كانت الرابعة فجرًا حين اقتحمت قوات الاحتلال بيت نور التميمي “21 عامًا”، في قرية النبي صالح غرب رام الله، قوات الاحتلال لم تسمح لها حتى بتغيير ملابسها، فخرجت في البرد والظلام بملابس النوم.
تقول نور: “اقتادوني إلى مركز تحقيق بنيامين شرق رام الله، وهناك حقق معي عدد من المحققين، وهددوني بإيذاء عائلتي كي أعترف بما لم أفعل، استمر التحقيق معي 22 ساعة متواصلة، بعدها نقلت إلى سجن هشارون، وهناك كانت المفاجأة”.
السجون مكتظة بالأسيرات
التقت نور بالأسيرات لأول مرة، وعددهن 42 مقسمات على تسع غرف، السجون مكتظة بهن، ولا أغطية كافية ولا تدفئة ولا طعام نظيف ولا ظروف موائمة للعيش.
تقول التميمي إن “الأسيرات داخل السجون، ينقصهن كل أشكال الحياة، ورغم ذلك مفعمات بالحياة والأمل، احتضنوني وأشعروني بالتفاؤل رغم كل ما يعانونه”، ثم أضافت: “كلهن محكومات بأحكام عالية جدًا، تصل عشرات السنوات، ورغم ذلك يخططن لحياتهن كأنهن سيتحررن غدًا”.
نور طالبة الإعلام في جامعة القدس، تقول لـ”نون بوست” إن الفترة التي قضتها في السجن علمتها الكثير من الدروس التي لن تنساها طيلة حياتها، بل وشعرت بتقصير كبير تجاه الأسرى والأسيرات.
كانت أقسى لحظات الأسر بالنسبة لنور هي لحظات نقلها من السجن إلى المحكمة
وترتب الأسيرات كل ليلة برنامجهن ليوم الغد قبل النوم، فبعضهن صغيرات يدرسن لامتحانات الثانوية العامة، وأخريات لامتحاناتهن الجامعية، حتى إن جزءًا منهن أنهين البكالوريوس والدكتوراة داخل السجن.
الأسيرات مثقفات جدًا وطاهيات من الطراز الأول
تقول نور إن الأسيرات مثقفات جدًا، فهن قارئات من الدرجة الأولى، ويقضين معظم أوقاتهن في مطالعة الكتب والروايات، إضافة إلى كونهن محترفات في الطهي، وتتابع: “السجان الذي يقدم لهن طعامًا مقززًا ربما يشتهي تذوق طعامهن من رائحته ومذاقه اللذيذين، رغم انعدام الأدوات المناسبة لإعداده”.
وعن آلية تواصلهن مع العالم الخارجي تقول نور إن راديو صغيرًا “خربان”، أي تالف، اشترته الأسيرات بمبلغ 150 شيقلاً أي قرابة 50 دولارًا، يسمعن من خلاله رسائل أهاليهن لهن. وروت التميمي بحزن ووجع كبير كيف كانت إحدى الاسيرات تلصق الراديو بالحائط كي تسمع صوت أهلها القادم من خلف القضبان.
أما بخصوص التلفاز، فهناك فضائيتان فقط متاحتان للأسيرات، وهما قناة فلسطين الرسمية، وقناة أخرى عبرية كانت تعرض صورها وصور ابنة عمها عهد التميمي وتحرض عليهما وتقول عنهما إرهابيتين.
الاحتلال الذي عاقب التميمي خلال اعتقالها والتحقيق معها وأسرها، عاقبها أيضًا في طريقة إطلاق سراحها، فرمتها “البوسطة” على حاجز جبارة في طولكرم، عند منتصف الليل في البرد والظلام
وتلتقي الأسيرات في “الفورة”، أي استراحة مدتها خمس ساعات تكون فيها غرف السجن مفتوحة على بعضها البعض وتستطيع الأسيرات فيها أن يجتمعن معًا، يطبخن جماعيًا أو يتبادلن أطراف الحديث أو يدرسن لامتحاناتهن معًا، بحيث يشعرن من درجة قربهن لبعضهن البعض أنهن أسرة واحدة كبيرة.
“البوسطة”.. ذل ليس بعده ذل
وكانت أقسى لحظات الأسر بالنسبة لنور هي لحظات نقلها من السجن إلى المحكمة، من خلال سيارة تدعى “البوسطة”، حيث يجلسونها على صندوق حديدي بارد جدًا، ويقومون بتشغيل التكييف على درجات حرارة متدنية أيضًا، رغم برودة الجو الشديدة، فتصاب بحالة من الغثيان والدوار.
