ترجمة: نون بوست
يعد مصطفى سليمان من أحد المؤسسين الثلاثة لمختبر “ديب مايند” للذكاء الاصطناعي في لندن، الذي استحوذت عليه شركة غوغل سنة 2014 بمبلغ 400 مليون جنيه إسترليني، لتكون بذلك أكبر عملية استحواذ يقوم بها عملاق محركات البحث في أوروبا حتى اليوم. ومن خلال الاستماع إلى بعض خطابات سليمان على موقع اليوتيوب، ستدرك بسرعة أنه ناشط حقوقي ذو ميولات يسارية يريد جعل العالم مكانا أفضل للجميع، ولا يقتصر فقط على النخبة. ويختلف سليمان عن سائر مؤسسي الشركات التكنولوجية الذين نشاهدهم هذه الأيام، فيبدو أنه يهتم حقا لرفاهية الجميع على هذا الكوكب.
في سياق مغاير، يعرف صاحب 33 عاما بلقب “الموظ” داخل الشركة وبين أصدقائه. ويعيش في مدينة بيكهام جنوبي لندن، رفقة خطيبته التي تنشط في مجال الفنون. وبإمكانك إيجاده على تويتر بصدد التعبير عن أفكاره بخصوص عدة قضايا مثل التشرد والاختلاف وعدم المساواة، فضلا عن قيامه بالتعليق على منشور رئيس حزب العمال البريطاني جيرمي كوربين في إحدى تغريداته على تويتر.
في واقع الأمر، قد تكون شركة “ديب مايند” تابعة لإحدى أكبر الشركات حول العالم، لكن سليمان يؤمن وبشدة أن الرأسمالية تخذل المجتمع على العديد من المستويات، وهو ما تطرق إليه خلال مقابلة في حدث أقامته شركة غوغل في شهر أيار/ مايو الفارط. وقال سليمان خلال مؤتمر “غوغل زايتجايست مايندس” في لندن: ببعض المنطق، نعتقد أن الرأسمالية قدمت لنا الكثير على عدة مستويات خلال القرنين الأخيرين. لقد حققنا الكثير من التقدم، ولم تتمكن أي منشأة أو فكرة جديدة من توزيع المكاسب على نطاق واسع وبسرعة كبيرة مماثلة”.
منذ تأسيسها سنة 2011، سعت “ديب مايند” بجد لتوظيف بعض ألمع علماء الحاسوب والرياضيات، فضلا عن علماء الأعصاب والفيزياء من كافة أنحاء العالم
في المقابل، تطرق مصطفى سليمان إلى مساوئ الرأسمالية واستطرد قائلا: “تخذلنا الرأسمالية على العديد من الأصعدة، مما يستوجب إيجاد أنواع جديدة من الحوافز لمعالجة بعض المشاكل الاجتماعية الملحة والعاجلة. بالإضافة إلى ذلك، نحن بحاجة إلى وسائل جديدة ونوع جديد من الذكاء، ويكون هذا النوع محددا ومتاحا من أجل إضفاء بعض المنطق على مختلف التعقيدات التي تتسبب في إزعاجنا”.
من هذا المنطلق، تتمثل مهمة شركة “ديب مايند” المعقدة في التمكن من تقنيات الذكاء ثم توظيفها في سبيل حل كل المشاكل الأخرى. ولتحقيق هذه الغاية، تقوم الشركة ببناء خوارزميات معقدة قادرة على التعلم بمفردها باستعمال تقنيات شبيهة بالعقل البشري. وتأمل الشركة أن تنتهي باختراع قسم شبيه بقرن آمون في الدماغ، وهو الجزء الذي يرتبط في الأساس بالذكريات، وخاصة الذكريات طويلة الأمد.
