كشف الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال مؤتمر صحفي له، أمس الجمعة 31 مايو/أيار 2024، عن مقترح جديد لوقف الحرب في غزة، قال إنه “إسرائيلي” ووصفه بـ”الشامل”، مطالبًا حركة المقاومة الإسلامية “حماس” بقبوله وعدم تفويت الفرصة تجنبًا لاستمرار أمد الحرب في القطاع.
المقترح المقدم يتضمن 3 مراحل متتالية: الأولى تشمل وقفًا لإطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال من المناطق المأهولة بالسكان داخل القطاع وتستمر 6 أسابيع، أما المرحلة الثانية فتشمل تبادل للأسرى والمحتجزين، حيث تطلق حماس سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين الأحياء لديها (دون ذكر عدد الأسرى الفلسطينيين المتوقع الإفراج عنهم مقابل الإسرائيليين)، فيما تتمحور المرحلة الثالثة والأخيرة بتبني خطة لإعادة إعمار قطاع غزة وكامل بنيته التحتية لأجل تحسين الظروف المعيشية لكل السكان.
تجدر الإشارة بداية إلى أن المقترح الذي أعلنه بايدن لا يختلف كثيرًا في بنوده عن نظيره المقدم من مصر وقطر والذي قبلته حماس في 7 مايو/أيار الماضي، ورفضه الكيان المحتل، بدعوى أنه لا يلبي طموحاتها، لا سيما ما يتعلق بتقسيمه إلى مراحل وأن يُفضي وقف إطلاق النار في النهاية إلى إطلاق سراح الأسرى، غير أن المقترح هذه المرة يتضمن العديد من الرمزيات والدلائل والرسائل التي يجب الوقوف عليها كونها تقدم قراءة مستفيضة لما يمكن أن يكون عليه المشهد خلال المرحلة المقبلة.
سياق مهم
تأتي تلك الخطوة في سياق حساس قد يساعد في الكشف عن الكثير من المسكوت عنه حول هذا التحول في الموقف الأمريكي من مجرد وسيط إلى منخرط بشكل رسمي في اتفاق التهدئة، وناقل أول لتفاصيل التفاوض، حسبما جاء على لسان بايدن.
– استشعار بايدن أن الحرب في غزة لن تؤتي ثمارها ولن تحقق أهدافها مهما طال أمدها، خاصة بعد انتهاء رصيد جيش الاحتلال من المبررات الواهية بشأن استهداف قلاع حماس والمقاومة، بداية من الشمال وصولًا إلى رفح جنوبًا.
– ثبات المقاومة وصمودها واستعادة ثقلها وعملياتها النوعية بصورة تعيد الأذهان إلى أيام الحرب الأولى، وهو الأمر الذي دفع كثيرًا من نخبة الاحتلال إلى القول بأن القضاء على حماس وهم غير قابل للتحقق، وأن التلكؤ في إنهاء الحرب حتى يتم تصفية المقاومة بشكل كامل حلم صعب المنال، ومن ثم كانت المطالبة بالحل السياسي كبديل للحل العسكري.
– إدانة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشكل رسمي بكل التهم الـ34 الموجهة إليه في قضية دفع أموال خلافًا للقانون لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية، فيما حددت هيئة المحلفين 11 يوليو/تموز القادم موعدًا للنطق بالعقوبة، وذلك قبل 5 أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية التي يسعى من خلالها للعودة إلى البيت الأبيض، في خطوة سيكون لها ما بعدها على سير العملية الانتخابية.
– اتساع رقعة العزلة الدولية للكيان المحتل، شعبيًا وسياسيًا، وارتفاع أصوات الإدانة والانتقادات والملاحقات القضائية الدولية له ولقادته، في مقابل تصاعد مد موجة الاعتراف الدولي بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة، والزخم الشعبي الداعم لحقوق الفلسطينيين بشكل غير مسبوق منذ النكبة.
– تصاعد الضغوط الشعبية ضد حكومتي “إسرائيل” والولايات المتحدة بسبب نسف نتنياهو لأي مقترح هدنة، خاصة بعد موافقة حماس على مقترح الوسطاء السابق، تزامن ذلك مع تصعيد المقاومة للحرب النفسية ضد الإسرائيليين والأمريكان من خلال إدارتها الجيدة لملف الأسرى المحتجزين لديها، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا على الجميع.
