ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يعرف عن محمود عباس إلقاؤه للخطابات الحماسية، بل لطالما كان يفتقد للكاريزما والحضور القوي، على عكس ما كان بتمتع به سلفه ياسر عرفات. في المقابل، ألقى الرئيس الفلسطيني خطابا سيبقى على الأرجح راسخا في الأذهان، حيث وجه من خلاله تصريحات قوية لدونالد ترامب. ففي الواقع، لم يتوان الرئيس الفلسطيني عن قول: “يخرب بيتو”، متحدثا عن ترامب، التي تحيل إلى الدعاء على الشخص بخراب منزله. وبالتأكيد لم يقصد عباس المعنى الحرفي، وهو انهيار البيت الأبيض أو برج ترامب، إلا أن المعنى العميق لهذه العبارة كان واضحا. كما لعب عباس على الكلمات ووجه رسالة لا تنسى، حيث قال إن “خطة الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، المسماة بصفقة القرن، تحولت في الواقع لصفعة القرن”، متوعدا في الٱن ذاته برد هذه الصفعة.
كان غضب عباس واضحا للجميع، ولم تتراجع حدته حتى بعد ترجمة الخطاب إلى لغات أجنبية. في الحقيقة، لا يزال قائد منظمة التحرير الفلسطينية، وخليفة ياسر عرفات، يترنح على وقع القرار المثير للجدل الذي اتخذه ترامب، حيث قرر الانكفاء عن عقود من السياسة الخارجية الأمريكية، والتخلي عن إجماع المجتمع الدولي، عبر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، علاوة على عدم تقديمه لأي وعود لإرضاء الجانب الفلسطيني، تتعلق بحقوق الفلسطينيين، أو المدينة المقدسة أو أي شيء آخر.
عموما، يبدو أن عباس، أو أبو مازن مثلما يسميه الفلسطينيون، قد أكد سلسلة من التسريبات والشائعات التي ترددت حول محاولة ترامب، بمساعدة من السعوديين، إجبار الفلسطينيين على القبول بأبو ديس، وهي ضاحية صغيرة في شرق القدس، عاصمة مستقبلية لدولتهم، قبل التهديد بوقف الدعم المالي للاجئين الفلسطينيين وشبه الحكومة التي تمثلها السلطة الفلسطينية.
خلافا لعرفات، عارض عباس أيضا الانتفاضة الثانية التي اندلعت في سنة 2000، معتبرا أن العودة للصراع المسلح لن يحقق أي نجاح ضد عدو يفوق الفلسطينيين في القوة العسكرية
من المعروف أن حل الدولتين المطروح في خضم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ظل معطلا لوقت طويل، إلا أن خطاب عباس الذي ألقاه في رام الله، أمام اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ربما سيتم ذكره في يوم من الأيام على أنه كان خطاب التأبين الرسمي لهذا الحل. وفي إطار سلسلة الهفوات، والإهانات والعثرات، التي طبعت رئاسة ترامب لحد الآن، يبدو أن سياسة الرئيس الأمريكي تجاه إسرائيل والفلسطينيين (إذا أمكن لنا تصنيفها على أنها سياسة)، تمثل أكبر فشل له.
في الحقيقة، يعزى ذلك إلى الضرر الذي ألحقته، ليس فقط بالمصداقية الأمريكية على الصعيد الدولي، بل أيضا بفرص المساهمة في وضع حد لأعقد صراع في العالم، أو حتى التمكن من إدارته بشكل أفضل. وقد كان غضب عباس وسخطه واضحين، تماما مثل الإشارة التي صدرت عنه باحتمال انسحابه من المشهد، تاركا وراءه حالة من الغموض، في ظل تضاؤل أي احتمالات بوضع حد لأكثر من نصف قرن من الاحتلال.
