ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب كل من: غريف ويت، مدير مكتب واشنطن بوست في برلين، ومايكل بيرنبوم، مدير مكتب واشنطن بوست في بروكسل
قبل سنة من الآن، استغل دونالد ترامب لحظاته الأولى كرئيس الولايات المتحدة الخامس والأربعين لاستعراض رؤية متحولة جذريا للقوة العظمى في العالم، التي أطلق عليها اسم “أمريكا أولا”. في هذا الإطار، قال مناصرو ترامب إن الرئيس الأمريكي حقق هزيمة عسكرية على تنظيم الدولة، وإنفاقا أكبر من قبل حلفاء الولايات المتحدة على مجال الدفاع، والتزاما بإدخال تغيير أو التخلي عن اتفاقيات دولية على غرار اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، والاتفاق النووي الإيراني، واتفاق باريس للمناخ.
لكن، تسبب نهج “أمريكا أولا” أيضا في جعل الولايات المتحدة أكثر عزلة، حيث كان التأثير العام لهذه السياسة بمثابة تراجع واضح للقوة الأمريكية وفرصة لخصوم الولايات المتحدة من قبيل الصين وروسيا، وذلك وفقا لما أفاد به الدبلوماسيون والسياسيون والمحللون الذين شملتهم مقابلات صحيفة واشنطن بوست في جميع أنحاء العالم. في الواقع، يشهد الدور الأمريكي في العالم انكماشا منذ سنوات، في الوقت الذي تمكنت فيه دول أخرى من توسيع طموحاتها واقتصاداتها وجيوشها.
بالإضافة إلى ذلك، أفادت الأطراف الفاعلة في السياسة الخارجية أنها ترى أمرا مغايرا في الوقت الحالي، والمتمثل في تحول مضطرب للولايات المتحدة من قائد عالمي يعمل مع شركائه على محاولة تشكيل العالم، إلى قوة عظمى تركز على ذاتها وتُعرّف دورها العالمي بطريقة محدودة. في هذا الصدد، شدّدت إدارة ترامب على مكافحة الإرهاب والميزة الاقتصادية الأمريكية في سياستها الخارجية، في حين انتقصت من منزلة الأولويات الأمريكية التقليدية على غرار تعزيز حقوق الإنسان، والديمقراطية، والتنمية الدولية.
يسارع خصوم الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم إلى ملأ الفراغ الأمريكي في الوقت الذي تنفصل فيه واشنطن عن أقرب حلفائها في مجال التجارة واتفاقيات دولية أخرى
على الرغم من أن نهج ترامب حظي بالثناء من قبل عدة بلدان، بما في ذلك إسرائيل والمملكة العربية السعودية، إلا أنه لا يحظى بشعبية في العديد من الدول الأخرى بشكل ملفت للنظر. وفي هذا الإطار، أجرت “مؤسسة غالوب” استطلاع رأي بشأن المواقف إزاء نهج ترامب شمل 134 دولة وتم إصداره يوم الخميس الماضي. وقد أظهر الاستطلاع انخفاضا حادا في دعم القيادة الأمريكية في العالم، وذلك من متوسط حوالي نصف من شملهم الاستطلاع، الذي دعموا هذه القيادة في عهد باراك أوباما، إلى أقل من ثلث هؤلاء في عهد ترامب.
في السياق ذاته، صرح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الألماني نوربرت روتغين، وحليف المستشارة، أنجيلا ميركل، أن “ما حققه ترامب يعد ضعفا ملحوظا في الموقف الأخلاقي الأمريكي. في الحقيقة، تسبب نهج “أمريكا أولا” في جعل الولايات المتحدة أضعف في العالم”. من جانبه، لم يرد البيت الأبيض على طلب مفصل للتعليق على هذه التصريحات.