خلافا لشريكيه، لا يمتلك سليمان خلفية علمية، مما يتجلى في تركيزه على الجانب التجاري للشركة، وخير مثال ذلك سعيه لإيجاد تطبيقات جديدة لتكنولوجيا شركته داخل وخارج غوغل
منذ تأسيسها سنة 2011، سعت “ديب مايند” بجد لتوظيف بعض ألمع علماء الحاسوب والرياضيات، فضلا عن علماء الأعصاب والفيزياء من كافة أنحاء العالم. وتوظف الشركة اليوم حوالي 700 شخص داخل مقراتها المتمركزة في مدينة لندن بالمملكة المتحدة، ومدينتي إدمونتون ومونتريال الكنديتين، فضلا عن مدينة ماونتن فيو في الولايات المتحدة الأمريكية. وعموما، تنشط الغالبية العظمى من موظفي “ديب مايند” الذين يبلغ عددهم حوالي 500 عامل، في مبنى غوغل الرئيسي ذي الطابقين في منطقة “كينغز كروس” في لندن.
وخلافا لشريكيه، لا يمتلك سليمان خلفية علمية، مما يتجلى في تركيزه على الجانب التجاري للشركة، وخير مثال ذلك سعيه لإيجاد تطبيقات جديدة لتكنولوجيا شركته داخل وخارج غوغل، فضلا على حرصه على ضمان أن يظل نشاط الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي آمنا وأخلاقيا.
ترعرع سليمان شمالي لندن وطور شغفه بالفلسفة
طريق كاليدونيان
نشأ سليمان قبالة طريق كالدونيان في شمال لندن، حيث عاش مع والديه وشقيقيه الأصغر سنا. وكان والده، الذي ينحدر أصول سورية، يعمل سائقا لسيارة أجرة، بينما عملت والدته كممرضة لدى هيئة الخدمات الصحية الوطنية. وتلقى مصطفى تعليمه في مدرسة ثورنهيل الابتدائية الحكومية التابعة لمقاطعة إسلينغتون. وانتقل بعد ذلك إلى مدرسة الملكة إليزابيث للأولاد التي ضمت التلاميذ المتميزين.
عندما كان طفلا، كان سليمان يقرأ كثيرا، حسب ما أفاد به تقرير نشرته مجلة “وايرد” في حديثها عن شركة “ديب مايند” في شهر حزيران/ يونيو سنة 2015، وساهم هذا الأمر في تطوير حب مبكر للفلسفة. إضافة إلى ذلك، كان لديه شغف بالتجارة وإدارة الأعمال منذ نعومة أظفاره، حيث لم يكن يخشى محاولة التحايل على زملائه في ساحة المدرسة. ومن جهته، تحدث مصطفى سليمان إلى بيزنس إنسايدر فقال، “منذ طفولتي، كنت دائما أبدأ أعمالا صغيرة وأحلم بأن تكبر بصفة جنونية يوما ما”.
في السياق ذاته، قال سليمان “عندما بدأت دراستي الثانوية في سن الحادية عشر، كنت أبيع الحلويات في ساحة المدرسة رفقة زملائي. وكنا نذهب إلى تاجر الجملة ونشتري الحلوى بكميات كبيرة ثم نستأجر خزائن التلاميذ الآخرين من أجل تخزين هذه الكميات الكبيرة. ثم بدأنا بتوظيف الأطفال الآخرين من أجل التكفل بعمليات البيع خلال فترة الاستراحة، لقد ازدهرت هذه التجارة بدرجة كبيرة حقا قبل أن يقوم الأساتذة بإيقافها”.
نشأ سليمان قبالة طريق كالدونيان في شمال لندن، حيث عاش مع والديه وشقيقيه الأصغر سنا. وكان والده، الذي ينحدر أصول سورية
في تلك الفترة من حياته، انتقل الشاب من بيع الحلويات في ساحة المدرسة إلى اكتشاف طريقة ما لمساعدة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخصوصية خلال أوقات فراغه. وقد تجلى ذلك في نشاطه الإنساني بعد سنوات، حيث كان سليمان رفقة أصدقائه يمضي الصيف في زيارة المطاعم والأماكن الترفيهية في لندن على متن كرسي متحرك قاموا باستعارته بهدف مراجعة إمكانية دخول ذوي الحاجيات الخصوصية لهذه الأماكن. بناء على هذه التجربة، نشر سليمان وزملاؤه دليلا من 80 صفحة لمدينة لندن ليستفيد منه الأطفال ذوو الاحتياجات الخصوصية.
