أعلنت الولايات المتحدة، منتصف يوليو/تموز المنصرم، فرض عقوبات جديدة على إيران بسبب برنامجها للصواريخ البالستية، وشملت هذه العقوبات 18 من الشخصيات والمؤسسات الإيرانية، وعرضت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن نيكي هايلي، يوم الخميس 14 من ديسمبر/كانون الثاني المنصرم، صورًا ادعت أنها لأسلحة ومعدات عسكرية نقلتها إيران إلى اليمن.
في ضوء التصعيد الذي انتهجته الإدارة الأمريكية الجديدة منذ وصولها إلى سدة الحكم، يصبح التساؤل الأكثر طرحًا: ما دوافع الإدارة الحاليّة لانتهاج هذه المواقف المضادة ضد إيران؟ وما تداعيات أو تأثيرات هذا القرار؟
دوافع العقوبات المفروضة
لعل أفضل أسلوب لسرد دوافع الإدارة الأمريكية لتبني نهج تصعيدي ضد إيران، يكمن في تناول الموضوع على الصعيد الشخصي والوطني ـ الداخلي والدولي.
ـ صعيد شخصي
على صعيد نظري، تؤكّد النظريتان السلوكية النفسية السياسية والنظرية البنيوية في العلاقات الدولية أن العواطف والآراء الذاتية تؤثر بشكل أو بآخر على آلية اتخاذ القرار، موضحةً أن الإنسان يتميز بالعقلانية والتفكير، فلا يُعقل أن يعمل وفقًا للآلية المؤسسية دون الانصياع لآرائه الشخصية، وأهم شخصيات يمكن تحليلها في الإدارة الأمريكية هي رأس الإدارة ووزير الدفاع ومستشار الأمن القومي وكبير الخبراء الإستراتيجيين السابقين.
1ـ دونالد ترامب
أـ رجل الأعمال والتجارة: شاع في الآونة الأخيرة ادعاء بأن ترامب رجل أعمال مخضرم، لذا فإنه يتمتع بعقلانية اقتصادية في عمله السياسي، بمعنى أنه يطمح دومًا لإجراء صفقات في أسرع وقت وبأقل تكلفة وأثمن الأرباح عملًا بمبدأ “فرصة التكاليف البديلة” لكل تحرك.
ويعني مبدأ “تكلفة الفرصة البديلة” “قيمة التكلفة المُتوقعة التي يمكن خسارتها من المشروع القائم لو تم اختيار بديلٍ آخر، أي تكلفة البديل الذي تم اختياره مقابل المنفعة التي تمت خسارتها من البديل الآخر، وما العائد الذي سيحققه الخيار الواقع عليه الاختيار؛ وعلى ما يبدو، يرى ترامب أن تكلفة خيار الاتفاق مع إيران كانت باهظة الثمن مقابل خيار عدم الاتفاق معها أو الاتفاق وفقًا لفرصة تكاليف أقل ثمنًا من ذلك.
نظرة لترامب تنطلق من منظوره “الآخري” للآخرين،حيث نرى أنه يميز نفسه وإدارته مقارنة بالعالم بصفات متأصلة عضوية كالقومية والدين
ويكاد يكون هذا الادعاء الذي يبيّن إيثار ترامب لعواطفه ودوافعه ومقوماته الشخصية، محاكيًا جدًا للواقع، فالرجل تعود لسنوات على ذلك، وينطلق في تقييم الاتفاق المبرم مع إيران من هذا المنطلق، حيث يرى الاتفاق عبارة عن صفقة خاسرة وباهظة التكلفة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة، ومرد ذلك، ربما، إلى عدم إحكام الاتفاق تطوير إيران للرؤوس النووية بالكامل.
بـ ضيق النظرة العامة للأحداث والاندفاع القطبي: نستقي ذلك، على سبيل المثال، من هجومه المبطن بقيم دينية ـ أقرب إلى الأصولية ـ وقومية شخصية ضد المسلمين عامة دون التمتع بحنكة عقلانية تمكنه من تصنيف المسلمين الى إرهابيين ومعتدلين، بالإضافة إلى النزعة القطبية التي تظهر على تصريحاته بوضوح، من خلال مهاجمته الصين مثلًا بسبب فعالياتها التجارية وتحركها الدبلوماسي المهادن لكوريا الشمالية.
