أعلنت السلطات الإسرائيلية عن سيطرة قواتها على 90% من محور “صلاح الدين” المعروف بمحور “فيلادلفيا” والذي يفصل قطاع غزة عن الأراضي المصرية، وقد طرحت هذه الخطوة عدة سيناريوهات وتساؤلات أبرزها حول إمكانية السيطرة الدائمة للاحتلال عليه رغم أنه يمثل تهديدًا للأمن القومي المصري ولاتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين الطرفين.
لم يعلن الاحتلال الإسرائيلي بصورة واضحة عن نواياه بشأن محور فيلادلفيا، إلا أنه تحدث عن ضرورة تأمينه بطريقة تمنع الفصائل الفلسطينية من التسلح، على اعتبار أنه أحد المناطق التي عثر فيها على أنفاق، بحسب مزاعمه. في المقابل فإن سلوك فصائل المقاومة الفلسطينية وحركة حماس لم يتغير تجاه الموقف الإسرائيلي الميداني من احتلال المحور بشكلِ جزئي أو كلي، كونه يقع في منطقة ذات طبيعة صحراوية على امتداده من الشق الشرقي وحتى الغربي.
ماذا حدث؟
في 7 مايو/أيار 2024 الماضي بدأ الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية في مدينة رفح رغم موافقة حركة حماس على الورقة المصرية – القطرية التي تم تطويرها بوساطة أمريكية، وأقدم على احتلال معبر رفح البري.
لاحقًا وسع الاحتلال الإسرائيلي عمليته العسكرية عبر احتلال محور صلاح الدين الذي يفصل القطاع عن الأراضي المصرية، تحت مزاعم أن الأذرع العسكرية للمقاومة الفلسطينية تهرب السلاح عبره، وهو ما تنفيه السلطات المصرية تمامًا.
ويعد هذا الاحتلال الأول من نوعه منذ أن انسحبت “إسرائيل” من غزة عام 2005 بموجب قانون “الانسحاب الأحادي” الذي قرره رئيس وزراء الاحتلال أرئيل شارون آنذاك، ويشمل مستوطنات في شمالي الضفة.
محور فيلادلفيا: ما تفاصيله؟
محور فيلادلفيا يعرف باسم محور صلاح الدين، وهو شريط حدودي لا يتجاوز عرضه مئات الأمتار، يمتد بطول 14.5 كيلومتر من البحر المتوسط حتى معبر كرم أبو سالم على الأراضي الفلسطينية بين شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة.
ويعدّ منطقة عازلة بموجب “اتفاقية كامب ديفيد” الموقّعة بين القاهرة وتل أبيب عام 1979، حيث فرض اتفاق السلام بين مصر والاحتلال انسحاب القوات العسكرية من جوانب المحور، وتسمح الاتفاقية للاحتلال الإسرائيلي ومصر بنشر قوات محدودة العدد والعتاد ومحددة بالأرقام ونوعيات السلاح والآليات بهدف القيام بدوريات على جانب المحور المصري، لمنع التهريب والتسلل والأنشطة الأخرى.
وعبر سنوات من بعد “اتفاقية أوسلو 2” سنة 1995، وافقت “إسرائيل” على إبقاء المحور بطول الحدود كشريط آمن. ومن أهداف المحور الرئيسية منع تهريب المواد غير المشروعة (بما فيها الأسلحة والذخائر والمخدرات الممنوعة قانونًا)، وأيضًا منع الهجرة غير المشروعة بين المنطقتين.
وفي سبتمبر/أيلول 2005، تم توقيع “اتفاق فيلادلفيا” بين الاحتلال ومصر الذي تعدّه دولة الاحتلال ملحقًا أمنيًا لمعاهدة السلام 1979، وتقول إنه محكوم بمبادئها العامة وأحكامها، عندما سحبت “إسرائيل” قواتها في إطار “خطة فك الارتباط مع قطاع غزة”.
ويتضمن الاتفاق نشر قوات مصرية على الحدود الفاصلة مع قطاع غزة، وتُقدر تلك القوات بنحو 750 جنديًا من حرس الحدود المصري، ومهمتهم تتمحور في “مكافحة الإرهاب والتسلل عبر الحدود والتهريب والكشف عن الأنفاق”.
وأتاحت الاتفاقية وجود قوة عسكرية إسرائيلية محدودة من 4 كتائب مشاة وتحصينات ميدانية ومراقبين من الأمم المتحدة. ولا تتضمن القوة الإسرائيلية أي وجود للدبابات أو المدفعيات أو الصواريخ، ما عدا الصواريخ الفردية “أرض-جو”.
