إنها الثانية ظهرًا في بغداد.. درجة الحرارة تقارب الـ40 مئوية، لكن العمال يكدحون بشكل متواصل، بينما ضجيج آلات الحفر والهدم تكاد تصم الآذان.. هذه هي الموسيقى الجديدة التي تعيش عليها العاصمة العراقية هذه الأيام.
المزيد والمزيد من المباني والأبراج الشاهقة تُشيّد في كل نواحي العاصمة، وفيما يعتبرها بعض السياسيين علامة على الازدهار والرخاء في بلاد الرافدين، فإنها تخفي الكثير من عمليات غسيل أموال الفساد التي لم تجد لها مكانًا سوى العقارات، وهو ما جعل سعر المتر المربع الواحد في بعض مناطق بغداد – التي تفتقر للكهرباء والخدمات الأساسية – يتخطى مدنًا مثل سان فرانسيسكو وميلان وميونخ وبرشلونة وطوكيو!
ما الذي يحدث؟
يشهد سوق العقارات في العراق – خاصة تلك الفاخرة منها – انتعاشًا كبيرًا منذ بضعة أعوام، ووفق سماسرة تحدثوا إلينا، يمكن أن يصل سعر المتر المربع الواحد إلى 20 ألف دولار، وهو رقم يوازي معدل الأسعار في مدينة زيورخ السويسرية!
يقول رائد العزاوي، وهو سمسار عقارات في بغداد، إن هذه العقارات ليست سكنية فقط، وإنما يتعداها لأغراض تجارية أيضًا. “تنقسم بين المراكز التجارية (المولات)، والعمارات السكنية والتجارية، بالإضافة إلى الفلل الفاخرة ذات المكان المميز والقيمة العالية والمكونة من مواد إنشائية عالية الجودة، وتختلف أسعارها من منطقة لأخرى حسب الأهمية”، يقول العزاوي.
لكن ما أسباب هذا الارتفاع الجنوني؟ يقول محمد الربيعي الناطق باسم بلدية بغداد، إن غسيل الأموال والفساد هو السبب وراء هذه الأموال. “من الصعب على الفاسدين إرسال المال إلى الخارج بسبب العقوبات الأمريكية والرقابة على حركة الدولار، لذلك يضخها أصحاب الأموال في العقارات، ما أدى إلى هذا الارتفاع” يضيف الربيعي.
في تحقيق لـ”واشنطن بوست”، تقول الصحيفة إن تلك عمليات معقدة بدورها أيضًا، فالأموال تصل نقدًا في حقائب السفر والأكياس البلاستيكية، وحتى في أحواض الآيس كريم. في بلد مثل العراق، لا تزال عملية تسجيل الأراضي والممتلكات تعتمد على الورق، ولا تتم مشاركة البيانات بين الوكالات الحكومية، وفي كثير من الحالات تُسجّل المعاملات بأسماء الأقارب أو الشركاء، ما يوفر المزيد من الحماية للمالكين الحقيقيين من التدقيق.
يقول أحد السماسرة عن هذه التعاملات غير المشروعة: “هذا الجزء هو صناعة كاملة في حد ذاته، فهذه الأموال لا يمكن تتبعها في حال إجراء تحقيق، لأنها مسجلة باسم مواطنين عاديين، وهذه العملية غالبًا ما يقوم بها السياسيون المتنفذون”.
غسيل الأموال لا يتوقف هنا، فبمجرد إتمام صفقة الشراء يمكن نقل سندات الملكية إلى البنوك وإيداعها كضمان للحصول على قروض بقيمة 3 إلى 5 أضعاف قيمة العقار، التي يتم بعد ذلك تحويلها إلى عمليات استحواذ جديدة.
رغم أن وزارة التخطيط أعلنت أنها لا تملك سجلًا بهذه الأنشطة أو العمليات، فإن سرقة القرن – عملية اختلاس بقيمة 2.5 مليار دولار – التي تم الكشف عنها في عام 2022، كشفت جانبًا من طرق تحويل الأموال المسروقة إلى أصول قانونية مشروعة، فقد كشفت التحقيقات أن الأموال المسروقة وجدت طريقها إلى سوق العقارات، وتبين أن 286 مليون دولار منها توزعت على 55 عقارًا تم شراؤهم، بمعدل 5.2 مليون دولار للعقار الواحد!