حيال هذا الشأن، تحدث سليمان مطولا، حيث أورد “إنه جزء من السبب الذي يجعلني أؤمن بقوة أنه إذا قمنا بإعادة كتابة الحوافز للشركات اليوم لتشمل المسؤولية الاجتماعية بالإضافة إلى الواجبات الائتمانية، فإن الكثير من القادة سيقفزون على فرصة إعادة توجيه طاقاتهم نحو بناء عالم أفضل أكثر إنصافا”.
بصفته طالبا متفوقا، تسنى لمصطفى اختيار الجامعة التي رغب بارتيادها، وانتهى باختيار استكمال دراسته في جامعة أوكسفورد، التي تنتمي لصفوة جامعات العالم وأفضلها على الإطلاق، وتخصص مصطفى في مجال الفلسفة ودراسة الإلهيات. وبشكل مثير للاستغراب، انضم مصطفى سليمان إلى كلية مانسفيلد التابعة لجامعة أوكسفورد، التي تسعى لمعاداة النخبوية داخل الجامعة، حيث أن تسعة من أصل 10 طلاب قامت الكلية بقبولهم سنة 2017 ينحدرون من معاهد حكومية.
جامعة أوكسفورد
في سياق الحديث عن سنواته الجامعية، أورد سليمان “مثلت الفلسفة والإلهيات موادا مثيرة للاهتمام، فضلا عن أنني ظننت أنهما ستكونان مزيجا جيدا. وتعتبر كلية مانسفيلد مكانا رائعا لدراسة الإلهيات، ناهيك عن كون المحاضر أحد أفضل المحاضرين في مجاله”. وخلافا للمتوقع، ارتأى سليمان أنه لا يريد التركيز على الدراسة خلال سنوات مراهقته الأخيرة.
بموجب سنه، وفي ظل حرصه على الخروج والتوغل في غياهب هذا العالم والاستفادة من ذكائه بهدف ترك بصمته الخاصة، انقطع سليمان عن دراسته في المؤسسة التعليمية العتيقة في سن 19 ظنا منه أن تخصصه الدراسي لم يكن عمليا كفاية. وفي هذا الإطار، قال سليمان “لطالما حرصت خلال جميع فترات حياتي على تعظيم الأثر الاجتماعي في كل شيء أفعله. لقد كنت أستمتع بدراسة الفلسفة والإلهيات لكنها كانت موادا نظرية وغير عملية بالنسبة لي”.
في سياق متصل، أفاد مصطفى سليمان بأنه “مثل الكثير من النشطاء المراهقين، أظن أنني كنت مضطربا وغاضبا طوال الوقت بسبب تفشي الظلم واللامساواة على نطاق واسع. وشعرت بأنني مجبر على مساعدة الناس في العالم أجمع بصفة مباشرة”.
سليمان انقطع عن الدراسة في أوكسفورد ليقدم خدمة استشارية للشباب المسلم
بعد انقطاعه عن الدراسة، أنشأ سليمان رفقة صديقه الجامعي، محمد ممداني، خدمة استشارات هاتفية تدعى “خط نجدة الشباب المسلمين”، التي أصبحت أحد أكبر خدمات الصحة العقلية الأولى من نوعها في المملكة المتحدة. وفي هذا الخصوص، ذكر سليمان “أردت توسيع نطاق خدماتي لمعالجة التحديات الاجتماعية التي تؤثر على المجتمع بأسره. وخلال عملي على خط النجدة الهاتفي، أدركت أن المشاكل التي يواجهها العديد من عملائنا متجذرة في الواقع في مظاهر عدم المساواة والتجاوزات النظامية الموجودة في المجتمع ككل”.
عند بلوغه 22 سنة، ترك سليمان خط المساعدة الهاتفي بعد اكتسابه قناعة بأن هناك عوامل كثيرة تساهم في تثبيط المنظمات غير الربحية، وتجلى هذا المعتقد خلال كلمته التي ألقاها في صحيفة فاينانشال تايمز، “بعد ثلاث أو أربع سنوات، أدركت بشكل ما القيود الأساسية التي تكبل الجمعيات الخيرية. لقد كان من الصعب حقا توسيع نطاق المنظمة وجمع الأموال بطريقة مستدامة”.