قراءة في المواقف: السيناريوهات والتوقعات
الدافع الأساسي للتحرك الإسرائيلي المتسارع باتجاه احتلال المحور مرتبط أساسًا بالحاجة إلى تثبيت صيغ تتجاوز المقدرات السلطوية في قطاع غزة، بالإضافة إلى الدفع بإيجاد معضلة جديدة على طاولة المفاوضات تسمح له بالمناورة بعد أن بات موقفه التفاوضي في الزاوية بفعل إعلان حماس قبولها آخر صيغها قدمها الوسطاء قبيل عملية رفح.
بحث الاحتلال من بوابة معبر رفح عن تثبيت صيغ جديدة يُفتح وفقها المعبر بتفاهم مع المصريين ويتجاوز حماس على أرض الواقع، وقد كان منفتحًا على أي صيغة تسمح له بتقديم نموذج فشل في تقديمه خلال الأشهر السابقة شمال قطاع غزة، سواء عبر المعبر البري الموازي لمعبر بيت حانون أم مشروع الميناء الأمريكي.
وبالتالي فإن الحاجة المُلحة للقطاع لإبقاء شريان اتصاله مع العالم الخارجي مرتبط بأولوية فتح معبر رفح، وهو ما عول الاحتلال على تحوله لسيف بيده يسمح بإيجاد أرضية لشركاء محليين أو شركات خاصة أو حتى لجان دولية تدير المعبر مع المصريين وتسمح بتطبيق أول نموذج واضح لصيغة محلية تتعاون مع الاحتلال وتدير مقدرات قطاع غزة انطلاقًا من معبر رفح.
ثلاثة مواقف محورية حولت هذا الملف إلى معضلة باتت ملقاة على عاتق الاحتلال: الأول الموقف المصري المحسوم برفض صيغ العمل بالمعبر تحت سيطرة الاحتلال، أيًا كانت طبيعة إعادة التشغيل، سواء كانت لدواعي دخول المساعدات أم المسافرين، بصورة طبيعية أو مؤقتة.
قد يحاول الاحتلال وضع اشتراطات رقابية لضمان عدم استخدام المعبر في عمليات تهريب السلاح وهو تفاهم يمكن أن يتم بين الاحتلال والمصريين بشكل ثنائي
الموقف الثاني، هو موقف السلطة الفلسطينية الرافض لصيغ جزئية لإدارة المعبر تحت مسميات أخرى، طابعها محلي تنسجم مع رؤية نتنياهو لسيناريوهات اليوم التالي الرافض لسيطرة حماس أو فتح على قطاع غزة، وتمسك السلطة بأن المعبر فلسطيني وإداراته خاضعة للتوافق الفلسطيني الداخلي.
الموقف الثالث هو الموقف الوطني العام الرافض لأي شكل من أشكال إدارة المعبر والوضع الحدودي بين مصر وقطاع غزة، دون أن يكون هذا الأمر شأنَا فلسطينيًا مصريًا خالصًا، بمعزل عن اشتراطات الاحتلال، أو محاولات الهندسة عبر أطراف دولية، لصيغ تنسجم مع أهداف الحرب ورؤية نتنياهو لليوم التالي، وهو الموقف الذي تتمسك به حركة حماس أيضًا الرافضة لكل الصيغ المجزأة سواء بوجود مراقبين دوليين أم استدعاء حلول سابقة مثل اتفاق إدارة المعبر بوجود المراقبين الأوربيين في العام 2005.
الخيارات المتاحة في الأفق هي خيارات صفرية بالنسبة للاحتلال، فإمكانية تجاوز السلطة بمكونيها سواء حماس أم فتح هي إمكانية معدومة، والصيغة الأقرب لإدارة المعبر هي العودة للعمل بنمط الإدارة المشتركة للمعبر ما بين حماس وفتح التي سبق وأن طُبقت بعد انتهاء عدوان 2014، إذ أشرفت إدارة المعابر التابعة لرام الله على المعبر مع وجود لطواقمها في المعبر بالشراكة والتكامل مع الأجهزة الأمنية والحكومية في قطاع غزة، بآلية مدمجة، وطواقمها الفنية موجودة وجاهزة.
ويمكن للفصائل أن تتوافق بأريحية على هذه الصيغة وهي صيغة مقبولة للمصريين، فيما ستُشكل معضلة واضحة أمام حرص نتنياهو على تقديم نموذج مستقل لإدارة المعبر يتجاوز كل القدرات السلطوية الفلسطينية القائمة، وهو ما سيؤجل البت في هذه الورقة إلى أي اتفاق تهدئة قادم.
وقد يحاول الاحتلال وضع اشتراطات رقابية لضمان عدم استخدام المعبر أو الشريط الحدودي في عمليات تهريب السلاح أو محاولة المقاومة إعادة بناء قدراتها العسكرية من خلالها، وهو تفاهم يمكن أن يتم بين الاحتلال والمصريين بشكل ثنائي دون أن يقدم الطرف الفلسطيني أي تنازلات بشأنه، على اعتبار أن المعبر والشريط الحدودي هو شأن فلسطيني مصري بحت.