ولعل هذه النظرة لترامب تنطلق من منظوره “الآخري” للآخرين، حيث، وبالنظر إلى تصريحاته وبعض أفعاله المشهودة، نرى أنه يميز نفسه وإدارته مقارنة بالعالم بصفات متأصلة عضوية كالقومية والدين، فهو يحاول أن يعكس هويته عبر قواعد ذهنية تستند إلى منظور فكري قومي يسعى إلى أن تسيطر الطموحات القومية “الأمريكية” على أكبر مساحة ممكنة في رسم العلاقات الخارجية للدولة وسلوكياتها، حتى تصبح السياسة الخارجية الأمريكية مصبوغة بصبغة تنافسية قطبية مع الأقطاب الدولية الأخرى والتوجهات المخالفة لتوجهاتها.
وهو ما ظهر من خلال تبنيه سياسات الحمائية الاقتصادية التي انسحب على إثرها من اتفاقية التجارة الحرة للمحيط الهادئ، ومطالبته برفع قيمة “فاتورة الديون القومية”، إن صح التعبير، التي يمكن أن تعني العلاقة التكاملية بين الولايات المتحدة والدول التي توفر لها الولايات المتحدة الحماية، بحيث تقدم الولايات المتحدة الحماية وتقدم الدول المحمية المقابل الاقتصادي الذي يكون عادة عبر امتيازات لشركات أمريكية أو صفقات أسلحة كبرى.
أيضًا ظهرت القطبية جلّيًا في الإستراتيجية الجديدة التي أعدتها إدارة الرئيس ترامب للأمن القومي، حيث اعتبرت روسيا والصين “قوتين غريمتين” تحاولان صياغة عالم يمثل نقيض قيم الولايات المتحدة ومصالحها، بما يُعيد للأذهان ذهنية الحرب الباردة، أيضًا هاجم إيران، متهمًا إياها بزعزعة أمن المنطقة وتهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، واعتبر “إسرائيل” ليست سبب مشكلات المنطقة، مما يحمل اتهام مبطن ضد إيران والفلسطينيين.
يرى ستيف بانون كبير المستشارين الإستراتيجيين السابق ” أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر لعب دورًا كبيرًا في فسح المجال أمام النظام الإيراني لتضخيم قوته والتوغل في منطقة الشرق الأوسط بفكره الخطير
وتأتي هذه الإستراتيجية مخالفة لإستراتيجية بيل كيلينتون وجورج بوش الابن، نسبيًا، وباراك أوباما، الذين لم يظهروا هذه القطبية الواضحة، وهنا يبدو واضحًا إثارة ترامب لخصوصيته الشخصية “الأنا” على حساب عمومية المصلحة العامة للولايات المتحدة.
فضلًا عن أزمته الهوياتية التي يوضحها المفكر السياسي لوسيان باي في حديثه عن مشاكل عملية التنمية السياسية، حيث يرى أن عددًا من الساسة يرتبطون بهوية توالي أفكارًا معينةً تضر سلبًا بالمصلحة العامة، وتؤدي إلى نتائج عكسية على المدى البعيد.
مايكل فلين
2ـ مايكل فلين “شخص رحل جسدًا وباقٍ فكريًا”
أقاله الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في أغسطس/أب 2013 للاختلاف بشأن موضوعي الدعم الموجه للفصائل السورية والاتفاق الإيراني، كان يرى فلين أن إيران الرابح الأكبر في معركة الموصل، ولا بد من تقليص حجم تغلغلها في المنطقة، مؤكدًا أن تنامي تغلغل إيران في المنطقة يشكل تداعيات أمنية خطيرة على واشنطن.
