“أخرجت لساني من بين شفتي وممدت طرفه ليلمس بشرة أصبع قدمها الأكبر ثم مشيت بطرف لساني في نقرات متباعدة حتى وصلت لركبتها وأخذت أقبل النتوءات البارزة من صابونة الركبة”.
كلمات جنسية صريحة سرت بين أحاديث عامة المثقفين في الخفاء، لكنها أزعجت المواطن هاني صالح توفيق الذي هرع إلى المحكمة لرفع دعوة في مطلع عام 2015، وقدم بلاغًا ضد الكاتب والمدون المصري أحمد ناجي.
المواطن – بحسب أقواله – قرأ كلمات ناجي في رواية “استخدام الحياة”، فحدث له اضطراب في ضربات القلب وإعياء شديد وهبوط في الدورة الدموية، وبناءً عليه رأى أن ضررًا وقع عليه، فتوجه بمحضر إلى النيابة التي فتحت بدورها تحقيقًا في الواقعة.
ساحة المحكمة تكفلت بنقد العمل الأدبي، وذكرت في حيثيات حكمها أن “الكاتب سخر أنامله لنشر مادة كتابه، نفث فيها شهوة فانية، ولذة زائلة، وأجَّر عقله وقلمه لتوجه خبيث، حمل انتهاكًا لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق، والإغراء بالعهر، خروجًا على عاطفة الحياء، وهدمًا للمُثل العامة المتعارف عليها”.
أصدرت المحكمة حكم الإدانة على ناجي، وكانت التهمة “خدش الحياء العام”، بحسب نص قانون العقوبات المصري، ليخرج كاتب الرواية بعدها شهيدًا للفكر ورمزًا لتعنت الدولة ضد حرية التعبير، بحسب توصيف نقاد الأدب.
وبين من تناول الرواية بالنقد والتجريح، ومن تضامن مع حرية التعبير، غاب النقد الموضوعي للعمل الأدبي، ليبقى السؤال عن الكتب الإباحية واقعًا بين الأدب أم قلة الأدب.
فيديو للروائي أحمد ناجي
فوضى جنسية على ضفاف الكتابة
كُثُرٌ كتبوا عن الجنس في تاريخ العرب والبشرية، روايات وأبحاث أدبية وقصائد شعرية تناولت” التابو الأكبر”، أقلام خطت كلمات جريئة فقرأها الكثيرون في الخفاء وهاجمتها الرقابة بحجة أنها خادشة للحياء.
الناقد الدكتور حسام عقل الأستاذ بكلية التربية جامعة عين شمس، يروى لـ”نون بوست” القصة منذ أن بدأت الكثير من الكتابات الشعرية والسردية في اختراق سقف المكاشفة الطبيعي الذي ألفه القارئ العربي، وبدأ يظهر تدريجيًا ما سُمي في الثمانينيّات بشعر الجسد أو قصيدة الجسد، ممثلًا في مجموعة من الشعراء الذين نظموا في هذا المسار شعرًا غرائزيًا، منهم أحمد عبد المعطي حجازي في قصيدة “نحت”، وقصيدة “سندسة الجسد” لحسن طلب.
وصلت التجارب الشعرية إلى محاولة استفزاز القارئ العربي، كما في ديوان الشاعر أحمد الشهاوي “الوصايا في عشق النساء”، الذي أثار ضجة وأفتى الأزهر بمصادرة الكتاب وتكفير الشاعر “كفرًا صريحًا”، وتهديد جماعتي “أنصار الإسلام” و”أنصار الله” بقتله بسبب كتابه.
ما نُظم شعرًا، كُتب سردًا، وتواترت الكتابات الجنسية في هذا الخصوص، وكان من بين من كتبوا بهذه الطريقة محمود الغيطاني وأحمد عبد اللطيف، إلى أن ظهرت موجة من الأدب المعروف باسم “الإيروتيكي” الذي يلفت الأنظار ويداعب الغرائز.
