 سبتمبر”، يضيف كارتر “الحكومة الأمريكية لا تريد أن تسمع عن المصدِّر الرئيسي للنفط في العالم”.
أموال في خدمة الإرهاب
تنوعت الشهادات التي تواردت في الفيلم الوثائقي بين محللين وصحافيين وأكاديميين ومسؤولين رسميين ومشاركين في العمليات الإرهابية؛ أي كانوا أعضاء في التنظيمات المسلحة من القاعدة والنصرة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” المدعومة سعوديًا، اجتمع هؤلاء جميعًا بهدف كشف سُبل نقل الأسلحة البلغارية إلى السعودية ومنها إلى سوريا.
تبع ذلك في افتتاحية الفيلم الذي أخرجه مايكل رودين، استكشاف كيفية تدفق ملايين الدولارات من المؤسسات الخيرية السعودية إلى البوسنة، سواء خلال حربها مع صربيا أو بعد ذلك، ليستمر تدفق المليارات في العقود التالية؛ لدعم قضايا الجهاد والمتطرفين في أفغانستان وفلسطين والهند وسوريا وأماكن أخرى.
ووفقًا لمحللين كُثر، فإن الكثير من التمويل ليس فقط لهجمات 11 من سبتمبر/أيلول، لكن للعديد من أشكال “التطرف الإسلامي” – مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” – التي يمكن تتبعها لهذه البلاد الغنية بالنفط.
الفيلم الوثائقي ركز مباشرة علي فكرة أن أي فهم لمكانة السعودية في العالم اليوم لا يمكن للمرء أن يتجنب علاقته المتشابكة مع التطرف الإسلامي، وأن مفردة الجهاد متأصلة في نفسية الحركات الوهابية في أصل الدولة السعودية
وثائقي “بي بي سي” يشير هنا إلى أن أكثر موارد الدعم للجهات الجهادية ترتبط بجهات عليا في أعلى الهرم لدى السلطات السعودية، وكذلك المؤسسات الدينية المتشددة التي ترعاها الدولة السعودية، وربما الإشارة إلى أعلى مناصب الدولة يعني ارتباطها بشخص الملك سلمان أو ولده محمد ولي عهده أو وزارء ومسؤولين أمنيين.
ويعلق الناقد جيرارد أودونيفان في تقرير نشرته صحيفة “ديلي تلغراف” بأن “هناك أدلة دامغة على وجود أسلحة تم شراؤها بمئات ملايين الدولارات في السنوات الأخيرة، ومعها تراخيص تصدير للسعودية، لكن تم تحويل الأسلحة إلى الأردن ومنها إلى سوريا”.
في الوقت نفسه، سعى الفيلم إلى شرح كيف يمكن للمملكة العربية السعودية على الرغم من هذا التدفق الهائل من الأموال إلى الخارج، أن تبقى الحليف الرئيسي للغرب في الشرق الأوسط؛ وعلى سبيل المثال، كان هذا هو المكان الأول الذي يزوره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خارج أراضيه.
نقطة أخرى يمكن استيعابها بسهولة، فهناك النفط بالطبع، والإنفاق العسكري الضخم، بالإضافة إلى أن المملكة تلعب دورًا استخباراتيًا رئيسيًا في مكافحة التطرف، لكن ثروتها ساعدت، بشكل مباشر أو غير مباشر، على وجوده.
التطرف يبدأ في الداخل
فيلم “رودين” يشير من بدايته إلى أن الجهاد في أوسع صوره الدعوية متجذر في بنية الدولة السعودية، وأن “الحلف التاريخي” بين آل سعود ومؤيدي الشكل المحافظ من الإسلام المعروف بالوهابية كان في الواقع تعهد بنشر الوهابية في العديد من المناطق الرخوة في العالم التي هي بحاجة إلى الدعم المالي، ويمكن شراء بعض الجهات فيها.
حصل ذلك بالفعل في الهند مثلاً، كما أشار الفيلم، حيث اشتروا بعض التوجهات الإسلامية هناك، وأسسوا قناة تليفزيوينة تدعو إلى التطرف وتجنيد الجهاديين وتتلاعب بعقول الشباب بحجة الدفاع عن الإسلام في مناطق أخرى من العالم.
يفسر وثائقي بي بي سي ولي العهد الجديد وُضع في منصبه عن طريق والده، العام الماضي، بعد أن أزاح الملك ابن عمه محمد بن نايف من المنصب، وأعطى ابنه محمد كل الصلاحيات لإصلاح اقتصاد البلاد المعتمد على النفط
ما يثير القلق أكثر هو نشر الأيديولوجية التي وصفها الموظف السابق في “سي آي إيه” بروس ريدل بأنها التفسير الإسلامي الوهابي الذي تنتعش في داخله الكثير من التفسيرات المتطرفة، ويتساءل: “هل يستطيع الأمير الشاب تقديم شيء مختلف؟ ربما في الداخل لكن السياسة الخارجية قد تكون أكبر تحد له، والسبب هو إيران عدوة السعودية الكبرى“.