إعلان بايدن بنفسه للمقترح.. 4 قراءات
ليس بالأمر المعهود أن ينخرط الأمريكيون في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بهذه الطريقة، وأن يتولى رئيس أمريكي مهمة الإعلان عن تفاصيل اتفاق بينهما، ويقوم بدور المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، بإعلانه في مؤتمر صحفي عن بنود هذا الاتفاق الذي قال إنه إسرائيلي، وهو التحول الذي يمكن قراءته من خلال عدة سيناريوهات، بعيدًا عن لغة الاستجداء المستخدمة إزاء الإسرائيلي في مقابل التهديد لحماس:
أولًا: رفع بايدن الحرج عن نتنياهو العاجز عن إبداء أي مرونة إزاء أي صفقة تبادل خشية انقلاب اليمين المتطرف عليه والتلويح بورقة الانسحاب من الحكومة، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي لأن يعلن هو بنفسه عن بنود هذا الاتفاق، ما يضع الجميع في مأزق تجنبًا لإحراج الإدارة الأمريكية إذا ما تم رفض هذا المقترح.
ثانيًا: حاول بايدن إنقاذ ما يمكن إنقاذه بشأن حليفه الإسرائيلي بعد العجز والفشل في تحقيق أهداف الحرب رغم مرور ثمانية أشهر كاملة عليها، وعليه جاء هذا التحرك لإخراج الكيان المحتل من وحل غزة بعدما غاصت أقدامه دون القدرة على الخروج بالشكل الذي يحفظ له ماء وجهه.
ثالثًا: العمل سريعًا لوقف تمدد رقعة العزلة الدولية لـ”إسرائيل” وقادتها، خاصة في ظل الخطاب المتطرف الذي يتبناه نتنياهو وحكومته إزاء محكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية، وما أثير بشأن ممارسة الكيان لضغوط وتهديدات لقضاة المحكمتين بسبب إدانتهما لتل أبيب، وهو الخطاب الذي زاد من تشويه صورة
“إسرائيل” ووضع الحليف الأمريكي في مأزق جديد دوليًا، أخلاقيًا وسياسيًا.
رابعًا: استهداف الناخب الأمريكي ومغازلة الرأي العام المندد بسياسة إدارة بايدن إزاء الحرب ودعمها الكامل لجرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، في محاولة لتعويض ولو جزء بسيط من الشعبية المتراجعة جراء هذا الموقف الذي وضع الديمقراطيين في مأزق سياسي كبير.
خامسًا: عدم إعلان نتيناهو وحكومته بشكل علني ورسمي قد يفتح الباب مستقبلًا نحو التملص من بنود هذا الاتفاق إذا جدت في الأمور تطورات تدفع الاحتلال لإعادة تقييم المشهد، حينها سيكون المقترح أمريكيًا و”إسرائيل” رفضته، وهي النقطة التي وإن كانت بعيدة في ظل صعوبة أن يقوم بايدن بهذا الدور، لكن يبقى احتمالًا قائمًا في ظل استراتيجية التسويف وعدم الالتزام بالوعود والتعهدات التي تتبناها حكومات الاحتلال المتعاقبة.
الغموض سيد الموقف
المقترح المقدم اتسم بالغموض في كثير من بنوده، هذا الغموض الذي أفرز حالة من الشك في النوايا، ودفع بعض المحللين إلى تحذير حماس مما أسموه “الفخ الأمريكي” لا سيما أن كثيرًا من المسائل المحورية في الاتفاق لم يتم حسمها بشكل واضح في ظل استخدام مصطلحات ومرادفات فضفاضة غير محددة وتحمل الكثير من التأويل.
–فيما يتعلق بالنقطة المحورية وشرط المقاومة الأساسي وهو إنهاء الحرب بشكل كامل، فالمقترح تطرق إلى “وقف العمليات العدائية” دون الحديث عن وقف إطلاق النار كليًا، وهي النقطة التي تحتاج إلى تفسير وتحديد بشكل مباشر وصريح ولا لبس فيه، خاصة أن هناك تخوف من معاودة الاحتلال القصف بعد إطلاق سراح محتجزيه.