وعلى الرغم من مغادرة فلين منصبه، فإنه كان رجلاً ذا خبرة تكنوقراطية أدت، بلا أدنى شك، دورًا جيدًا في تهيئة الأفكار السياسية لدى ترامب وإدارته، لا سيما أن فلين، ذكر في كتابه “مشهد الحرب” أن إيران أقامت تحالفًا مع القاعدة وحزب الله اللبناني ضد الغرب وخاصة الولايات المتحدة، متهمًا إياها باستهداف السفارة الأمريكية في كينيا وتنزانيا عام 1998.
إن تحامل فلين على إيران ينبع، على الأرجح، من قناعته بضرورة الاستقرار الإقليمي الذي يحمي دول الشرق الأوسط الصغيرة من الخضوع لسياسات إيران المضادة لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها، لا سيما “إسرائيل”.
يُصنف مايكل فلين على أنه المشير على ترامب بإيقاف استقبال المهاجرين من بعض البلدان حتى يتم وضع معايير فحص ومتابعة جديدة
ولقد كان فلين من أشد المعارضين للاتفاق النووي مع إيران، وكان يعتبره خطأ فادحًا في الرؤية الإستراتيجية للغرب، حيث شدد على أن القضية الرئيسية يجب أن تكون النظام الإيراني ومفهومه المتطرف للإسلام الذي يدعو إلى محاربته من أجل المصالح العليا للولايات المتحدة في المنطقة.
إن تصريحات وخطابات فلين والشخصيات الأخرى في الإدارة الأمريكية الجديدة تُشير إلى إيمانه العميق بإستراتيجية الضربة الوقائية، كالاستهداف المباشر في الداخل، إلى جانب سياسات العصا الغليظة، كالاحتواء والتطويق، وإن كانت سياسة الاستهداف المباشرة غير متبعة من الإدارة الحاليّة، إلا أنه يظهر جلّيًا ارتكازها إلى إستراتيجية الاحتواء القائمة، حتى الآن، على تضييق الخناق على انفتاحها الاقتصادي، وهذا ما نشهده يُطبق اليوم.
ويُصنف على أنه المشير على ترامب بإيقاف استقبال المهاجرين من بعض البلدان حتى يتم وضع معايير فحص ومتابعة جديدة، وهذا دليل آخر على استمرار تأثيره في مسار الإدارة الحاليّة.
ستيف بانون
3ـ ستيف بانون كبير المستشارين الاستراتيجيين السابق “حاله كحال فلين”
يرى بانون أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر لعب دورًا كبيرًا في فسح المجال أمام النظام الإيراني لتضخيم قوته والتوغل في منطقة الشرق الأوسط بفكره الخطير، وهو ما أدى إلى التأثير بشكل سلبي على السمعة القوية للولايات المتحدة.
يتمتع بانون بالنمط الأحادي أو القومي أو الغرائزي في تقييم الأحداث، وربما لنظرته “اليمينية المتطرفة” دورًا كبيرًا في دفعه لحصر أسباب الأحداث المختلفة في “مساوئ الدين الإسلامي” أو “مساوئ العرق غير الأبيض”.
وفي تحركات الإدارة الأمريكية حيال إيران نصيب من تبني بعض آراء بانون الذي كان يحمل ما يمكن أن نسميه “جميل” على ترامب وحملته، مما أحال الأخير لتعيينه في منصب كبير المستشارين الإستراتيجيين في إطار الاسترضاء.
ولا ريب في أن توجهه الهوياتي القائم على النظرة اليمينية المتطرفة لعبًا دورًا في تعزيز الأفكار القطبية لدى إدارة ترامب التي تسير اليوم نحو مراجعة سياسة أوباما والإدارات السابقة ليس ضد إيران فقط، بل ضد الحلفاء الكلاسيكيين أيضًا كمنطقة الخليج العربي والصين ومنطقة الاتحاد الأوروبي.
مايك بومبيو
4ـ مايك بومبيو مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية
اقترح بومبيو عام 2014 مع عدد من الصحفيين أن تقصف الولايات المتحدة المنشآت النووية في إيران، وقيم الاتفاقية المبرمة مع إيران على أنها ستؤجل فقط من تطوير رأس حربي نووي إيراني لكن لن توقفه.