الأدب الإيروتيكي بين الإبداع والابتذال
تنوّعَت التأويلات التي تناولت الأعمال الأدبية بالنقد، بين مَنْ يرى أن الكاتب الذي يلجأ في عمله الأدبي إلى الوصف التفصيلي المكشوف للجنس يكون أكثر تعبيرًا عن تجربته الأدبية، ومَنْ يرى أن الأوصاف الجنسية ليست تعبيرًا عن قدرات الكاتب الإبداعية ما دام الجنس تجربة عادية يشترك فيها القادر على الإبداع الأدبي مع أولئك الذين لا صلة لهم على الإطلاق بالإبداع.
وعن النوع الأخير، يرى دكتورعقل أن بعض كُتَّاب “الفرز الرابع أو الخامس”، كما يسميهم، يوظفون الجنس لذاته، لمجرد دغدغة الغرائز واستهداف شريحة الشباب وتحقيق درجة أعلى من المبيعات واستخدام ذلك المنطق كوسيلة للشهرة، ومحاولة فجَّة للفت الأنظار (مثال على ذلك: الكاتبة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي في كتابها أحلام النساء الحريم).
ويقول الروائي المصري الشاب بهاء حجازي إن المباشرة في الوصف تفقد العمل الأدبي وظيفته، ويضيف لـ”نون بوست”: “الإبداع لا يأتى من وصف العملية الجنسية، ومداعبة الغرائز أسلوب رخيص لاكتساب فئة كبيرة من الجماهير”.
وفي حين يوظف بهاء الجنس في كتاباته لأغراض درامية يستدعيها السياق، بحسب قوله، ترى الروائية اللبنانية غادة جبق أيوب – وهي واحدة من الكتاب المشهورين في عالم الأدب الإباحي – أن الإباحية تخدم النص وتعطيه الحياة حتى يشبه الواقع الذي نرفضه أحيانًا، ونتجنب الحديث عنه أحيانًا أخرى.
فقد هذا النوع من الكتابة كل بريق، وبدأ المتلقي العربي يبحث عن مسارات أخرى، ومنها الكتابات التي تجسد الأزمات العربية والقهر السياسي والاجتماعي والطبقي
وبين وجهات النظر المختلفة، هناك من يستخدمون الجنس موظفًا فنيًا لإبراز درجات القهر الاجتماعي الذي تعانيه المرأة، أو لإبراز درجات الكبت الجنسي والضغوظ التي يعنيها الشاب، في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
هؤلاء في العادة لا يلجأون إلى التفاصيل المقززة، إنما يلتقطون المشهد التقاطًا بانوراميًا من أعلى، أما الذي يهبط بكتاباته إلى الأسرَّة والمراحيض، فهو كما يقول الكاتب يحيى حقي “يدُس الفن في الرغام”، في إشارة إلى هذه النوع من الكتابات.
هذه الموجة من الكتابات الجنسية – بحسب عقل – بدأ ظلها ينحسر بوضوح، لأنها لم تعد مثيرة لدهشة القارئ العربي، فمع كثرتها أتت معها بالابتذال الذي أسقط معنى الصدمة الصاعقة أوالذهول.
وبالتالي فقد هذا النوع من الكتابة كل بريق، وبدأ المتلقي العربي يبحث عن مسارات أخرى، ومنها الكتابات التي تجسد الأزمات العربية والقهر السياسي والاجتماعي والطبقي أو تتعامل مع العوالم الخلفية التي لا يشعر بها أحد، مثل رواية “خير الله الجبل” للكاتب علاء فرغلي التي تجسد ظهور البلطجية وأطفال الشوارع نتيجة غياب الدولة.
الممنوع مرغوب
شهد الفضاء الثقافي العربي في السنوات الأخيرة موجة لافتة للنظر من “الأدب الإيروتيكي”، وربما تُثير الأمثلة – إن ذُكرت – فضول الكثيرين لاستكشاف ما كتب هؤلاء من تجارب “مُحَّرمة” في هذا الاتجاه، انطلاقًا من مقولة “الممنوع مرغوب” في البلدان العربية، فأغلب الذين رددوا المقاطع المحظورة من رواية أحمد ناجي كشفوا عن بُعد من أبعاد أزمة كبيرة يعانيها المجتمع، وهي الازدواجية التي تقبل بالإباحية في الخفاء بينما إعلانها يكون خطيئة.