بعد عمله في السياسة، ساعد سليمان على تأسيس شركة استشارات تدعى “شركاء ريوس”، التي تطمح إلى دفع عجلة التغيير على مستوى القضايا العالمية مثل إنتاج الغذاء والنفايات والتنوع العرقي
على ضوء هذه التجربة، اتجه سليمان للعمل لدى عمدة لندن السابق، كين ليفينغستون. وصرح سليمان بأن العرض الذي تلقاه من طرف العمدة للعمل حول سياسة حقوق الإنسان مثل فرصة رائعة لمحاربة الممارسات الجائرة العامة، التي تخلق كما كبيرا من المعاناة التي اطلع عليها مسبقا خلال سنوات عمله في خط النجدة الهاتفي.
مع ذلك، غادر سليمان مبنى بلدية لندن بعد أن أدرك أن الحكومة ليست الوسيلة الفضلى لتحقيق تغيير جذري على مستوى النظام. وفي هذا الصدد، أوضح سليمان “لقد كان الأمر مليئا بالتحديات، ورغم المبادئ السامية التي التزمت بها، كان تحقيق إنجازات عملية كل يوم أمرا صعبا للغاية”.
سليمان عمل مع الأمم المتحدة والحكومة الأمريكية وشركة شال
بعد عمله في السياسة، ساعد سليمان على تأسيس شركة استشارات تدعى “شركاء ريوس”، التي تطمح إلى دفع عجلة التغيير على مستوى القضايا العالمية مثل إنتاج الغذاء والنفايات والتنوع العرقي. وأفاد سليمان بهذا الخصوص أن العمل لدى شركة شركاء ريوس أدى إلى تعامله مع العديد من المنظمات المختلفة على غرار الأمم المتحدة والحكومتين الأمريكية والهولندية، بالإضافة إلى الصندوق العالمي للطبيعة وشركة شال.
في هذا الإطار، كان عمله لدى شال حول المشاريع المتعلقة بالاستدامة. وحيال هذه التجربة، أورد مصطفى سليمان “لقد عملنا في كافة أرجاء العالم، مما أدى إلى نمو الشركة، الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم، حيث يمثل الشركة خمسة أو ستة مكاتب حول العالم متخصصة في عمليات التفاوض وحل النزاعات الكبرى”.
سنة 2010، ترك سليمان شركة “شركاء ريوس” بعد أن شارك لمدة سنة كاملة في مفاوضات كوبنهاغن للمناخ، وهو ما أدى إلى إصابته بالإحباط. في هذا الصدد، صرح سليمان إلى صحيفة فاينانشال تايمز “كان هناك تناسق طبيعي جدا في نهاية سنة 2009 وبداية سنة 2010 عندما كنت قد انتهيت حديثا من مفاوضات المناخ، والتي كانت بطبيعة الحال بمثابة الكارثة الكبرى، مما تسبب في تحطيم قلوب الجميع”.
إيمانا منه بقدرة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على خدمة العالم، أسس سليمان شركة “ديب مايند” في أواخر سنة 2009، رفقة صديق طفولته ديمس هاسابيس، وشخص آخر نيوزيلندي يدعي شاين ليغ
في شأن ذي صلة، أضاف سليمان “إن الوسائل التقليدية المعتمدة لبيان التغير المناخي، التي تتمثل في الاجتماعات المختلفة ومناقشة العديد من الأفكار، بالإضافة إلى الحملات الشعبية والمفاوضات السياسية رفيعة المستوى وانتظار النتائج العفوية المدفوعة بقوى السوق، لم تكن تعمل بالسرعة الكافية بكل صراحة. ووجدنا أنفسنا عاجزين مجددا عن السيطرة على عالم معقد بصفة محكمة، خاصة مع معاناة مجموعات من أذكى الخبراء من أجل فهم العلاقة بين السبب والنتيجة”.