تشابه أفكار بومبيو إلى حدٍ كبير أفكار فلين، لا سيما فيما يتعلق بنقطة إيمانه العميق بإستراتيجية الضربة الوقائية، غير أن الواقعية الميدانية تجعله وإدارته، على الأرجح، يكتفي بتنفيذ سياسات الاحتواء والتطويق.
جيمس ماتيس
5- جيمس ماتيس وزير الدفاع
أحالته إدارة أوباما للتقاعد عام 2013 بسبب تحمسه الشديد وإلحاحه على استهداف بعض مكامن عناصر تنظيم القاعدة في العراق وسوريا، التي نتج عنها، فيما بعد، ما بات يُعرف باسم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
أكد جيمس أن خطر إيران أكبر من خطر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ووصف النظام الملالي بأنه أكثر الأخطار التي تهدد ديمومة الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط، وصف جيمس أن هناك اختلافًا في الآراء بين الولايات المتحدة وأهم حلفائها في الشرق الأوسط بسبب الاتفاق النووي، وبرنامجها لبناء قوى بحرية مضادة للوجود الأمريكي في مياه الخليج، عدا عن خطر صواريخها الباليستية التي تعمل إيران على تطوريها، وعن خطر الهجمات الإلكترونية الإيرانية.
في الحقيقة، تشير تصريحات ماتيس الذي كان متوليًا لمنصب القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط قبل استقالته، وخططه الحماسية ضد إيران، كتوضيح أولوياته عندما عُيّن بمنصب القائد الأعلى للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط بالقول “الأولوية الأولى إيران، والثانية إيران، والثالثة إيران” متأثرًا بمراسلته مع الجانب الإسرائيلي، واقتراحه استهداف إيران في عقر دارها في صيف 2011 ردًا على دعمها لبعض المنظمات الإرهابية في العراق، وخلافه الشديد مع إدارة أوباما بسبب موقفها من إيران الذي آل به إلى الاستقالة، إلى أنه يتمسك برؤيته الشخصية ضد إيران التي يراها دولة أضرت بمصالح الولايات المتحدة في العراق، ولا زالت تضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة ككل.
تتبنى الإدارة الأمريكية الحاليّة مبدأ “العصا الغليظة” من خلال الاعتماد الأساسي على سياسة الاحتواء أو التطويق
ونستقي من ذلك بأنه يكابد أزمة الارتباط الجغرافي التاريخي؛ حيث خدم في الشرق الأوسط ويحاول توجيه سياسته نحو هذه المنطقة، انطلاقًا من علمه بحيثياتها أكثر من أي منطقة أخرى، وما هو نتج عنه، حسب ما يبدو، أزمة توزيع المهام، وتبرز هذه السمة في تركيزه الشديد على الملف الإيراني دونما النظر إلى باقي الملفات التي تشكل أهمية متوازية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية (الملف الكوري الشمالي، نهوض اقتصاد الصين، توسع النفوذ الروسي)، للملفات وفقًا لسلم الأولويات، وذلك من خلال ربطه لجميع القضايا بنقطة واحدة بمعزل عن الترابط السببي لتلك القضايا.
ولعل إيمانه بنظرية الاستقرار الإقليمي القائم على ضرورة تذليل المشاكل المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط هي العنصر الأساسي في خدمة المصالح الأمريكية، يدفعه لتبني موقف معادٍ لإيران، ربما لأنها، وفق قناعته، خلقت نوعًا من الفوضى العارمة في المنطقة.
ـ الصعيد القومي:
ـ التحامل الحزبي: وهو تحميل أعضاء الإدارة الأمريكية الجديدة الحزب الديمقراطي الذي كان على سلم السلطة، مسؤولية نشوء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتغوله إلى جانب إيران في منطقة الشرق الأوسط.
ـ تتبنى الإدارة الحالية مبدأ “العصا الغليظة” من خلال الاعتماد الأساسي على سياسة الاحتواء أو التطويق، بهدف، كما ظهر في التصريحات، إعادة “الهيبة أو العظمة الدبلوماسية السياسية” للولايات المتحدة.
