“تعلم يا فتى فالجهل عار”.. بهذه الكلمات التي خطها على جدران دمشق القديمة عام 1911، أعلن الشاب السوري فخري البارودي (1887-1966) عزمه ترك حياة الإقطاعيين وملاك الأراضي، وكشف خطته للحياة ونهضة بلاده من منظوره الخاص. ففي حين كان والده يستعد لتوريثه إدارة أراضيه وعقاراته في مدينة دمشق وغوطتها الغربية، كان لدى الشاب طموح أوسع وأكبر، وإذا كان الوالد مشغول الذهن بحماية ممتلكاته وأرزاقه وإدارته، فإن البارودي كان مشغول البال بوطنه، عازم النية على النهضة به.
اطلاع البارودي على التقدم العلمي في فرنسا التي هرب إليها عام 1911 لإكمال دراسته الجامعية في جامعة “مونبيلييه”، خلافًا لرغبة والده، دفعه للإصرار أكثر على نشر العلم في مجتمعه، مع ضرورة الاطلاع على نتاج الأمم الأخرى، وما وصلت إليه من تقدم علمي أفضى إلى ثورة صناعية هائلة، وذلك خلافًا للواقع المتردي الذي كانت تعيشه سوريا والوطن العربي عامة في ذلك الوقت.
شيخ الشباب وزعيم دمشق
حاول البارودي العودة إلى مقاعد الدراسة في دمشق، إذ التحق بكلية الحقوق، إلا أنه لم يكمل دراسته بها؛ بسبب انشغاله بالحياة السياسية في سوريا، بدءًا من مشاركته في الجيش العثماني ضد الحلفاء – رغم أنه كان معفيًا من الخدمة لأنه وحيد لأمه – ووقوعه في الأسر بأيدي الإنجليز، مرورًا بانضمامه إلى جانب الأمير فيصل نجل الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى ومشاركته في معركة ميسلون، وليس انتهاءً بانضمامه لصفوف الكتلة الوطنية التي قادت النضال الوطني ضد الفرنسيين.
يعد البارودي من طليعة الرواد السوريين في الحقل الوطني ومن الآباء المؤسسين للجمهورية السورية، ولكن رغم كل هذا الانشغال فإنه كان مصرًا على نشر الثقافة بمدينته دمشق، فأسس جريدة أسبوعية ساخرة، أسماها “حط بالخُرْج”، كان يحررها بنفسه مستخدمًا اللهجة العامية الدمشقية، حيث كان يوقع افتتاحيتها باسم “عزرائيل”، لكن عند معرفة أبيه أجبر على التخلي عن المشروع.
وصفه عبد الغني العطري، صاحب كتاب “العبقريات الشامية” بأنه رَجُل في أمّة، وقال عنه المؤرخ سامي مبيض: “كان علامة فارقة في تاريخ سوريا المعاصر”، ترك بصمات راسخة في المجال الثقافي والمجتمعي والاقتصادي وشارك في تأسيس إذاعة دمشق والتلفزيون السوري ومعرض دمشق الدولي والكشاف الدمشقي، قام “فخري بك” برعاية وتدريب وتأهيل جيل كامل من الفنانين والرسامين والشعراء والأدباء، منهم صباح الدين أبو قوس، الذي أسماه (صباح فخري)، حيث تكفل بمصاريف دراسته، وخصص له راتبًا شهريًا وأساتذة كبارًا مختصين بالموسيقى الشرقية.
إلى جانب ذلك كانت له عدة مشروعات ريادية مثل “صنع في سورية” ومشروع الفرنك وأسبوع التسلح، ترك وراءه عدة كتب ودراسات عن السياسة والقومية والمجتمع، ووضع أشعارًا لا تنسى لعل أبرزها قصيدة “بلاد العرب أوطاني”.
مكتب البارودي للدعاية والنشر
إلا أن العلامة الفارقة في حياة البارودي خاصة، وفي الحياة العلمية والثقافية لمدينة دمشق عامة كانت في تأسيسه عام 1934 أول مركز دراسات وأبحاث عرفه العالم العربي باسم “مكتب البارودي للدعاية والنشر” هدفه الرئيسي تأمين قاعدة إعلامية وفكرية للحركة الوطنية السورية، حيث استعان بنخبة من الشباب المثقفين، الذين كان لهم دور بارز في تاريخ النضال الوطني ضد الفرنسيين، وأصبحوا بعد سنوات من قادة المجتمع السوري، منهم ناظم القدسي رئيس سوريا عام 1960، والدكتور فريد زين الدين الذي أصبح سفيرًا لسوريا في كلّ من واشنطن وموسكو، وقسطنطين زريق أحد أبرز منظري القومية العربية في العصر الحديث، ومنير الريّس صاحب جريدة بردى.
أما على الصعيد العربي فقد سعى المركز إلى قيادة “ثورة فكرية” في العالم العربي، قوامها البحث العلمي والبحث، ونسف الحدود المصطنعة بين بلدان المشرق العربي، ونبذ الطائفية والعشائرية والقبلية، حيث جاء بأكرم زعيتر من فلسطين، وكاظم الصلح من لبنان، لوضع دراسات عن الأوضاع في بلادهم. تراوحت دراسات هؤلاء الباحثين ما بين جامعة بيروت الأمريكية وجامعة كولومبيا وجامعة جينيف، وكانت مرتباتهم تدفع من جيب البارودي للتوضيح لهم ولبقية الباحثين الشباب أن البحث العلمي في سوريا مجدٍ من الناحية المادية، ومفيد من الناحية الوطنية. وقد شكّل هؤلاء الشباب الهيئة العامة لمركز الأبحاث، وانتخبوا البارودي رئيسًا له لمدة 5 سنوات.