إلى جانب ذلك، يرى مصطفى سليمان أن تغير المناخ هو مجرد فرع واحد من فروع مجموعة معقدة ومترابطة وديناميكية من المشاكل التي نواجهها حاليا كجنس بشري. وإن لم نواجه هذه المشاكل، فإن مستقبل البشرية والكوكب سيظل مجهولا في أفضل الحالات. أما في أسوأ الحالات، فإن هذا التشخيص محبط للغاية.
“ديب مايند” نشأت في لندن سنة 2009
إيمانا منه بقدرة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على خدمة العالم، أسس سليمان شركة “ديب مايند” في أواخر سنة 2009، رفقة صديق طفولته ديمس هاسابيس، وشخص آخر نيوزيلندي يدعي شاين ليغ.
مؤسسو “ديب مايند”: مصطفى سليمان (على اليسار)، ديمس هاسابيس (في الوسط)، وشاين ليغ (على اليمين)
قبل إنشاء شركة “ديب مايند”، خاض سليمان وهاسابيس، اللذين كانا صديقين يعرفان بعضهما عبر الشقيق الأصغر لهاسابيس، العديد من النقاشات والحوارات حول كيفية تطوير هذا العالم. وقد تطرقا باستمرار لهذه المسألة من خلال العديد من الزوايا، لكن يقول كلاهما إنهما كانا مدفوعين بالأساس بالرغبة في تخفيف المعاناة الإنسانية على نطاق واسع، وقد تحدثا بلا نهاية عن سبل تحقيق هذا الهدف.
حيال هذا الشأن، قال سليمان “لقد ترعرعت أنا وديمس في نفس الحي رفقة شقيقه الأصغر، وكنا ولا نزال أصدقاء مقربين. وغالبا ما نخوض حوارات حول كيفية التأثير على العالم وجعله أفضل، عبر التطرق لمشاكل مثل غياب العدالة وسوء التغذية. وقد كان هو يشعر بأن الحلول سوف تأتي عبر تقنيات المحاكاة التي سوف توضح العوامل المعقدة التي تسبب هذه المشاكل في العالم، بينما كنت أنا دائم التركيز على الجانب العملي وجهود التغيير على المدى القريب”.
في الحقيقة، “لقد مكننا بناء وتطبيق “أنظمة التعلم للنفع العام” من دمج كلا الأسلوبين، حيث كان كل واحد منا يعتمد على أحدهما. وبعد تجربة العمل في العديد من القطاعات، انطلاقا من الوظائف الحكومية إلى مراكز الدراسات ومجال العمل الخيري، في محاولة لاكتشاف أكثر المشاكل الاجتماعية تعقيدا، أصبح واضحا بالنسبة لي أننا كنا في حاجة لمؤسسات جديدة، وروح الإبداع والعلم، من أجل مجاراة التعقيد المتزايد الذي تشهده أنظمتنا الاجتماعية”.
قال سليمان في تموز/ يوليو سنة 2016، “إن ما يسعنا القيام به لخفض كمية الطاقة المطلوبة لتقديم نفس الخدمة، هو أمر رائع بالنسبة لكوكب الأرض، ويحمل أيضا تأثيرا مهما جدا على المستوى المالي، وهذه أيضا مسألة جيدة”
بالنسبة لسليمان، “كان من الواضح أن إعادة استخدام المعرفة الإنسانية الموجودة سلفا لن يكون كافيا، لذلك فإن إنشاء مؤسسة من نوع جديد، بهدف واحد الذي يتمثل في بناء الذكاء الاصطناعي واستخدامه لحل أصعب مشاكل العالم، هو أفضل خيار بالنسبة لنا لتحقيق تأثير عميق، وواسع النطاق على التحديات الأكثر استعجالا التي يواجهها المجتمع”.
عموما، يحظى سليمان بتقدير كبير داخل شركة “ديب مايند” وقطاع التكنولوجيا في بريطانيا، وقد عبر العديد من الأشخاص عن إعجابهم بخصلة التواضع والقرب من الآخرين التي يتمتع بها. كما أنهم يحترمون إصراره على التطرق لبعض المسائل الصعبة مثل المساواة في الأجور والنظام الرأسمالي، بطريقة لا يجرؤ عليها الكثير من مديري الشركات. وينظر البعض إليه على أنه شخص ثوري، سواء كان مدركا لذلك أم لا، فإن الكثيرين مستعدون للانضمام إليه وتبني طريقة تفكيره.