يثير ذلك تساؤلًا عما إذا كان هناك أزمة في المجتمع، أم أزمة في الأدب العربي؟ فالروايات الجريئة في طرح ملابسات العملية الجنسية من الأدب المحظور في البلدان العربية، تطال حملات التشهير مؤلفيها بأقذع الشتائم والعبارات، وتحاربهم السلطة على اعتبار أنهم ينشرون “الفسق والفجور”.
مع ذلك جرت محاولات عدة لكسر هذا “التابو”، بل تعدت الحد المسموح به، واستخدمت كلمات خادشة للحياء حولها القلم إلى نوع جديد من الأدب بين الإبداع والابتذال، ومع ما يتعرض له مؤلفوها من رقابة، باتت الكتب تُقرأ في الخفاء محققة أعلى المبيعات.
يعتبر القانون في عدد من الدول العربية أن “خدش الحياء العام” جريمة يُعاقب عليها مرتكبها، ويتعامل القضاء مع نصوص فضفاضة وغير محددة المعالم حسب ما يراه القاضي
هذا التضييق يجعل الأدب الجنسي في العالم العربي يتغذى من نقيضه، أي التحريم، وليس من تربيته الأصلية وهي الحرية، يقول دكتور عقل، رافضًا سياسات الحظر والمصادرة، ويرى أنها “نوعًا من الحماقة”، لأنها عديمة الجدوى، معللًا بأن ما يُصادر بقرار إداري تنفيذي يُنشر في فضاء الإنترنت بشكل أوسع.
الروائي الشاب لا يذهب بعيدًا في وجهة نظرة، فالحظر والمنع أسلوب قمعي لا يحل مشكلة، لكنه يصنع نجومًا من ورق، ويضرب مثالًا لذلك، ما حدث مع أحمد ناجي، فبعد مصادرة عمله وإصدار حكم بحبسه، تحول الروائي إلى أيقونة لحرية التعبير، حتى دون أن يطلع الكثيرون على ما كتبه.
وفي حين يعتبر القانون في عدد من الدول العربية أن “خدش الحياء العام” جريمة يُعاقب عليها مرتكبها، يتعامل القضاء مع نصوص فضفاضة وغير محددة المعالم حسب ما يراه القاضي الذي يرى أن الدولة واصية على الناس، تختار لهم ما يقرأوه أو يشاهدوه.
الحل.. الكاتب أم القارئ؟
السؤال عن إمكانية معالجة الأدب للجنس سؤال غير وارد، لأن الأدب في أساسه يعالج قضايا الإنسان وإحباطاته ووعيه وأفكاره وأحلامه المكبوتة التي يمكن أن تتضمن حتى الحلم أو الرغبة في اختراق المحرمات.
في النهاية يخضع الأمر للمعالجة الفنية واستخدام الجماليات للتعبير، ولكل فنان حريته في الانتقاء بين العناصر الجمالية وبناء عمله الفني سواء كان رواية أم لوحة أم قطعة موسيقية، يقول الكاتب المصري إبراهيم فرغلي.
لكن الناقد الأدبي دكتور حسام عقل يرى أنه من الأفضل إيجاد نوع من الحصانة الذاتية والوازع الداخلي للمتلقي العربي، ليعاقب هذه النصوص بنفسه بالمقاطعة، وهكذا يقتلها في مهدها، ويجعل أنصاف المواهب أو عديمي المواهب يُغربلون من الساحة واحدًا تلو الآخر.
ويقترح الروائي بهاء حجازي طرح الفكرة للمناقشة قبل الشروع فيها للحكم عليها من الجمهور، فيما يبقى على الكاتب في كل الحالات أن يقدم جرعة تثقيفية للجمهور بدلًا من أن ينفث في كتاباته متعة لحظية، انطلاقًا من المسؤولية المجتمعية التي يفترض أن يؤديها.