–مسألة الانسحاب من قطاع غزة، المقترح قال إن جيش الاحتلال سينسحب من المناطق المأهولة بالسكان، وهو ما يعني احتمالية أن يكون هناك عناصر للجيش في مناطق أخرى في القطاع غير مكتظة سكنيًا، بما يعني أن الانسحاب لن يكون من كامل القطاع كما تطالب المقاومة وتتمسك بهذه النقطة.
–لم يحدد بايدن ما المقصود بعبارة أن المقترح مقدم من “إسرائيل”، فهل حكومة نتنياهو هي التي تقدمت به أم آخرين من النخبة مثل وزير الحرب بيني غانتس على سبيل المثال؟ وهو الغموض الذي قد يشكك في مدى التزام نتنياهو بالاتفاق من عدمه، حتى لا يتكرر سيناريو مقترح الوسطاء السابق حين وافقت حماس واعترضت حكومة الاحتلال، خاصة أن الحكومة المتطرفة الحالية تميل إلى سياسة التفاوض من أجل التفاوض، لكسب الوقت من أجل إطالة أمد الحرب.
–لم يتطرق المقترح لأي ضمانات بشأن إلزام الأطراف بتنفيذ المقترح، وإن كان إعلان بايدن بنفسه لبنود الاتفاق بهذا الشكل قد يضعه في مأزق يجبره على ممارسة الضغط على الجانب الإسرائيلي تحديدًا لقبول الاتفاق.
حماس.. تجاوب ذكي ولكن
تعاطت حماس مع المقترح بإيجابية، واصفة إياه بأنه ترسيخ لقناعة الساحة الإقليمية والدولية بضرورة وقف الحرب على غزة، وأنه نتاج منطقي للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني والمقاومة في القطاع وفق ما جاء في بيان لها.
وأعربت الحركة عن استعدادها “للتعامل بشكل إيجابي وبنّاء مع أي مقترح يقوم على أساس وقف إطلاق النار الدائم والانسحاب الكامل من قطاع غزة وإعادة الإعمار وعودة النازحين إلى جميع أماكن سكناهم وإنجاز صفقة تبادل جادة للأسرى إذا ما أعلن الاحتلال التزامه الصريح بذلك”.
وحاولت المقاومة من خلال هذا البيان الدبلوماسي طمأنة الجانب الأمريكي بإيجابية تعاطيها مع المقترح وإبداء المرونة إزاء أي حراك من شأنه أن يُنهي تلك الحرب، بما يخفف نسبيًا من حدة التوتر في العلاقات بينها وبين الإدارة الأمريكية، وهي بذلك تمثل ضغطًا على الجانبين، الأمريكي والإسرائيلي، على حد سواء.
ولم تتطرق حماس بعد في بيانها إلى تفاصيل المقترح، الذي رغم تضمنه للعديد من شروط المقاومة، فإن الغموض الذي يكتنفه يتطلب المزيد من الحسم والشرح والتفصيل والنقاش، تجنبًا للوقوع في الفخ وتجريدها من أهم ورقة ضغط بحوزتها دون مقابل وهي ورقة الأسرى، وعليه أرادت حماس أن تقول بأنها لا تمانع أي جهد للتهدئة وأنها ستسعى للتعاطي معه بإيجابية وجدية، وبذلك تلقي بالكرة في ملعب الإسرائيليين الذين جاء ردهم على المقترح متباينًا بين الحكومة من جانب والشارع من جانب آخر.
انقسام وتباين.. رد إسرائيلي مثير للجدل
لم يتناغم الرد الإسرائيلي في مجمله مع ما قاله بايدن بأن المقترح هو في الأصل إسرائيليًا، إذ لو كان الأمر هكذا لكان الرد مباشرًا وواضحًا ومتسقًا، إلا أن الردود جاءت متباينة وبعضها غامضًا، ما يعكس حالة تباين واضحة في وجهات النظر، تعزز الانقسام الداخلي بصفة عامة.