تؤكّد مؤسسة الاقتصادي السياسي سوزان سترنج أن النفوذ الأمني والتجاري والتمويلي والتكنولوجي هو الذي يكفل للدول القومية تحقيق العظمة والتأثير على الساحة الدولية، ولا يُعقل أن تترك الولايات المتحدة، كمؤسسات، إيران تمضي في مشروعها من دون تطويق أمريكي، ولعل تصريح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، بأن الرد على تحركات إيران سيكون في إطار دبلوماسي ناعم وليس عسكري صلب، يعكس بوضوح عزوف الولايات المتحدة عن تبني سياسة الضربة الوقائية ذات النتائج السلبية في العراق وأفغانستان، وتحركها بسياسة الاحتواء والتطويق “العصا الغليظة” ضد المشروع الإيراني.
العقوبات الأمريكية التي فرضت ضد 14 كيانًا وشخصيةً إيرانية، إلى جانب التصريحات الهجومية شكلية لا أكثر
ـ الصعيد الدولي
أـ تغلغل إيران في المنطقة وإنشاء مصانع أسلحة كيميائية في بانياس “طرطوس” ومصياف “حماه”، ويُعتقد أنها تطور أسلحتها النووية في هذه المصانع وفقًا لدراسة تعتمد أسلوب المقارنة والمسح والبحث المعمق، نُجريها في مركزنا “مركز الشرق للسياسات”.
ب ـ استمرار إيران في تصنيع الأسلحة الباليستية، لها القدرة على حمل أنواع مختلفة من الرؤوس الحربية مثل الرؤوس الكيميائية (النووية) والشديدة الانفجار، أي إنه السلاح الذي لا يعرف الحدود بين الدول، وقد اُستخدم من الحوثيين في اليمن.
ج ـ بنية الاتفاق، توجد مادة تنص على أن بعض القيود التقنية المفروضة على الأنشطة النووية تسقط تدريجيًا اعتبارًا من 2025، ومادة أخرى تنص على حد إيران من مستوى التخصيب النووي بحيث لا يتجاوز 5%، والتوقف عن بناء المزيد من مفاعلات المياه الثقيلة لمدة 15 عامًا، والسماح للمفتشين الدوليين بدخول البلاد، مما يعني أنه يمكن أن تطور برنامجها خارج البلاد.
د ـ ربما ركاكة عمليات تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتسرب أنباء عن استمرار إيران في برنامجها سرًا.
هـ ـ فتح الاتفاق الأبواب على مصرعيها أمام إيران للانفتاح على العالم دبلوماسيًا واقتصاديًا.
يـ تعليق دول عربية الآمال على شخص ترامب وصهره كوشنير، بعد قمة الرياض التي بلغت كلفتها 500 مليار دولار.
الاتفاق النووي مع إيران
ما هي تأثيرات هذا القرار؟
يبدو أن العقوبات الأمريكية التي فرضت ضد 14 كيانًا وشخصيةً إيرانية، إلى جانب التصريحات الهجومية شكلية لا أكثر، وما يُفسر ذلك هو العوامل التالية:
1ـ عوامل داخلية مُتعلقة بإيران
ـ التماسك البنيوي المؤسسي لإيران: رغم وجود معارضين داخليين للنظام الإيراني، إلا أن التماسك البنيوي المؤسسي له ملموس، وقد يُلامس هذا التماسك، ببساطة، من خلال النظر إلى سيرورة المشروع الإيراني الإستراتيجي الذي لم يتغير بتغير الرئيس، كما يظهر بالنظر إلى هيكلية عمليتي صنع واتخاذ القرار، إذ يمثل الشعب في إيران حزبان فقط: المحافظين والإصلاحيين، إلى جانب زخره بجهاز حكم مؤسسي تحكمه رقابة داخلية، حيث يُنتخب البرلمان والرئيس من الشعب، ويتشارك الطرفان، أي البرلمان والرئيس، في مراقبة أعمالها، وموازنة قرارات الرئيس السيادية عبر عرضها على البرلمان للتصديق.