من جانبهم، سارع الإسرائيليون للتنديد بخطاب عباس، الذي اعتبروه متطرفا ومعاديا للسامية، وحاولوا التركيز على طريقة وصفه للصهيونية ودولة الاحتلال، بأنهم شعب لا علاقة لهم بالأرض التي يستوطنونها. وقد مثل هذا الأمر تذكيرا صادما بالروايات المتصلبة، التي يدور حولها هذا الصراع، حيث لطالما ركز الإسرائيليون والصهاينة على نيتهم بشأن إنشاء دولة يهودية والمحافظة عليها، مقابل تعرض الفلسطينيين، نتيجة لذلك، للتهجير والاضطهاد من قبل هؤلاء الغزاة الغرباء على أرضهم.
تعتبر المطالبات الصادرة من داخل أروقة منظمة التحرير الفلسطينية، بسحب الاعتراف بدولة إسرائيل بشكل رسمي، وإطلاق حملة للمطالبة بحل إعلان دولة من جانب واحد، نذير شؤم حول ما يمكن أن يأتي في المستقبل
فضلا عن ذلك، مثلت هذه التطورات صدمة لسبب آخر، ألا وهو أن عباس كان دائما معروفا لدى الإسرائيليين وغيرهم، بأنه يمثل الوجه البراغماتي والواقعي للقضية الفلسطينية، حيث كان الزعيم الذي فهم بشكل مبكر الحاجة لمعرفة العدو والتحدث معه. بالإضافة إلى ذلك، كان عباس من أكبر المساندين، إلى جانب ياسر عرفات، لاتفاق أوسلو الموقع في سنة 1993، عندما اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية خطوة تاريخية بالاعتراف بدولة إسرائيل. وقد أمن ذلك، في المقابل، الاعتراف بشرعية المنظمة ممثلا للفلسطينيين، الأمر الذي كانت تبحث عنه، إلا أن المشكل الأكبر منذ ذلك الوقت يتمثل في فشلها في تحقيق قيام دولة فلسطينية. وخلافا لعرفات، عارض عباس أيضا الانتفاضة الثانية التي اندلعت في سنة 2000، معتبرا أن العودة للصراع المسلح لن يحقق أي نجاح ضد عدو يفوق الفلسطينيين في القوة العسكرية.
في الأثناء، كان عباس واضحا في اتهامه لإسرائيل بأنها المتسببة في تهاوي اتفاقيات أوسلو، في حين ندد بسياسة بناء المستوطنات غير القانونية، التي مارستها إسرائيل فوق الأراضي المحتلة، النقطة التي تمثل إلى جانب مصير القدس واللاجئين، أبرز المسائل التي عقدت مساعي السلام على مدى سنوات. ولكن عباس، في الوقت نفسه، فشل بشكل واضح، خلال خطابه الأخير، في تحديد خلاصة هذه التطورات، وما إذا كان يعتزم حل السلطة الفلسطينية، وهو مطلب الكثير من الفلسطينيين، إلى جانب إنهاء التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي.
من جهة أخرى، تعتبر المطالبات الصادرة من داخل أروقة منظمة التحرير الفلسطينية، بسحب الاعتراف بدولة إسرائيل بشكل رسمي، وإطلاق حملة للمطالبة بحل إعلان دولة من جانب واحد، نذير شؤم حول ما يمكن أن يأتي في المستقبل. كما يمكن أن تخدم مخططات المستوطنين والقوى الإسرائيلية التي تسعى لضم كل أراضي فلسطين، وفي مقدمتهم الأطراف المسيطرة الآن على أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل.
في حال كان هناك بصيص ضوء وسط هذا الظلام، يمكن أن يكون تأكيد عباس بشكل متكرر على استمرار التزامه بحل الدولتين، بناء على القانون الدولي وحدود سنة 1967. ويظل هذا الأمر مبدأ ثابتا ومظهرا من مظاهر السياسة الواقعية لدى عباس، حتى في خضم هذه الفوضى السياسة التي تسبب بها ترامب، إلا أن تحقيق هذا الحل يبدو أصعب من أي وقت مضى.
المصدر: الغارديان