نور التميمي أمضت في سجن هشارون المقام على أراضي مدينة طولكرم، شمال فلسطين، 16 يومًا، كانت فترة عطلتها الجامعية فقضتها في سجون الاحتلال، ليطلق سراحها بكفالة معجلة قيمتها 5 آلاف شيقل وأخرى مؤجلة قيمتها 10 آلاف شيقل.
الاحتلال الذي عاقب التميمي خلال اعتقالها والتحقيق معها وأسرها، عاقبها أيضًا في طريقة إطلاق سراحها، فرمتها “البوسطة” على حاجز جبارة في طولكرم، عند منتصف الليل في البرد والظلام.
تقول التميمي: “أصبت بالرعب وخفت أن يعتدي عليّ أحد الجنود هناك على الحاجز أو أن أصاب بالأذى، خصوصًا أنني في شارع للمستوطنين، مشيت نحو 20 دقيقة، وفجأة وجدت والدي ينتظرني في البرد منذ ساعتين، وحين احتضنته شعرت وكأن الروح ارتدت لي”.
والدة نور: “كان أكثر ما يقلقني أن يفرج عن نور من ذلك الحاجز، فجاء الإفراج عنها من هناك وفي منتصف الليل”
العائلة لم تتفاجأ باعتقالها
عائلة نور التي عاشت خلال فترة اعتقالها، ككل عائلات الأسيرات والأسرى، حالة من الحزن والألم والخوف على ابنتها، لم تتفاجأ حين قدمت قوات الاحتلال إلى البيت وأخذتها من بيتها الدافئ إلى حيث البرد والقسوة والظلام.
والدتها بشرى التميمي قالت لـ”نون بوست” إن “لحظة الاعتقال كانت اللحظة الأصعب، خاصة أن عشرات الجنود قدموا لاعتقالها، وفي وقت متأخر جدًا من الليل، فشعرت وكأنهم أخذوا مني قلبي”. تتابع: “أما بخصوص قلقنا عليها في فترة اعتقالها، فأنا كأم حين تذهب إلى الجامعة أشعر بالقلق عليها، فكيف إذا كانت معتقلة؟! ونحن نعلم كيف يعامل الاحتلال الأسرى والأسيرات”.
تؤكد التميمي أن لحظة الإفراج عن ابنتها لم تكن أقل صعوبة بالنسبة لها كأم، خاصة أنها أسيرة محررة، وتعلم حجم الخوف الذي تعيشه الأسيرات حين يفرج عنهن على الحاجز اللعين الذي يسمى “جبارة”. وتقول بألم: “كان أكثر ما يقلقني أن يفرج عن نور من ذلك الحاجز، فجاء الإفراج عنها من هناك وفي منتصف الليل، ذهب أبوها وأخوالها لاستقبالها هناك، فيما أنا لم أتوقف عن الدعاء بقلب سليم إلى الله تعالى، حتى تلقيت اتصال والدها وأخبرني أن نور معه”.
ناجي التميمي: نشعر بالفخر بأطفالنا
ناجي التميمي والد نور ورئيس مجلس قروي النبي صالح، يقول لـ”نون بوست” إن “رغم خوفنا كآباء وأمهات على أولادنا وما يتعرضون له على يد قوات الاحتلال، سواء في المواجهات أو عند الاعتقال، فإننا نشعر بالفخر أن أبناءنا يتحملون المسؤولية النضالية، منذ نعومة أظافرهم”.
وردًا على وصف أهالي قرية النبي صالح، بالإرهابيين في عدد من الصحف الإسرائيلية، يقول التميمي: “نحن في بداية الأمر لم نكن نشرك أطفالنا في مواجهة الاحتلال، وكنا نحن نخرج للدفاع عن أرضنا بيدينا، ولكن ما كان يحدث أن الاحتلال يستهدف البيوت بالقنابل والرصاص، فيختنق أطفالنا ويصابون وهم بعيدون عن ساحة المواجهات”.
ويضيف التميمي: “لقد وصلنا إلى قناعة أن الكل في قريتنا مستهدف، الرجل والمرأة والكبير والصغير، ولهذا السبب قررنا أن نترك المساحة لأطفالنا ليخرجوا معنا ويدافعوا عن أرضهم التي ابتلعت المستوطنات حصة الأسد منها. ويؤكد التميمي أن كل إجراءات الاحتلال التعسفية بحق أهالي النبي صالح لن تثنيهم عن المشاركة الفاعلة في المقاومة الشعبية، لدحر الاحتلال ومستوطنيه عن أراضيهم.