لا بدّ وأنْ سبق لك وفي لحظة استماعك لأغنيتك المفضلة أو معزوفةً موسيقية أخاذة، فشعرتَ برعشة بردٍ تسري في عظامك جميعها، أو بقشعريرةٍ دغدغت يديك وكتفيك. لكنَ الأمر لا يقف عند تلك اللحظة وحسب، هل فكرتَ يومًا لماذا يرتعش جسمك بنفس الطريقة في حال توترك أو خوفك أو في حال شعورك بالبرد؟ أو لماذا يقف شعر جلدك أو تصبح نتوءاته واضحة في تلك اللحظات؟
مبدئيًا، تعرّف قشعريرة الجسم، أو ما يُعرف بالإنجليزي بمصطلحيْ “goose bumps” أو “pilomotor reflex” بأنها نتوءات مؤقتة تظهر لا إراديًا في جلد الإنسان حين تعرّضه لدرجات حرارة منخفضة، أو اختباره لمشاعر معينة مثل الخوف أو الرعب أو الغضب أو الحنين أو الإعجاب أو الشهوة الجنسية، أو حتى حين تفاعله عاطفيًا مع الموسيقى أو الأغاني التي يستمع إليها في تلك اللحظة.
يتم مواجهة التهديدات التي يواجهها الجسم بإطلاق هرمون “الأدرينالين” بمعدلات أعلى من مستواها الطبيعية في الأوعية الدموية، الأمر الذي يؤدي إلى تقلص العضلات القريبة من الجلد والتي بدورها تجعل الشعر يقف بالنهاية
ويرجع الأمر أساسسًا إلى أنّ التهديدات أو المشاعر الجديدة التي يستشعرها الدماغ، يتم مواجهتها بإطلاق هرمون “الأدرينالين” بمعدلات أعلى من مستواها الطبيعية في الأوعية الدموية بالجسم، الأمر الذي يؤدي إلى تقلص العضلات القريبة من الجلد والذي بدورها تجعل الشعر يقف بالنهاية. ولكن هل فكرتَ بالسبب وراء ذلك؟
لنتفق بدايةً أنّ تلك القشعريرة ووقوف شعر الجلد المصاحب لها لم تعد ذات جدوى لنا كبشر، وإنما هي خاصية أو صفة امتلكها الكائن القديم أو ما يُعرف وفقًا للعلم بأسلافنا، الذين عاشوا قبلنا بملايين السنين، وبناءً على ظروف حياتهم وبيئاتهم التاريخية تلك، طوّرنا نحن عددًا من الصفات والاستجابات دون أنْ نعي لذلك.
يعرف التطور بأنه العملية البيولوجية الناشئة عن الانتخاب أو الانتقاء الطبيعي لصفات محددة في الكائن كي تكون أكثر ميلًا للبقاء أو الاستمرار في النوع نظرًا لمناسبتها لظروف البيئة المحيطة
ولتتضح الصورة أكثر، دعنا نفهم أولًا ماذا نعني بالتطور أو بكلمة “تطوّرنا”؛ والتي تعني العملية البيولوجية الناشئة عن الانتخاب أو الانتقاء الطبيعي لصفات محددة في الكائن كي تكون أكثر ميلًا للبقاء أو الاستمرار في النوع نظرًا لمناسبتها لظروف البيئة المحيطة، في حين تندثر صفات أخرى لا تساعده على تحسين تكيّفاته مع البيئة والصمود في وجه الصراعات مع الأنواع الأخرى من حوله.
وبكلماتٍ أخرى؛ فقد كانت الكائنات تميل للحفاظ على الصفات البيولوجية التي توفّر لها فرصًا أفضل وأقوى للتكيف وتمرير جيناتها على التزاوج للأجيال اللاحقة، وفي الوقت نفسه أهملت تلك التي تفيدها ولا تساعدها على التكيف والاستمرار، ومن هنا يسعى علم النفس التطوري للحصول على تفسيرات وفرضيات للكثير من الظواهر والجوانب في النفس الإنسانية، والتي يعجز كل من البيولوجيا وعلم النفس الوصول لها كلٌّ على حدة.
لنعد إلى القشعريرة أو وقوف الشعر. ولتقريب الصورة بشكلٍ أكبر، تخيّل على سبيل المثال قطًا هاجمه كلب، ما الصورة النمطية للقط في تلك الحالة التي تأتي إلى مخيلتك أولًا؟ ظهر مقوّس بشعر واقف أو منكوش، صحيح؟ ربما بدأت تفهم لماذا تحدث ردة الفعل تلك، فالقطّ يحاول أن يبدو أكبر وأكثر شراسة في محاولةٍ منه لجعل الكلب يتراجع.
التطوّر حدث في استجاباتنا لمشاعرنا أيضًا
فلماذا تقشعر أجسادنا إذن؟ يرى علماء البيولوجيا والنفس التطوري أنّ الجواب يعود إلى ما قبل تطوّر البشر. أيْ أنّنا ورثنا ردة الفعل هذه من أسلافنا، حينما كانت النتوءات البارزة والشعر الواقف ذات فائدة واضحة وصريحة أكثر مما هي عليه اليوم. ففي حين كانوا يشعرون بالبرد، كان الشعر الواقف يعمل كحاجزٍ منيع يحمي دخول الهواء البارد للجسم ويمنع خروج الدافئ منه. وحين إشعارهم الخطر أو في حال واجهوا عدوًا مفترسًا، يعمل الشعر الواقف كوسيلة لإظهار الجسم بحجمٍ أكبر ما يجعله يبدو مخيفًا وشرسًا أكثر. وبشكلٍ عام، عملت تلك النتوءات كوسيلة دفاعية ضد الأعداء والأنواع الأخرى من جهة، وكطريقة لحفظ دفء وحرارة الجسم من جهة أخرى.