خلال الأيام الأولى لتأسيس هذه الشركة، أدى سليمان العديد من الزيارات لوادي السيلكون، ونجح في إقناع مليارديرات مثل بيتر ثيل وإيلون ماسك بالاستثمار في مشروع “ديب مايند”، عبر إخبارهم بأنه رفقة بقية الشركاء المؤسسين يخططون للاستفادة من الكثير من المهارات العلمية في أوروبا، وأن بإمكانهم جذب العديد من الشباب المتمتعين بالذكاء للعمل على أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي تطورا على سطح الأرض.
فعلى سبيل المثال، أكد فرانك ميهان، وهو من أول المستثمرين في “ديب مايند” وعضو سابق في مجلس إدارة شركة “سيري” الناشئة التي قدمت تقنية المساعد الشخصي الذكي، والتي استحوذت عليها شركة آبل سنة 2010، أنه قابل سليمان لأول مرة عندما وظفت “ديب مايند” حوالي ستة أو سبعة أشخاص واتخذت من مكتب صغير يقع في ميدان راسل في لندن، مقرا لها.
في هذا السياق، أخبر ميهان “بيزنس إنسايدر” أن “مصطفى كان جزءا مهما من هذا المشروع، فهو يتمتع بالثقة والطاقة والحيوية، ويستطيع المحافظة على سيطرته على الوضع، فهو شخص ثابت ويحرص على إتمام العمل”.
أما ماثيو تايلور، كبير المديرين في الجمعية الملكية لتشجيع الفنون والمصنوعات والتجارة، والمشرف سابقا على مؤسسة “الرقم10” لصياغة السياسات في بريطانيا، والناقد المستقل لبرنامج “ديب مايند الصحي”، فقد وصف سليمان بأنه شخص منفتح ومتكامل، مضيفا أنه يحترم إصراره على التحدث عن المشاكل الخطيرة التي تواجهها كبرى شركات التكنولوجيا في العالم.
استخدمت شركة غوغل الخوارزميات التي طورتها شركة “ديب مايند”، من أجل خفض استهلاك الطاقة في أسطولها الضخم من مراكز البيانات، بنسبة 15 في المائة
في تصريح له مع “بيزنس إنسايدر”، أورد تايلور “بكل صراحة، يعتقد الجميع أنه لو كان مصطفى يدير هذا العالم لأصبح مكانا رائعا”. وقد قال تايلور إنه إذا كان سينظر بشكل متشكك لشركة “ديب مايند”، فإنه سيطرح أسئلة حول ما إذا كان سليمان فعلا شخصا من داخل هذا النظام يسعى لتغيير ثقافة غوغل، وما إذا كان هو وجها مقبولا داخل قطاع يعلم تماما أنه يواجه مشاكل ولكنه رغم ذلك يواصل العمل بنفس الأسلوب رغم كل التحديات”. ولكنه عاد لاحقا لتوضيح هذا التصريح على موقع تويتر، مؤكدا أنه يحمل نظرة إيجابية جدا لسليمان وشركته.
في تعليقه على علاقته بسليمان، قال هاسابيس “إن مصطفى شريك مؤسس من النوع الرائع، فقد كنا صديقان مقربان ونشأنا معا في شمال لندن، ونحن نتشاطر إيمانا عميقا بقدرة الاكتشافات العلمية والتقنية على إحداث التغيير الإيجابي في المجتمع، وهو يقود بكل ذكاء جهودنا التجارية والميدانية، ومن ضمنها إشرافه على عملنا في مجالات الرعاية الطبية والطاقة، فضلا عن كونه أحد أبرز قادة الفكر فيما يخص مسألة البعد الأخلاقي والاجتماعي لتقنيات الذكاء الاصطناعي”.