ويقول ريدل: “السعودية الآن منخرطة في حرب وكالة شديدة لم نر مثلها في التاريخ، وأخذ العالم العربي في السنوات الخمسة الماضية يسير نحو حافة الجحيم”.
الفيلم الوثائقي ركز مباشرة على فكرة أن أي فهم لمكانة المملكة العربية السعودية في العالم اليوم لا يمكن للمرء أن يتجنب علاقته المتشابكة مع التطرف الإسلامي، وأن مفردة الجهاد متأصلة في نفسية الحركات الوهابية في أصل الدولة السعودية.
محمد بن سلمان.. الصفقة الحقيقية
كيف وصل محمد بن سلمان إلى كرسي الحكم؟ يفسر وثائقي بي بي سي ولي العهد الجديد وُضع في منصبه عن طريق والده، العام الماضي، بعد أن أزاح الملك ابن عمه محمد بن نايف من المنصب، وأعطى ابنه محمد كل الصلاحيات لإصلاح اقتصاد البلاد المعتمد على النفط.
وانطلاقًا من هذه النقطة، يعرض الفيلم تفصيلاً شجرة العائلة المالكة في السعودية، ومن حكموا السعودية من خلالها، وصولاً إلى الملك سلمان الذي تولى الحكم في يناير/كانون الثاني عام 2015، بعد وفاة الملك عبد الله، واتخذ قرارات لجعل ابنه وليًا للعهد، وفي عهده، تبنت المملكة سياسة خارجية هجومية، في اليمن، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وقطر.
وكالمعتاد في برنامج عن قضايا الشرق الأوسط، أثارت ساعة – هي مدة الفيلم تقريبًا – العديد من الأسئلة كما هي الأجوبة أيضًا، وليس أقلها مسألة المليارات المتدفقة من داخل المملكة السعودية لتحقيق المتعة خارج دائرة الضوء، وما إذا كانت السعودية قوة استقرار أو قوة فوضى في العالم؟ ووسط هذا الزخم، هل ولي العهد الجديد محمد بن سلمان، الفارس الأبيض الذي كان العالم في انتظاره؟
وثاثقي “بي بي سي” يتتبع التطور الدراماتيكي في التاريخ السعودي الحديث، ويقف أمام “حملة التطهير” غير المسبوقة التي جرت في مجتمع قبلي محافظ للغاية
يرد أحد المساهمين في الفيلم في توصيفه للأمر أن “الأمير الشاب يقود السيارة نحو هدفه بسرعة 100 ميل في الساعة، قد يركض على عدد قليل من الناس، لكنه في الاتجاه الصحيح”، وكان ذلك صحيحًا بعد تسلسل مؤلم للأحداث يُظهر التكلفة البشرية للحرب التي تقودها في اليمن، وهي الحملة التي قادها ولي العهد منذ انطلاقها في مارس 2015 وخلفت 10 الآف قتيل، و7 ملايين يمني على شفا المجاعة.
وأشار المحللون إلى أن موقف ولي العهد الجديد الأكثر عدوانية بشأن مثل هذه الصراعات في اليمن يمكن أن يساهم في صراع طائفي أكبر، ومزيد من المعاناة الإنسانية.
في الوقت ذاته، سعى الفيلم إلى تحقيق التوازن، من خلال التركيز على وعد ولي العهد باجتثاث الإرهاب، والعودة إلى الإسلام المعتدل، وسن قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، مثل فرض عقوبة الإعدام على من يمول الإرهاب.
لكن لم يكن هناك استنتاج متفائل لهذا الافتتاح الذي بدا مخيفًا منذ اللقطات الأولى، وبدلاً من ذلك، تجمعت الغيوم في مشهد ضبابي، كانت إحدى سحبه الغائمة حملة قمع واسعة ضد المعارضين، شنها ولي العهد الذي أدخل قوانين مكافحة الإرهاب واعتقل رجال الدين البارزين، معربًا عن أمله في أن يكون قوة جديدة للاعتدال داخل المملكة، ويعلق أحد المساهمين: “فجأة، لم نعد نعرف تمامًا إلى أين يذهب بتصرفاته”.
وثاثقي “بي بي سي” يتتبع التطور الدراماتيكي في التاريخ السعودي الحديث، ويقف أمام “حملة التطهير” غير المسبوقة التي جرت في مجتمع قبلي محافظ للغاية، ليكون الجزء الثاني من السلسلة كاشفًا عن فساد كبار أمراء آل سعود.