يتمّ إفراز الأدرينالين حينما نشعر بالبرد أو الخوف، إلى جانب لحظات شعورنا بالضغط والتوتر أيضًا، إضافةً للمشاعر والعواطف القوية مثل الغضب والإثارة والوقوع في الحبّ واستشعار “فراشات المعدة”.
يرجع السبب وراء كلّ تلك الاستجابات هو الإفراز اللاواعيّ لهرمون الأدرينالين أو ما يُعرف بهرمون الإجهاد والتوتر والناتج عن خضوع الجسم لمرحلة الكرّ والفرّ ” flight-or-fight response“، والذي يؤدي إلى اتساع الأوعية الدموية في عضلات الجلد وبالتالي انكماش بصيلات الشعر، ما يجعلها تبدو منتصبة وواقفة، إضافة إلى إطلاق العديد من ردود الفعل الأخرى في الجسم مثل ارتفاع معدل الأيض، ومعدل ضربات القلب والتنفس، وأحيانا درجة حرارة الجسم.
يُفرز الهرمون في الحيوانات عند مواجهتها لأوضاع مهددة أو في حال شعورها بالبرد أو لإعدادها لمرحلة مواجهة وقتال مع حيوانٍ آخر. أما في البشر، فالأمر شبيه إلى حدٍ ما، فغالبًا ما يتمّ إفرازه حينما نشعر بالبرد أو الخوف، إلى جانب لحظات شعورنا بالضغط والتوتر أيضًا، إضافةً للمشاعر والعواطف القوية مثل الغضب والإثارة والوقوع في الحبّ واستشعار ما يُطلق عليه بمصطلح “فراشات المعدة”.
يُطلق على القشعريرة المرافقة لاستشعارك جماليةً معينة، سواء لقطعة موسيقية أو لوحة فنية أو مشهدٍ سينمائيّ أو عاطفة مميزة تجاه شيءٍ أو شخص ما، اسم “قشعريرة الجمال”، أو ما يعني في اللغة الفرنسية باسم ” frisson“
قشعريرة الموسيقى والمشاعر: تشويقٌ ناتج عن غير المتوقع
لكن لماذا يتفاعل جلدنا بهذه الطريقة عند سماعنا لأغنية أو قطعة موسيقية جميلة، أو في حال رؤيتنا لمنظرٍ خلّاب؟ أو حتى في حال مررنا بحالة من النوستالجيا والذكريات التي تجعلنا نستشعر عددًا من العواطف المختلفة؟
فالأشخاص يميلون أيضًا لاستشعار القشعريرة في قمة لحظاتهم العاطفية، كعبورهم الممر في حفل زفافهم، أو لحظة استلامهم جائزة ما أو تكريمهم على الملأ، أو حتى مجرد مشاهدتهم لمشهدٍ عاطفيّ أو مرعب على شاشة السينما، أو استماعهم لقطعة موسيقيّة يستشعرون من خلالها العديد من العواطف والمشاعر والذكريات.
يُطلق على القشعريرة المرافقة لاستشعارك جماليةً معينة، سواء لقطعة موسيقية أو لوحة فنية أو مشهدٍ سينمائيّ أو عاطفة مميزة تجاه شيءٍ أو شخص ما، اسم “قشعريرة الجمال”، المصطلح القادم من اللغة الفرنسية ” frisson“، والذي يمكن تعريفه بأنه موجاتٌ من المتعة تسري في جميع أنحاء البشرة، وقد وصفها بعض الباحثين أيضًا بأنها “النشوة الجلد”.
تعمل المقاطع الموسيقية التي تتضمن تجانسًا غير متوقعًا وتغييرات مفاجئة في النغمات على تهديد أو انتهاك توقعات المستمعين بطريقة إيجابية
وفي حين أنّ العلماء ما زالوا يبحثون حول هذه الظاهرة الغامضة على مدى عقودٍ عديدة، إلا أنّنا بتنا قادرين الآن ولو قليلًا فهم كيفية تفاعلنا عاطفيًا مع المحفزات غير المتوقعة في بيئاتنا المحيطة، وخاصة الموسيقى.
تعمل المقاطع الموسيقية التي تتضمن تجانسًا غير متوقعًا وتغييرات مفاجئة في النغمات على تهديد أو انتهاك توقعات المستمعين بطريقة إيجابية، فحين يكون المستمع يسعى لتوقّع ماذا سيسمعه أو كيف ستستمرّ الأغنية أو المقطوعة، تأتي نغماتها لتفاجئه بطريقة لم يكن يتوقعها، إذن دعنا هنا نركّز على كلمة “تهديد” و”إيجابية”.
فلا نعني بالتهديد ذلك الذي ينتج عن خطرٍ ما محدق، وإنما هو نتيجة التشويق المشحون عاطفيًا بشكلٍ غير متوقع حيال ما يسمعه أو يشاهده أو يشعر به الفرد، ما يجعل دماغه يتفاعل وفقًا للطريقة التي تطوّر عليها، أيْ أنه يُطلق “الأدرينالين” تحسبًا لما هو قادم، دون وعيٍ منه بعدم وجود تهديد سلبيٍ قائم أو حالة مواجهة تستدعي الانفعال.