وهناك مجلس الخبراء الذي يعين ويعزل المرشد الذي يقوم بدوره بتعيين أعضاء مجلس صيانة الدستور “يصادق على ترشيحات المواطنين للانتخابات”، وتعيين رئيس السلطة القضائية بعد ترشيحه من الرئيس، وأعضاء مجلس تشخيص مصلحة النظام “مجلس استشاري للمرشد”، وبالتمعن في نظام بيروقراطية صناعة وأخذ القرار الإيراني نجده مؤسسي متوازن.
تسوق إيران ذرائع الترابط التاريخي لتحركها القومي والمذهبي في إقليمها المحيط منذ فجر التاريخ، ولهذه القوة دور أصيل في شحذ العواطف القومية لدى المواطنين
ـ عوائد الثراء الريعي لإيران: يوفر لها هذا الثراء الذي يتجلى في مخزون نفطي جيد، ومخزون من الغاز الطبيعي يجعلها أكبر ثالث دولة محتضنة للغاز الطبيعي، مقومات اقتصادية متينة تجعلها دولة جاذبة للدول الأخرى للتعاون.
وتستعد إيران لتصدير مخزونها من الغاز الطبيعي عبر خط بينها وبين الهند برعاية روسية، وخط آخر يُسمى الخط الإسلامي أو الفارسي يمر بالعراق وسوريا ولبنان، والدول الأوروبية في المستقبل، ولا شك أن ذلك يوفر لها قوة اقتصادية تواجه العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة.
ـ التماسك العسكري الأمني الاقتصادي الإستراتيجي لإيران التي باتت تُطبق الإستراتيجية الوقائية وحرب الوكالة في سوريا والعراق واليمن، ويُجري داوود أوغلو في كتابه “العمق الإستراتيجي” معادلة جيدة لقياس قوة دولةٍ ما، مسطرًا لها على النحو التالي:
القوة الثابتة (التاريخ، الجغرافيا، عدد السكان، المصادر الريعية) + القوة المتغيرة (القدرات العسكرية، القدرات التكنولوجية، حجم التقدم الاقتصادي) ضرب المشروع الاستراتيجي + المخطط الإستراتيجي + الإرادة السياسية = قوة
فيما يتعلق بالقوة الثابتة، تسوق إيران ذرائع الترابط التاريخي لتحركها القومي والمذهبي في إقليمها المحيط منذ فجر التاريخ، ولهذه القوة دور أصيل في شحذ العواطف القومية لدى المواطنين وغير المواطنين الذين يدينون بالولاء لإيران، الداعمين لمشروعها الإستراتيجي.
تحتل إيران، وفقًا لإحصاءات 2016، المركز الـ18 على مستوى جيوش العالم، حيث يبلغ تعداد الجيش نحو 545 ألفًا، ويبلغ الاحتياطي نحو مليون و800 ألف مقاتل
وتتمتع إيران بجغرافيا إستراتيجية توفر لها موقع جيو ـ سياسي مهم يربط بين أواصل القارة الآسيوي، ويجعلها قريبة من مضيق هرمز، ومشكلةً محور أساسي لتمدد “الأوراسيانية الجديدة” المهيمنة على مسار السياسة الخارجية الروسية التي تعني اعتماد محاور بمثابة الأعمدة في عدة أقاليم يمكن لها أن تكسر الهيمنة الأمريكية المحتكرة لمسار العلاقات الدولية، وتأتي طهران، نسبةً لموقعها الجغرافي الإستراتيجي، في مقدمة المحاور التي تعتمد عليها روسيا في منطقتي آسيا الوسطى والشرق الأوسط، إلى جانب محاور أخرى كمحور موسكو ـ طوكيو، وموسكو ـ برلين ـ باريس وغيره.