سليمان يقود مشاريع الصحة في شركة “ديب مايند”
استخدمت شركة غوغل الخوارزميات التي طورتها شركة “ديب مايند”، من أجل خفض استهلاك الطاقة في أسطولها الضخم من مراكز البيانات، بنسبة 15 في المائة. وقد قال سليمان في تموز/ يوليو سنة 2016، “إن ما يسعنا القيام به لخفض كمية الطاقة المطلوبة لتقديم نفس الخدمة، هو أمر رائع بالنسبة لكوكب الأرض، ويحمل أيضا تأثيرا مهما جدا على المستوى المالي، وهذه أيضا مسألة جيدة”. كما استخدمت شركة غوغل شبكة “وايفنت” العصبية لإنتاج الأصوات في مساعد غوغل الشخصي، للمستخدمين الأمريكيين واليابانيين.
تطبيق “ستريمز” الذي أنتجته “ديب مايند”
بعيدا عن غوغل، نجح سليمان، الذي يشرف على فريق الصحة الذي يتزايد عدده يوما بعد يوم في الشركة، في إقناع العديد من المؤسسات الشريكة مع خدمة الصحة الوطنية بالمملكة المتحدة، للعمل مع “ديب مايند” على مشاريع تتضمن تطبيق هاتف مصمم لمراقبة المرضى لفائدة مقدمي الرعاية الصحية، ونظام ذكاء اصطناعي يمكنه تعلم الكشف المبكر عن أعراض الإصابة بمرض السرطان.
لكن، يبدو أن تجربة عمل “ديب مايند” مع خدمة الصحة الوطنية لم تكن سهلة في أيامها الأولى، وقد وجد سليمان نفسه تحت المجهر عندما قدمت مجلة “نيو ساينتس” طلبا للإفصاح عن معلومات سرية، كشفت عن حجم البيانات الشخصية التي قدمتها مؤسسة “رويل فري” في شمال لندن، والتي كانت أولى المؤسسات الصحية المتعاقدة مع “ديب مايند”.
في الواقع، مكن هذا الاتفاق، الذي تم لاحقا اعتباره غير قانوني من قبل مكتب مفوض المعلومات، وهو المسؤول الأول في بريطانيا عن تنظيم تدفق المعلومات، شركة “ديب مايند” من الولوج للسجلات الطبية لحوالي 1.6 مليون مريض مسجلين لدى خدمة الصحة الوطنية، للمساعدة على بناء تطبيق هاتف لمراقبة عمل الكلى أطلق عليه اسم “ستريمز”.
في تصريح لها في ذلك الوقت، أفادت رئيسة مفوضية المعلومات، إليزابيث دينهام، بأنه “ليس هناك شك في الفوائد الكبيرة التي يوفرها هذا الاستخدام المبتكر لبيانات المرضى، لتحسين الرعاية الصحية والخدمات الطبية، إلا أن ثمن هذا التجديد لا يمكن أن يكون على حساب الحقوق الأساسية المتعلقة بحماية الخصوصية”.
سليمان كتب في مجلة “وايرد” الأمريكية، أن “اختراع هذه التكنولوجيا على أكمل وجه لا يتعلق فقط بالنوايا الحسنة، بل نحتاج أيضا للقيام بالمهام الصعبة”
في المقابل، نوهت إليزابيث دينهام “لقد كشف تحقيقنا عن عدد من الإخلالات في الطريقة التي تمت بها مشاركة سجلات المرضى في هذه القضية. ومن المنطقي أن هؤلاء المرضى لم يكونوا يتصورون أن يتم استخدام بياناتهم بهذا الشكل، وكان على المؤسسة الطبية المالكة لهذه البيانات أن تتعامل بشكل أكثر شفافية مع المرضى حول ما كانت بصدد القيام به”. ولكن، كانت هذه العثرة الوحيدة التي واجهتها الشركة منذ الاستحواذ عليها من طرف شركة غوغل.
بالنظر للمستقبل، تعتزم شركة “ديب مايند” العمل مع شركة “ناشيونال غريد” البريطانية للكهرباء، للبحث عن سبل خفض استهلاك الطاقة في أنحاء المملكة المتحدة، بنفس الطريقة التي ساعدت بها مراكز البيانات التابعة لجوجل.