في الأثناء، يسارع خصوم الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم إلى ملأ الفراغ الأمريكي في الوقت الذي تنفصل فيه واشنطن عن أقرب حلفائها في مجال التجارة واتفاقيات دولية أخرى. كما تسعى هذه الدول إلى الاستفادة من الارتباك الذي سببه الحلفاء والخصوم على حد السواء، الذين أشاروا إلى السياسة الأمريكية الخارجية على أنها غير محددة وفوضوية، وهو ما تبثّه تغريدات ترامب على موقع تويتر. كما أفاد مسؤول أمريكي يعمل على قضايا الشرق الأوسط، الذي تحدث إلى الصحيفة شريطة عدم الكشف عن هويته للتعليق بكل حرية، كغيره ممن شملتهم المقابلات، أن “هناك فراغا الآن، وبالتالي، لن تتوان بعض الأطراف عن محاولة الاستفادة من ذلك”.
نائب وزير التجارة الصيني، وانغ شوين، الثالث على اليسار، أثناء حديثه في الجلسة العامة لمنتدى الأعمال ضمن المؤتمر الوزاري الحادي عشر لمنظمة التجارة العالمية في بوينس آيرس في 12 كانون الأول/ديسمبر سنة 2017
خلال اجتماع لمنظمة التجارة العالمية عُقد في الشهر الفارط في مدينة بوينس آيرس، اتضح أن الصين كانت إحدى هذه الأطراف. وتجدر الإشارة إلى أن الاجتماع، الذي يُعقد مرة كل سنتين، عادة ما يقدم ملاحظات بشأن مزايا التجارة العالمية، إلى جانب عدد من التعديلات على النظام العالمي. غير أن هذه المرة شهدت تقديم الممثل التجاري الأمريكي، روبرت لايتزر، خطابا قائما على القتال، متهما من خلاله الأعضاء بالاستفادة بشكل غير عادل من قوانين المجموعة، وهو ما مثل صدى للاستنكار الذي دأب الرئيس الأمريكي على تكراره والمتعلق “بصفقات التجارة الغبية”.
نتيجة لذلك، أفاد الحلفاء أنهم قد تلقوا الرسالة التي أراد الجانب الأمريكي إيصالها، ومفادها أن الولايات المتحدة لم تكن حاضرة في المؤتمر لإيجاد أرضية مشتركة. في هذا الصدد، أفاد أحد المسؤولين المشاركين في المفاوضات أن “الوفد الأمريكي بأكمله، وليس لايتزر فحسب، أوضح خلال كافة الاجتماعات واللقاءات الثانوية بطريقة صريحة للغاية أن الجانب الأمريكي لن يوافق على أي إعلان مشترك أو برنامج عمل مشترك”.
لم تمثل التجارة المجال الوحيد الذي رأت فيه الصين فرصة، حيث استفادت القوة العظمى الناشئة من عاصفة التوتر التي شهدتها الأسابيع الأخيرة بين الولايات المتحدة وباكستان
على صعيد آخر، شاهد الحضور في الاجتماع دفاع المسؤولين الصينيين بقوة أكبر عن التجارة الحرة، الذين سعوا فيما بعد على هامش المؤتمر وراء عقد صفقات مع دول أخرى، وفقا لما أفاد به مسؤول أوروبي بارز حضر في الاجتماع. وقد أورد المسؤول الأوروبي أن “الصينيين تراهم نشطين في كل مكان”، حيث كانت ضجة النشاط الصيني واضحة من خلال عدد غرف الاجتماعات التي حجزها الوفد الصيني. وفي بيان أدلى به روبرت لايتزر، قال الممثل التجاري الأمريكي إنه كان على استعداد لعقد اتفاقيات جديرة بالاهتمام، ولكن الاتفاقيات الهزيلة تضعف نظام التجارة العالمي.
وأضاف لايتزر أنه “لمن السخافة إلقاء الأوروبيين اللوم على الأمريكيين لفشل منظمة التجارة العالمية في التوصل إلى نتائج مُتفاوض عليها في بوينس آيرس. إن النهج الأوروبي، القائم على الموافقة على صفقة لمجرد القيام بذلك، يتناقض مع نظام التجارة العالمي. وكي نكون واضحين، لم تخرج الصين بأي نتيجة من المؤتمر الوزاري”. خلافا لذلك، لم تمثل التجارة المجال الوحيد الذي رأت فيه الصين فرصة، حيث استفادت القوة العظمى الناشئة من عاصفة التوتر التي شهدتها الأسابيع الأخيرة بين الولايات المتحدة وباكستان، التي تمثل دولة مسلحة نوويا لطالما كانت شراكتها مع الولايات المتحدة متوترة منذ فترة طويلة.
وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، أثناء مرافقته لوزير الخارجية الباكستاني، خواجة محمد آصف، داخل وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر سنة 2017
في الوقت الذي غرّد فيه ترامب عن “أكاذيب وخداع” الحكومة الباكستانية، وعلقت إدارته حوالي ملياري دولار من المساعدات العسكرية، تدخلت الصين بكل سرور لتقديم الدعم لباكستان. ومن بين الخطوات التي اتخذها الصينيون، التزامهم خلال السنوات الأخيرة بخطة للبنية التحتية في المنطقة بقيمة 62 مليار دولار. من جانبها، بذلت باكستان جهودها للتمييز بين القُوتيْن، حيث قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الباكستاني، مشاهد حسين سيد، إن “الصين تعد شريكا إستراتيجيا، في حين تعتبر العلاقات مع واشنطن تكتيكية”.
في الإطار ذاته، صرح العديد من الديبلوماسيين وصناعو السياسة أنهم يعتقدون أن واشنطن ستظل القوة العالمية البارزة، ولكن مع طموحات خافتة إلى حد كبير، وذلك حتى بعد فترة ترامب في البيت الأبيض. وقد أفاد العضو الألماني في البرلمان الأوروبي الذي يعمل على القضايا العابرة للمحيط الأطلسي، رينهارد بوتيكوفر، أن “الولايات المتحدة لا تمثل شركة إعادة التأمين للنظام العالمي، ولم تعد الضامن في الملاذ الأخير. وفي حال توقفت المنارة على التلة عن الإنارة بعد الآن، فسيكون لذلك تأثير”.
في واقع الأمر، يمكن تلمّس هذا التأثير في حقيقة أن حتى حلفاء الولايات المتحدة منذ وقت طويل، على غرار الهند وتركيا ودول أمريكا اللاتينية، باتت تبحث في أماكن أخرى عن أصدقاء للاعتماد عليهم. وقد عمل القادة الهنود على تعميق العلاقات الإستراتيجية مع اليابان وأستراليا وإسرائيل ودول أخرى. وفي الوقت ذاته، سرّعت المكسيك من وتيرة محادثات التجارة الحرة مع الأرجنتين والبرازيل وأوروبا.
الجدير بالذكر أن فوز ترامب بالرئاسة ألقى بالمكسيك في وضع أشبه بحالة الطوارئ. وقد تفرض العديد من أهداف ترامب الرئيسية تهديدات حادة على الاقتصاد المكسيكي، كبناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وترحيل المزيد من المهاجرين غير الشرعيين، والتغيير الجذري لاتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية أو “نافتا”.
ابتداء من يسار الصورة: وزيرة الخارجية الكندية، كريستيا فريلاند، والممثل التجاري الأمريكي، روبرت لايتزر، ووزير الاقتصاد المكسيكي، إلديفونسو جواجاردو فياريال، خلال مؤتمر صحفي حول اتفاقية “نافتا” في واشنطن في 17 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2017
على الرغم من أن أسوء مخاوف المكسيك لم يتحقق بعد، بيد أن تجنب الأزمة يتطلب بذل الجهود باستمرار. وفي هذا الشأن، قال مسؤول مكسيكي إن “الأمر أشبه بسلسلة لعينة من التغيرات المفاجئة عند محاولة القراءة بين السطور، وبين التغريدات، وبين الرسائل المختلفة القادمة من آخر شخص تحدثت إليه، بما في ذلك الرئيس نفسه، ومن ثم محاولة اتخاذ قرار حول ما يجب فعله”.