بين بغدادين
بالنسبة للعراقيين الذين يعيشون على المرتب الشهري نتيجة عملهم في القطاع العام، يعد شراء مسكن في بغداد أو مراكز المدن من الأحلام، ومع ازدياد معدلات الجفاف، ينزح الكثير من سكان الريف نحو المدن، وهو ما يضاعف الأزمة، وبحسب إحصائية لوزارة التخطيط، فإن نحو 70% من سكان العراق يسكنون المدن ومراكزها، بينما بالكاد يصل سكن الأرياف إلى 30%، بسبب النزوح المستمر نتيجة الجفاف.
يزداد الطلب على الشقق والمساكن إذن، بينما لا تظهر حلول مناسبة في المقابل، صحيح أن قطاع البناء يشهد انتعاشًا غير مسبوق، لكن ترك السوق للعرض والطلب يثقل كاهل المواطنين وهو ما يدفعهم لحلول محدودة:
– أحد هذه الحلول هو تقسيم المساكن الكبيرة، فهناك الكثير من العراقيين ممن يملكون مساكن كبيرة المساحة نسبيًا – تتراوح ما بين 300-600 متر مربع – وهكذا يقوم الشباب المتزوج حديثًا من أحد أفراد العائلة بالزواج في الطابق الثاني عادة بعد إضافة عدة مرافق له. وثمة من يقوم أيضًا بالبناء في مساحات البيت الأخرى مثل الحديقة الأمامية التي تشتهر بها العديد من البيوت في أحياء عدة، لكن هذه الخطوة لها تبعات اجتماعية سلبية، تتمثل في اكتظاظ المنازل مع مرور الوقت، خاصة مع زواج أكثر من فرد في البيت الواحد وإنجاب الأولاد.
– الحصول على قرض سكني لشراء عقار، وهذا اختيار يذهب إليه الكثير من المواطنين، لكنه في الواقع فاقم المشكلة بقدر ما حل جزءًا منها. فرغم أن الدولة تسيطر تقريبًا على كل القطاعات في العراق، فإن سيطرتها لا تتعدى الإدارة البيروقراطية البعيدة عن التطوير، والقطاع العقاري جزء من هذه المنظومة، فالحكومة لا توفر أرضية حقيقية تنظم القطاع العقاري، وبذلك أصبح القطاع الخاص هو الرائد في هذا المجال دون منافسة تذكر أو قوانين تحد من جشع العرض والطلب، وهكذا، في كل مرة يقرر البنك المركزي زيادة التخصيصات في القروض العقارية، يساهم في رفع الأسعار دون أن يغير كثيرًا من القدرة الشرائية.
– إنفاق المدخرات على تأجير السكن، فالطفرة لم تصب أسعار البيع وحسب، وإنما ساهمت بشكل تلقائي في زيادة الإيجارات بالطبع، ففي مناطق وسط العاصمة مثلًا يمكن أن يصل إيجار بيت صغير إلى نحو 800 – 1500 دولار، وأقل من ذلك كلما ابتعدنا عن وسط المدينة، وهذا هو الحال بالنسبة لمراكز المدن الرئيسية مثل كربلاء والنجف والبصرة، وبحساب باقي متطلبات الحياة – يعتمد العراقيون على المولدات الخاصة في مجال الكهرباء مثلًا – ينفق العراقيون أغلب مواردهم على التكاليف الأساسية، وهذا ينطبق بالطبع على ذوي الدخل المرتفع من موظفين أقدمين أو موظفين ذوي دخل مرتفع في الشركات الخاصة، أو تلك العوائل التي يعمل بها أكثر من فرد.
التباين لا يشمل السكن وحسب، وإنما يستلزم ذلك ما يتبع من أمور أخرى مثل نمط الحياة والإنفاق والمواصلات والملابس وغيرها، وبنظرة فاحصة يمكن القول إن هناك فجوة تتسع بين الطبقات في العراق تظهر بالأخص في العاصمة بغداد، التي تبدو كأنها بغدادين تعيش فيها طبقات مختلفة، طبقة مترفة تتخذ من القطاع العقاري بوابة لكسب مزيد من الأموال، وطبقة أخرى تكافح من أجل البقاء دون الهبوط إلى ما دون خط الفقر، ويقبع فيها نحو 25% من سكان البلد، وأخرى أعلى منها تحاول الصعود إلى الأولى.. وحول هؤلاء فئة أخرى خارج السباق تقطن “العشوائيات”، وهم يشكلون بحسب وزارة التخطيط 10% من مجموع سكان العراق!