ففي بيان لمكتب نتنياهو قال إن “تل أبيب أذنت للمفاوضين بتقديم اتفاق هدنة في غزة”، مؤكدًا أن الحكومة “متحدة في الرغبة بعودة رهائننا بأسرع ما يمكن وتعمل على تحقيق هذا الهدف”، وأن “الخطوط العريضة الدقيقة التي تقترحها “إسرائيل” تسمح بالانتقال المشروط من مرحلة إلى أخرى بما يحافظ على مبادئنا”، دون تقديم أي توضيحات أخرى بهذا الصدد، ودون توضيح ما إذا كان هذا البيان ردًا على مقترحات بايدن أم لا.
لكن في المقابل، وهو ما يثير الشك، شدد مكتب رئيس الوزراء في بيانه على أن “الحرب على غزة لن تنتهي إلا بعد تحقيق جميع أهدافها، بما في ذلك عودة جميع المختطفين والقضاء على حماس عسكريًا وحكوميًا وعلى صعيد قدراتها”، وهي النقطة التي ربما تكون محل خلاف بين الطرفين، حتى إن جاءت في سياق محاولة نتنياهو تبرئة ساحته أمام وزرائه من اليمين المتطرف بشأن إصراره على مواصلة الحرب بما يتناغم مع مزاجهم الرسمي، تجنبًا لأي رد فعل قد يتسبب في انهيار الحكومة، خاصة أنهم هددوا أكثر من مرة بالانسحاب إذا وافق نتنياهو على وقف الحرب.
هناك أصوات في الداخل الإسرائيلي ترى أن الاتفاق بصيغته الحالية والذي قال بايدن إنه حصل على ضوء أخضر من تل أبيب بشأنه، هو بمثابة انتصار سياسي لحركة حماس في تلك المعركة، فيما نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنّ بايدن يفتقر إلى فهم حقيقة الصراع.
وفي المقابل هناك من يرى أن اتفاق بايدن يتسق مع المزاج الشعبي الإسرائيلي وما يجب أن يكون بعد ثمانية أشهر كاملة على الحرب لم يستطع الجيش تحقيق أهدافه، وهو ما ذهب إليه رئيس حزب العمل الإسرائيلي يائير غولان، الذي علق على الاتفاق بالقول: “بايدن قال ما فهمه الجميع في إسرائيل خلال المراحل الأولى من الحرب، إعادة جميع المحتجزين بغزة لن يتم إلا بوقف القتال”، وتابع “الآن، يجب وقف القتال، وإعادة الجنود إلى بيوتهم”، حسبما نقلت عنه صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية.
ولاقت تصريحات بايدن ترحيبًا كبيرًا من عائلات الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، سواء الإسرائيليين أم حاملي الجنسية الأمريكية، فقالوا في تصريحات لهم نقلتها وكالة “الأناضول”: “حان وقت إبرام الصفقة فورًا.. بعد 238 يومًا من الحرب، يجب على العالم أن يتخذ كل الخطوات اللازمة لوضع حد لهذه الحرب وإعادة جميع المحتجزين البالغ عددهم 125 إلى وطنهم”.
على كل حال، فالمقترح المقدم يتضمن الكثير من الشروط التي طالبت بها حماس، ومن ثم يمكن البناء عليه – عبر التفاوض والنقاش – من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، يضمن تحقيق أهم شرط للمقاومة وهو الانسحاب الكامل من قطاع غزة ووقف الحرب بشكل نهائي، حتى لو تم ذلك على مراحل زمنية كما هو معلن.
وفي الأخير.. فإن مثل هذا المقترح ما كان له أن يكون لولا صمود المقاومة وبسالة الغزيين، وقدرتهم على تغيير قواعد اللعبة ومرتكزات الاشتباك، وإفشال كل مساعي الحرب الإسرائيلية، كما نجحت حماس بإبداء إيجابية تعاطيها مع المقترح المقدم في تفويت الفرصة على حكومة نتنياهو في التسويف، والارتكان لسياسة التفاوض من أجل التفاوض، فحينها سيجد بايدن نفسه وجهًا لوجه في مواجهة حكومة الاحتلال، وهي المواجهة التي سيعمل الطرفان على تجنبها قدر الإمكان لما يترتب عليها من خسائر للجميع في وقت يحاول فيه بايدن غسل سمعته لدى الشارع الأمريكي مع اقتراب الماراثون الانتخابي.