كان يوم الثلاثاء الـ25 من يناير لعام 2011، في تمام الساعة الـ3 من الطابق الـ16 بشارع جمال عبد الناصر بمنطقة ميامي بالإسكندرية، صوت دبيب في الأرض من مئات الأفراد، والصوت يعلو بالهتاف “حرية.. حرية”.
شباب، فتيان وفتيات، يهتفون بالإصلاح وينددون بفساد يسري في جسد الأمة كالسرطان الذي لا يوقفه أحد، سيارتان من الأمن المركزي تحملان عشرات من الجنود ذوي الزي الأسود والعُصي الحديدية الموجعة يقتحمون صفوف الشباب، فيتفرقون في الشوارع الجانبية ثم يتجمعون ثانيةً للتجمع أمام دوران جيهان لاستكمال الهتاف.
قبل هذه الأحداث بأسابيع قليلة كان مقتل الشاب المصري خالد سعيد بسبب التعذيب في أحد أقسام الشرطة، وحادث كنيسة القديسين بالإسكندرية واتهام الشاب سيد بلال وقتله تعذيبًا على أيدي قوات الداخلية أيضًا.
اشتعلت الثورة التونسية محدثة زلزالًا في الشارع العربي وخصوصًا الشارع المصري المكتئب صاحب النفس الطويل، أتذكر أحد الشباب على موقع الفيسبوك أضاف تعليقًا مازحًا على الأحداث بتونس قائلًا: “تونس اختارت الثورة والتغيير ومصر اختارت شيبسي بالجمبري.. الله على طعمك يا مصر”.
ثم ظهرت الدعوات من أجل النزول في كل مكان في مصر لإسقاط نظام ظالم مستبد، أتذكر حينها موقف أمي حين قالت: “مالناش دعوة إحنا في ثانوية عامة”، كل تلك الأحداث كانت شرارة للثورة، فأصبحت مُهدِّدَة وخطرًا على نظام ظل يحكم مصر لعقود، ونظام عربي أكبر لا يعرف الديمقراطية ولا أصوات الحرية للشعوب.
قبل الثورة لم يكن الناس مهتمين بآراء بعضهم السياسية لأنهم كانوا يشربون من نفس كأس الألم والشقاء
لا أتحدث عن الثورة كأحداث وإن كنت عشتها يومًا بيومٍ وساعةً بساعةٍ -أتذكرها كأنها البارحة – ولكن أتحدث عن القدوة والنخبة وكيف أن الثورة لم يكن لها قائد أو مُلِهم ليسير خلفه الشباب، وقائد هذه الثورة شبابها الذي خلع انتماءه وفكره وانتمى للوطن فقط وهتف إيمانًا منه بحقه في الحرية.
كيف أن الثورة وما تبعها من أحداث حطمت صنم النخبة السياسية والمثقفين؛ لتظهر كلًا منهم على حقيقته، فعرفنا من يبحث عن مصلحته الشخصية أو الحزبية ومن يبحث عن الوطن والحرية.
شكَّل التلفاز جزءًا من وعي الشباب بالبرامج أو بعض الأفلام الاجتماعية قبيل الثورة، وكانت بعض البرامج وبعض الإعلاميين منصة لشكوى وتألم الشارع، بعد الثورة انكسرت هذه الثقة بل وفي أثناء الثورة أيضًا، لمَّا اتضح أن كل هذا ما هو إلا أدوات في أيدي السلطة لتغييب وعي الشعوب واستدراجها لأهداف أخرى كالمأكل والمشرب والاحتياجات اليومية بعيدًا عن حقها في حياة كريمة، حقها في الصحة والتعليم والأمن، وحقها أيضًا في غذاء سليم وملبس نظيف، كل هذا يضمنه الوطن وليس الحكومات، فهي حقوق من أجل شعب يشقى ويعمل كادًا ليل نهار كالشعب المصري.
كنت أستمع لأغاني منير فرحًا وأقرأ للدكتور المعتز بالله عبد الفتاح وأعي كلامه جيدًا وغيرهما من المفكرين والأدباء والفنانين الذين حسبت ولاءهم للوطن، ولكن بعد الثورة اتضح أن كل هذا زائف وأنني كنت مخدوعًا كثيرًا بالشعارات والأوهام.
اختفت النخب السياسية ذات الأصوات الرنَّانة وعلا صوت دعم الدولة حتى لا تنهار، وهم قاصدون أخمدوا الثورة وأصوات الشباب التي تهتف برحيل نظام 60 عامًا وليس 30 عامًا.
قبل الثورة لم يكن الناس مهتمين بآراء بعضهم السياسية لأنهم كانوا يشربون من نفس كأس الألم والشقاء، وفي أثناء الثورة ظهرت حميمية وأُلفة ليست غريبة في مجتمعنا، لكن كانت زائدةً بشكل واضح في أثناء حمايتهم للمنازل والشوارع والمحال التجارية لبعضهم بعيدًا عن اختلاف مواقفهم من شباب يناير وما يحدث في الميادين والشوارع وقتها.
قامت الثورة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كلهم على سواء دون تجزئة لكنها ضاعت بسبب البحث عن العيش فقط ومن نادى بالباقي فهو مسجون أو مقتول أو هارب
بعد الثورة أصبح الجيران مختلفين، الآباء والأبناء، الأستاذ وتلميذه، حالة من الاختلاف الفكري لم أقرأ عنها مطلقًا ولم أعهدها، أهو وعي زائد أم جهل زائد؟ لا أحد يعلم، أمَّا الآن لا أحد يتكلم سوى الأبواق الإعلامية الزائفة، وأصبحنا جميعًا مرة أخرى نشرب من كأس الألم والشقاء من أجل حقوقنا في الحياة ليس إلا.
تمر الأيام والسنون، وكما نردد دائمًا “نقطة ومن أول السطر”، الشباب في السجون، اختفت النخب الزائفة عن الساحة، الرموز الدينية الكاذبة عادت لجحورها وبقي الصوت خافتًا خامدًا يخاف الهتاف أو حتى مجرد الكلام. كُسر الأمل وخاب العمل، انطفأت شمعة الحرية بأيدي من لم يشارك في الثورة ولم يؤمن بها ولم يعرف أهدافها.
قامت الثورة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كلهم على سواء دون تجزئة، لكنها ضاعت بسبب البحث عن العيش فقط ومن نادى بالباقي فهو مسجون أو مقتول أو هارب.
لا نجرؤ حتى على المطالبة بالإفراج عن الشباب المعتقلين أو بعودة الجيش للحياة العسكرية فقط وترك المناصب الإدارية للمدنيين، أو حتى بكف أذى الشرطة وألسنتهم عن الناس في الشوارع ليل نهار.
أتحدث عن بعض الآلام لا جميعها، الكلام لا ينتهي أمَّا الألم فقد انتهى، ليته انتهى كانتهاء المطر على أمل أن يعود بعد صيف حار، ولكنه انتهى بلا وعود، الخوف سيطر على الأذهان وعدنا نكتم الصوت ونلتزم الصمت وأصبح الصوت العالي صوت الرصاص في كلِ آنٍ. لكِ يا مصر السلامة.