من جهته، أفاد نوربرت روتغين أن ترامب كان غير قابل للتنبؤ به لدرجة جعلت بعض القادة الأوروبيين أكثر حذرا إزاء السعي للاجتماع به. وأضاف روتغين أن “هناك احتمال وقوع حوادث، ولا يمكن التنبؤ بما سيحدث. كما أنه دائما ما يُنظر إليه من منظور المعاملات”. فضلا عن ذلك، أوضح مستشار كبير لأحد الزعماء الأوروبيين أنهم لم يعودوا يسعون إلى تحديد موعد مع ترامب على هامش القمم، “ففي الحقيقة، دائما ما تبحث عن فرصة للقاء الرئيس الأمريكي”. ولكن في الوقت الراهن، أصبح ذلك الزعيم يتواصل عبر مسؤولين أمريكيين من مستوى أدنى وأقل تغيرا.
مع ذلك، لا يزال معظم حلفاء الولايات المتحدة وأقربهم إلى واشنطن يسعون إلى إجراء مناقشات مع الرئيس، حيث قام رئيس الوزراء النرويجي بزيارة البيت الأبيض خلال هذا الشهر. كما يسعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أيضا إلى عقد اجتماع مع ترامب ضمن المنتدى الاقتصادي العالمي الذي سيقام في دافوس الأسبوع القادم. فضلا عن ذلك، أصبح القادة، الذين كانوا متخوفين من تخلي ترامب عن بعض الالتزامات الدولية الأساسية لواشنطن، مطمئنين الآن بعد نشر القوات الأمريكية القوية في جميع أنحاء أوروبا. ولكن، حتى أولئك الذين أيّدوا بحماس إدارة ترامب، فوجئوا بأسلوب الرئيس وقراراته.
الرئيس ترامب أثناء استماعه لبيان ألقاه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أمام وسائل الإعلام قُبيل اجتماع في فندق “ذا بالاس” خلال الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 أيلول/سبتمبر سنة 2017 في نيويورك
في وقت مبكر من ولاية ترامب، شعر المسؤولون المصريون أنهم قد وجدوا أخيرا رئيسا أمريكيا يتفهّمهم، حيث وجهت حكومة الرئيس، عبد الفتاح السيسي، انتقادات لاذعة لإدارة أوباما سابقا بسبب تركيزها على حقوق الإنسان والديمقراطية. ولكن فيما بعد، كانت التحركات المربكة التي ارتبطت بالسياسة الأميركية وتغريدات ترامب على تويتر، محبطة وغريبة. وبحلول آب/أغسطس الماضي، قامت الحكومة الأمريكية بقطع المساعدات عن المصريين، التي كانت تقدر بحوالي 300 مليون دولار، بسبب المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان، وهو ما جعل المصريين يستشيطون غضبا.
من ثم، جاء قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. وفي هذا السياق، قال المسؤول الأمريكي الذي يعمل على قضايا الشرق الأوسط: “لا تكفينا الكلمات لوصف الوضع الحالي. ففي الأيام الأولى لإدارة ترامب، كانت الكلمات تعني شيئا ما، وكان هناك معنى لثناء الرئيس ترامب على السيسي. أما الآن، ففقد المصريون ثقتهم ما بين القرار الذي تم اتخاذه خلال آب/أغسطس، والقرار الذي يخص القدس”.
خلافا لذلك، لا تزال سياسات ترامب تلقى ترحيبا واسعا في بعض الأوساط، حيث استقبله المسؤولون السعوديون بحماس في زيارة قام بها خلال شهر آيار/مايو. وقد كان هؤلاء المسؤولين مسرورين بسبب رفض ترامب للسياسات المعتمدة في عهد أوباما والتي كانت أقل حدة تجاه إيران. كما تحسنت صورة الولايات المتحدة بشكل ملحوظ في إسرائيل خلال ولاية ترامب، الذي ساند الحكومة اليمينية التي يقودها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أكثر مما فعل أوباما.
في هذا الشأن، قالت نائبة وزير الخارجية الإسرائيلية، تسيبى هوتوفلي، في حديث لها عن ترامب: “لقد أنشأ فكرا جديدا في البيت الأبيض. إنه ملم بما يحدث في المنطقة أفضل من أولئك الخبراء الذين حذروا من أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أو تحويل السفارة إلى القدس، سيؤدي إلى انفجار الشرق الأوسط. ولكن هذا لم يحصل، فالمنطقة لم تنفجر”.