علاوة ذلك، يعد سليمان من الأعضاء المؤسسين في منظمة “الشراكة للذكاء الاصطناعي”، التي تم تأسيسها في شهر أيلول/ سبتمبر سنة 2016، لضمان تطور آليات الذكاء الاصطناعي بشكل آمن، وأخلاقي وشفاف، بالشراكة مع مدير الذكاء الاصطناعي في شركة فايسبوك، يان لوكان، ومدير الأبحاث في شركة مايكروسوفت، إيريك هورفيتس، والعديد من الشخصيات الأخرى.
سليمان يقر بأن هناك مخاوف حقيقية حول مستقبل الذكاء الاصطناعي
على الرغم من أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تفتح الباب أمام إمكانيات هائلة، فإن العديد من الأكاديميين، والفلاسفة والتقنيين حذروا من أن الذكاء الاصطناعي ربما يكون أكبر خطأ ترتكبه البشرية إذا تمت برمجته بشكل خاطئ أو تم تسخيره لأفعال الشر.
خلال مؤتمر قمة الواب، في مدينة لشبونة البرتغالية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قال العالم الشهير ستيفن هوكينغ، “يمكن أن يمثل النجاح في صنع ذكاء اصطناعي فعال أعظم حدث في تاريخ حضارتنا، أو يمثل الأسوأ. نحن لحد الآن مازلنا لا نعرف بالضبط، ولا ندري ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سوف يساعدنا بأشكال لا نهاية لها، أو أنه سيقوم بتجاوزنا وتهميشنا، أو ربما تدميرنا”.
عندما يتعلق الأمر بأبحاث “ديب مايند”، فإن سليمان وشركاءه يدركون أن هذه المسألة مفتوحة على كلا الاحتمالين. وقد سمح قادة “ديب مايند” لشركتهم الناشئة بأن تستحوذ عليها غوغل، بشرط أن تقوم هذه الشركة العملاقة بتشكيل لجنة لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، لمراقبة تطورات هذه التقنية داخل الشركة. ولا يعرف الكثير حول هذه اللجنة الأخلاقية الغامضة، إلا أن سليمان قال في مؤتمر “بلومبيرغ” سنة 2015، إنه أراد أن تكشف غوغل عن أسماء أعضاء هذه اللجنة. وقد تم سؤاله حول هذه المسألة في العديد من المناسبات منذ ذلك المؤتمر، إلا أنه لا يزال متكتما حول الأمر.
وتجدر الإشارة إلى أن سليمان قد كتب في مجلة “وايرد” الأمريكية، أن “اختراع هذه التكنولوجيا على أكمل وجه لا يتعلق فقط بالنوايا الحسنة، بل نحتاج أيضا للقيام بالمهام الصعبة، والفعلية والمعقدة للتوصل إلى المعنى الحقيقي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وإذا نجحنا في جعل الذكاء الاصطناعي يعمل لمصلحة الناس والكوكب، فإن تأثيراته ستكون مفصلية، ولكن في الوقت الحالي لا تزال كل الاحتمالات أمامنا”.
الكتب الثلاثة المفضلة لدى سليمان
– “مجتمع التعليم البديل” للكاتب إيفان إيليتش: وهو يتضمن شرحا عميقا لمواطن الضعف في التعليم الرسمي. ويقدم إيليتش إلى جانب هذا النقد مجموعة من المقترحات العملية والمبتكرة لوضع مقاربات تعليمية بديلة.
– “اختراع المستقبل” للكاتبين نيك سيرنيساك وألكس ويليامز: وهو كتاب يتطرق إلى التبعات المنتظرة لمسألة تزايد الاعتماد على الآلة في العمل في المستقبل، واحتمالات تطبيق سياسة الدخل العالمي الأساسي. ويتميز هذا الكتاب بأنه يتعامل بمنتهى الجدية مع الأبعاد السياسية المعقدة والمثيرة للجدل في هذا النقاش.
– “الشفافية والمجتمع المفتوح” للكاتبين روجر تايلور وتيم كيلسي: وهو يمثل بحثا جديدا ومفصلا في التعقيدات المحيطة بمسألة الانفتاح الاقتصادي، إلى جانب وضع إطار فكري لاعتبار الشفافية سياسة فعالة.
المصدر: بيزنس إنسايدر