عدد سكان إيران 80 مليون نسمة، 79% منهم يُجيد القراءة والكتابة، وما يقارب 46 مليونًا منهم يأتي في إطار أعداد القوى العاملة، ويُشير ذلك إلى نوعية سكان إيران كمًا ونوعيةً، ويعني أنها تملك قوة بشرية اقتصادية مُستهلكة ومُنتجة تشكل دورة اقتصادية جيدة يمكن، عبر توجيه الحكومة، أن تواجه العقوبات الاقتصادية عبر توسيع نطاق عملها التجاري والاستثماري الخارجي، لا سيما في ظل وجود مصادر ريعية يمكن للحكومة أن تركن إليها لرفع مستوى الاستثمار السلعي والخدماتي والرأسمالي الداخلي والخارجي.
وعن المصادر الريعية، يبلغ احتياطي النفط في إيران 157.3 مليار برميل، وتُعتبر الدولة صاحبة أكبر احتياطي للغاز الطبيعي، باحتياطي بلغ 388 مليار لتر مكعب، وفقًا لمؤسسة بريتش بتروليوم البريطانية، وهذا ما حمل، على الأرجح، بعض دول الاتفاق النووي، لا سيما فرنسا صاحبة شركة توتال العالمية للطاقة، إلى رفض التحركات الأمريكية المضادة لإيران، وفي ذلك تجلي واضح للقوة الثابتة لإيران في تحريك دول أخرى لصالحها.
وفيما يخص القوة المتغيرة، من ناحية القدرات العسكرية، تحتل إيران، وفقًا لإحصاءات 2016، المركز الـ18 على مستوى جيوش العالم، حيث يبلغ تعداد الجيش نحو 545 ألفًا، ويبلغ الاحتياطي نحو مليون و800 ألف مقاتل، وعن الملتحقين بالخدمة العسكرية سنويًا فيبلغ تعدادهم نحو مليون و392 ألفًا و483.
تبلغ ميزانية الجيش 6.3 مليار دولار، ويمتلك 2409 دبابة ومدفع و481 طائرة، بالإضافة إلى 397 قطعة سلاح بحري تتنوع بين 6 فرقاطات و3 سفن حربية و32 غواصة و111 طائرة للدفاع الساحلي و7 ألغام بحرية.
ويمتلك الجيش الإيراني منظومة الدفاع الجوي إس ـ 300 الروسية المتميزة بقدراتها الفائقة بصد الهجمات الجوية الخارجية، وتجعل هذه القدرات إيران قوة إقليمية فاعلة على الصعيد العسكري وفقًا لمعايير القوة العسكرية.
في حال حدث الانفتاح الكامل للاقتصاد الإيراني، بما يشمل رفع الحصار الاقتصادي الغربي عنه، قد يرتفع إسهام القطاعات غير الريعية بشكل أكبر
ومن حيث القدرات التكنولوجية، بحلول عام 2013، باتت إيران من أهم اللاعبين الأساسيين على ساحة الحرب الإلكترونية الدولية، إذ استطاعت شن هجومها الشهير على سد نيويورك عام 2013، ومن ثم الحواسيب الشخصية لمسؤولي إدارة أوباما عام 2015.
تخصص إيران، وفقًا للبنك الدولي 4% من إجمالي الناتج المحلي الخاص بها، وتخصص 4.5% من إجمالي الناتج المجلي للتعليم، وتعتبر هذه المعايير أساسية في قياس قوة الدولة من ناحية القدرات التكنولوجية.
وبالوصول إلى القدرات الاقتصادية، بلغ إجمالي الناتج المحلي لإيران في عام 2016 نحو 412.2 مليار دولار، وتُعد بذلك ثاني أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد المملكة العربية السعودية، وتشكل عائدات النفط الإيراد الأكبر للنشاط الاقتصادي الإيراني.
لكن لا يمكن إغفال الحجم الملموس الذي تورده قطاعات الزراعة والخدمات والصناعات التحويلية والخدمات المالية التي تُصنف على أنها العوامل التي تكسب الديمومة للاتجاه الإيجابي للميزان التجاري، وفي حال حدث الانفتاح الكامل للاقتصاد الإيراني، بما يشمل رفع الحصار الاقتصادي الغربي عنه، قد يرتفع إسهام القطاعات غير الريعية بشكل أكبر.