اشتباك الفلسطينيين في قطاع غزة مع قوات الأمن الإسرائيلية بالقرب من السياج الحدودي شرق مدينة غزة في 15 كانون الأول/ديسمبر سنة 2017، ردا على إعلان الرئيس ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل في السادس من كانون الأول/ديسمبر
في الحقيقة، ذهبت فرص التوصل إلى أي اتفاق سلمي مستقبلي بين إسرائيل وفلسطين، التي بدت ضعيفة منذ البداية، أدراج الرياح. من جانبه، صرح الناطق باسم رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، نبيل أبو ردينة، أنه “لن يكون هناك سلام أو مفاوضات أو تطبيع، وسيظل الشرق الاوسط قابعا على بركان”، إلى أن يتم عكس هذا القرار.
على صعيد آخر، صعّدت إدارة ترامب الهجوم الأمريكي ضد المتمردين في عدة أماكن من بينها الصومال وأفغانستان، وأعطت القادة العسكريين الأمريكيين حرية أكبر في صنع القرار باعتبار أنهم قد حاربوا جماعة تنظيم الدولة الإرهابية سابقا في العراق. أما في الصومال، فقد شن الجيش الأمريكي 34 غارة جوية على الأقل خلال سنة 2017 مقارنة بحوالي 14 غارة خلال سنة 2016.
خلال السنة المنصرمة، قال بعض حلفاء الولايات المتحدة إنهم قلقون بسبب وضع الحكومة الأمريكية خططا لعملها العسكري بمفردها وعدم اطلاعهم عليها
ولكن، أثار بعض المسؤولين في وزارة الخارجية تساؤلات حول الدور الواسع الذي يضطلع به البنتاغون، حيث لم تطرأ زيادة متناسبة على النشاط الدبلوماسي في الصومال، بل تقلص حجم البعثة الدبلوماسية الأمريكية، ولم يقع إرسال طاقم عمل للسفارة الأمريكية هناك. وقد أوضح مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأميركية أن الضربات الجوية وغيرها من الأعمال العسكرية قد تكون لها تداعيات ثانوية، التي قد يساعد الخبراء السياسيون على تجنبها. ولكن “بالنظر إلى محدودية دور الوزارة مقارنة بالمشاركة العسكرية، يجعل ذلك الدبلوماسيين يفتقرون إلى الموارد للقيام بذلك”.
في الأثناء، يتم تطبيق ديناميكية مماثلة في أفغانستان. وفي حفل أقيم في قندهار خلال تشرين الثاني/نوفمبر لعرض مروحيات “بلاك هوك”، التي تم تقديمها للحكومة الأفغانية، ألقى القائد العسكري الأمريكي، الجنرال جون نيكولسون، خطابا متفائلا حول هزيمة متمردي حركة طالبان. في الوقت ذاته، تبادل مجموعة من الشيوخ المحليين المدعوين، الذين كانوا يرتدون عمامات وعباءات، همسات جانبية عكست قلقهم بشأن قضية مختلفة تماما. وقد قال أحدهم: “يجب أن نتحدث معه بشأن الانتخابات، فالجميع قلق للغاية”.
بمجرد جلوس نيكولسون ومترجمه، أمطرته المجموعة بوابل من المخاوف، قائلة إن خطط الانتخابات الوطنية في تموز/يوليو تقوضها الضغوط السياسية والتحيز العرقي وغيرها من المشاكل. كما حذرت المجموعة من خطر تحول الانتخابات إلى كارثة إذا لم يتدخل الأمريكيون.
الرئيس الأفغاني، أشرف غني، (وسط الصورة) والجنرال الأمريكي، جون نيكولسون، (الثاني من جهة اليمين) أثناء تسليم الحكومة الأمريكية للحكومة الأفغانية طائرتين مروحيتين من نوع “بلاك هوك” في مطار قندهار في السابع من تشرين الأول/أكتوبر سنة 2017
من جهته، اكتفى نيكولسون بالابتسام ووعد المجموعة بإيصال مخاوفهم. ولكن، لا تشمل ولاية الجنرال السياسة، كما أن التركيز الديبلوماسي على أفغانستان كان أقل بكثير مما كان عليه الحال في فترة حكم أوباما. فضلا عن ذلك، لم يكن هناك سفير للولايات المتحدة في أفغانستان إلى غاية الشهر الماضي، ليتم التخلص من منصب المبعوث الأمريكي الخاص.