إلى جانب ذلك، اشترى البارودي مطبعة خاصة لأجل المشروع، وفيها بدأ بطباعة دوريات وأبحاث علمية، ليتم إرسالها إلى النخب السياسية في سوريا والمنطقة، وتوزيعها مجانًا على الصحف والجوامع والكنائس والمدارس والجامعات.
مركز أبحاث بمعايير عصرية
وبملاحظة تقسيمات العمل في “مكتب البارودي” نجد أنه يماثل الآن كبريات دور الأبحاث العالمية في الوقت الحاليّ، حيث عمل إلى تقسيم العمل على 3 لجان:
الأولى اقتصادية، تُعنى بدراسات الصناعة والتجارة والتعاريف الجمركية والنقل، والثانية ثقافية، تهتم بالفنون والتمثيل وتشجيع المواهب الشابة والرياضة والغناء والعزف، والثالثة سياسية، هدفها الحوكمة والدستور والحياة الحزبية والنيابية، وإلى جانب ذلك تضمن المكتب “غرفًا” للدراسات محددة بحسب المناطق الجغرافية على الشكل التالي: شمال إفريقيا، فلسطين، سوريا، لبنان، الحجاز، العراق، أوروبا، الأمريكيتين، لتوفير المعلومات أمام الباحثين.
كذلك أنشأ البارودي مكتبة ضخمة واشترك بعدة صحف عالمية ومحلية، من لبنان والقاهرة وطرابلس وعمان وليبيا وإيطاليا وتشيلي، وقد قام مكتب البارودي بطباعة وترجمة بعض الكتب، منها ترجمة مُذكّرات أدولف هتلر من اللغة الألمانية، التي صدرت بعنوان “كفاحي”.
إضافة لإنجاز الأبحاث العلمية، قام “مكتب البارودي” بتوظيف مصورين شباب داخل الأراضي الفلسطينية لالتقاط صور فوتوغرافية عن انتهاكات العصابات اليهودية ومصادرتهم للأراضي والأملاك. كان البارودي يجمع تلك الصور ثم يرسلها إلى كبرى الصحف الأمريكية والبريطانية مُطالبًا بنشرها، مرفقة برسالة رسمية تحمل عبارة: “مع تحيات مكتب البارودي”.
أسس غرفة خاصة للحفاظ على الخرائط السورية قبل وبعد ترسيم الحدود عند انهيار الدولة العثمانية، وغرفة ثانية لحفظ أوراق ملكية الأراضي الفلسطينية (الطابو)، المدرجة ضمن مطامع الوكالة اليهودية، والتي نقل الكثير منها لاحقًا إلى مركز الدراسات الفلسطيني في بيروت، ليتم حرقها أو مصادرتها ونقلها إلى تل أبيب خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982.
أمّا عن تمويل مكتب البارودي فقد كان يأتي عن طريق الاشتراكات بالدوريات وتبرعات الأعيان والمؤسسات السورية، إضافة لتبرعات البارودي الذي دعم المكتب بمبلغ قدره 40 ألف قرش سوري. تصرف على مدى عامين، وكان الاشتراك بنشرات البارودي عبارة عن 5 قروش شهريًا.
وكان من فعاليات “مكتب البارودي” إقامة حفل سنوي يجمع الطلاب المتخرجين من جامعة دمشق، إضافة إلى أصحاب المصانع والشركات الكبرى في سوريا، ومن ظرافة البارودي في هذه المناسبة أنه كان يعطي للطالب وردة ليضعها بشكل بارز في معطفه، في إشارة إلى أنه يبحث عن عمل، ويسير بين أصحاب المعامل ليعرف عن نفسه واختصاصه، وبذلك يكون فخري البارودي صاحب أول “مكتب تشغيل” في دمشق، ولكنه كان مجانيًا طبعًا.
نظام الأسد وانحدار الثقافة
بدأ نشاط هذا المركز يتلاشى بعد سيطرة البعث على السلطة في سوريا عام 1963، إذ تعرض للإهمال المتعمد، وأمضى البارودي آخر حياته في كتابة مذكراته التي بلغت 7 أجزاء، إلا أن قسمًا كبيرًا منها احترق مع منزله في الاشتباكات بين البعثيين والناصريين في 18 يوليو/تموز 1963، لينتقل البارودي للعيش في منزل بالإيجار ويقضي آخر حياته وحيدًا مهمشًا من حكام سوريا الجدد.
تردي الواقع المعرفي والثقافي تجلى أكثر منذ سيطرة حافظ الأسد على السلطة في سوريا عام 1970، بدأ التضييق والتشديد على حرية التعبير والرأي، وإبراز المتملقين والمقربين من السلطة ممن يفتقدون للذائقة والموهبة والخبرة والجرأة، فسادت التفاهة والسطحية، مما حدا بالمثقفين والأدباء المستقلين الانسحاب من المشهد الثقافي السوري ليحل مكانهم أشباه المثقفين، بل لنقل مثقفي النظام وأبواقه.
ولم تدم الانفراجة الصغيرة التي شهدتها الساحة الفكرية والثقافية بعد تولي بشار الأسد الحكم عام 2000 كثيرًا، حتى عاد النظام إلى سابق عهده، فأُلغيت تراخيص المجلات والصحف التي منحتها الأجهزة الرقابية بأوامر من بشار الأسد، كصحيفة الدومري ومجلة أبيض وأسود وغيرها من الصحف والمجلات كما اعتقلت الأجهزة الأمنية جميع أعضاء إعلان دمشق في تلك الفترة وصدرت بحقهم أحكام بالسجن تراوحت ما بين السنتين إلى 5 سنوات.