وبخصوص المشروع الإستراتيجي والمخطط الإستراتيجي “شكل وأدوات إدارة عملية تنفيذ المشروع الإستراتيجي” إلى جانب الإرادة السياسية، لا بد أننا نجد تحرك إيران الجاد في تنفيذ مشروع “الهلال الشيعي” في العراق وسوريا ولبنان.
2- عوامل خارجية مُتعلقة بالوضع الدولي
ـ عدم تعاطي الدول الجارة لإيران، كتركيا وأرمنيا وأذربيجان وتركمنستان، بقرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران، فعلى سبيل المثال وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران عام 2016 إلى 9.6 مليار دولار، كما تم توقيع، عام 2015، بين الطرفين اتفاقية تبادل تجاري اختياري “حر” يشمل تخفيض تخفيض التعريفات الجمركية على 125 منتج صناعي و140 منتج زراعي بحسب وزارة الاقتصاد التركية.
تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة كبح جماح التوغل الإيراني في المنطقة، انطلاقًا من كونه يؤثر سلبًا في المصالح الأمريكية والحلفاء
ـ انعدام المنافس الإقليمي الحقيقي والقوي لإيران، يمكن أن نعرض تركيا أو المملكة العربية السعودية كدول منافسة إقليمية لإيران، غير أننا رأينا جميعًا عدم قدرة تركيا على إرجاح كفة الميزان لصالحها في سوريا، وضعف المملكة العربية السعودية في مواجهة جماعة الحوثي في اليمن، في حين استطاعت إيران استتباع العراق ولبنان واليمن وسوريا.
ـ توفير روسيا، كدولة محورية عظمى، الغطاء الشرعي والحماية العسكرية والدعم الاقتصادي والتكنولوجي لإيران، وتنطلق روسيا نحو إيران من دافع تيار الأوراسيانية الذي يسيطر على سياستها الخارجية الحاليّة، كسر الهيمنة الأمريكية.
ـ معارضة دول الاتفاق الأخرى فرض عقوبات على إيران، وتطلعها للتعاون معها، لا سيما على صعيد اقتصادي، وذلك انطلاقًا من قاعدة التحالف النسبي، وليس التحالف المُطلق، أي أن بعض دول 5+1 تنظر إلى مكسبها من الاتفاق مع إيران مقارنة مع دول الاتفاق الأخرى، بمعزلٍ عن الهدف المطلق لهذا التحالف الذي كان محددًا في إطار الحيلولة دون تطوير إيران قدراتها النووية بشكلٍ كامل.
غير أن معارضة هذه الدول للنقض الأمريكي للاتفاق الذي لا يحرم إيران بالكامل من العمل في تطوير قدراتها النووية وإنما يحد منها، يبيّن أن بعض هذه الدول، لا سيما فرنسا حسبما ما ظاهر حتى الآن، لا تأبه بالهدف المطلق أو العام للتحالف، وإنما تهتم لمدى قدرتها على الاستفادة سياسيًا واقتصاديًا من هذا الاتفاق لصالح مصالحها القومية مقارنة مع دول الاتفاق الأخرى.
في الختام، تحاول الإدارة الأمريكية الجديدة كبح جماح التوغل الإيراني في المنطقة، انطلاقًا من كونه يؤثر سلبًا في المصالح الأمريكية والحلفاء، لكن بالتمعن بتوازن القوى الذي يوفر المساندة العسكرية والدعم الدبلوماسي والشرعية، ممثلًا بروسيا ونسبيًا بالصين، نستطيع القول إن هذا السياسات لا تعدو كونها شكلية لا أكثر.
ولعل تغيير موازين القوى الإيرانية الداخلية والإقليمية والدولية الخارجية المحيطة بإيران هي الأجدر في توسيع دائرة سياسة “الاحتواء والتطبيق” لإحداث عقوبات فعلية تضيق على النظام الإيراني وتغير توجهه، إن كانت الولايات المتحدة جادة في ذلك طبعًا.