خلال السنة المنصرمة، قال بعض حلفاء الولايات المتحدة إنهم قلقون بسبب وضع الحكومة الأمريكية خططا لعملها العسكري بمفردها وعدم اطلاعهم عليها. وفي أواخر تموز/يونيو، سافر وفد من كبار السفراء في الاتحاد الأوروبي، المسؤولون عن السياسة الأمنية للمجموعة التي تضم 28 دولة، إلى واشنطن، مطالبين المسؤولين الأمريكيين بتفاصيل حول السياسة الخارجية للإدارة الجديدة.
سعت موسكو، ردا على شخصية ترامب المتقلبة في مجال عقد الصفقات والمخاطرة، إلى تقديم نفسها كمحاور جدير بالثقة
في هذا الصدد، أفاد أحد هؤلاء الديبلوماسيين أنه عاد إلى أوروبا “واليأس يغمره”، حيث لم يتلق أي توجيهات مفيدة حول إستراتيجية الإدارة الأمريكية في إيران أو سوريا أو أفغانستان، أو حول كيفية تأويل تغريدات الرئيس التي تستهدف بشكل متصاعد زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون. وفي حين تتصدر الحرب الكلامية بين واشنطن وبيونغ يانغ لائحة مخاوف حلفاء الولايات المتحدة في سنة 2018، تعتبر هذه الحرب فرصة لآخرين.
من جانبها، سعت موسكو، ردا على شخصية ترامب المتقلبة في مجال عقد الصفقات والمخاطرة، إلى تقديم نفسها كمحاور جدير بالثقة، حيث أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أيلول/سبتمبر الماضي عن استعداد موسكو للتوسط في النزاع بين ترامب وكيم جونغ أون، الذي وصفه “بمعركة في رياض الأطفال”. وقد أشار بعض المسؤولين إلى السخرية التي تتجلى في تقديم كل من روسيا والصين لنفسيهما كضامن للاستقرار والتجارة الحرة العالمية.
عندما انسحبت إدارة ترامب في كانون الثاني/يناير الماضي من المفاوضات حول اتفاقية التجارة التي تضم 12 دولة، والتي تندرج ضمن الشراكة عبر المحيط الهادئ، تم تكليف 11 عضوا من أعضاءها بالعمل على التفاصيل دون تدخل أمريكي. وقد أُعتبرت هذه الصفقة منذ فترة طويلة بديلا للنظام الاقتصادي الإقليمي الصيني.
الرئيس الصيني، شي جين بينغ، خلال اجتماع ثنائي مع الرئيس، دونالد ترامب، في قاعة الشعب الكبرى في بكين في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2017، حيث شملت مناقشاتهما مشروع الأسلحة النووية وكوريا الشمالية
أعطى خروج الولايات المتحدة للرئيس الصيني، شي جين بينغ، الزعيم المتسلط لأكثر اقتصاد يتعرض للرقابة الشديدة، فرصة لتقديم نفسه كبطل للعولمة. وقد أفاد ديفيد رانك، الذي استقال من منصبه كسفير للولايات المتحدة لدى الصين إثر قرار الإدارة الأمريكية الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ “أن الصينيين لم يضطروا إلى بذل مجهود كبير حتى يظهروا بشكل أكثر وضوحا كزعيم عالمي لطالما تطلعوا إلى أن يتحولوا له”.
من ناحية أخرى، أكد رانك أن نفوذ الولايات المتحدة يتراجع تدريجيا. كما أضاف رانك أنه “على امتداد مسيرتي المهنية بأكملها، باستثناء الأيام الأربعة الأخيرة منها، كان السؤال في العواصم الأجنبية هو ‘ما الذي تفكر فيه واشنطن بخصوص هذا الأمر؟” وأشك أن هذا السؤال لا يزال يُطرح بعد الآن”.
المصدر: واشنطن بوست