دائمًا ما تثير متابعة وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها تساؤلًا كبيرًا حيال ما يقوم به الأفراد من تسويقٍ للذات وكأنها سلعة أو ترويج للأوهام التي خرجت من نطاق كونها أوهامًا وتحولت إلى وقائع وحقائق لا يصدّقها المتابعون وحسب، بل وأصحابها أنفسهم، لدرجة أنّ جزءًا كبيرًا من تقدير الذات وإدراكها بات مرتبطًا عند الأشخاص بحساباتهم في تلك المواقع وطريقة تفاعل الآخرين معها.
لنركّز قليلًا على موقع أو تطبيق التواصل الاجتماعي إنستجرام، وعلى الصور الشخصية التي ينشرها مستخدموه بعيدًا عن ما تتم كتابته تبعًا لها، فما يُكتب له حديث آخر بطبيعة الحال. خذ على سبيل المثال تلك التأثيرات بالغة الكمال والجَمال التي يستخدمها الأشخاص بحيث تبدو وجوههم بشكلٍ أجمل، خالية من العيوب، خافية لأيّ شُحب ولا تشوبها شائبة على عكس ما قد تبدو عليه في الواقع.
قد يعتقد الكثيرون أنْ لا ضير في ذلك، الفرد منّا يحبّ أنْ يريَ صورته على أحسن حال لمن حوله، لكنْ هل فكرتَ مرةً كيف يمكن لتصديق المرء لصورته التي ينشرها، وتفاعل أصدقائه ومتابعيه معه بناءً عليها، أنْ يؤثّر على صورته الحقيقية وتقديره لذاته، وبالتالي المساهمة في خلق ثقةٍ وهمية تصبح جزءًا لا يتجزأ من حياته فيما بعد؟
وبعيدًا عن التأثيرات الجَمالية، بات من الملاحظ أنّ عددًا الحسابات التي يروّج لها أصحابها قد ازداد بشكلٍ كبير خلال الآونة الأخيرة، فلم يعد كافيًا لأنْ يعتقد الشخص أنّ لديه ما يستحق أنْ يُنشر ويُشارك مع الغير ليتمّ الترويج له ودفع مبالغ من الأموال لإيصالها لنطاق أوسع، وإنما تحوّل كلُّ شخصٍ وكلّ موقفٍ وكلّ إلى رأسمالٍ يجب استثماره وعدم حصره للشخص نفسه، فمن أين أتت هذه الثقة؟
وهم الثقة: جهلٌ بالحقيقة وإيمانٌ بالزائف
عام 1995، قام “ماك آرثر ويلر” بسرقة اثنين من بنوك مدينة بتسبرغ في محافظة بنسلفانيا الأمريكية. الظريف في الحادثة تلك أنّ الرجل لم يلبس أيّ قناع ولم يكلّف نفسه أيّ عناء للتخفّي، وعلى العكس من ذلك فقد ابتسم لكاميرات المراقبة أثناء خروجه من كلا البنكين.
ألقت الشرطة لاحقًا على الرجل وعرضت الفيديوهات التي سجّلتها الكاميرات عليه، فما كان من آرثر إلا التفاجؤ بأنّ الكاميرات كشفته، فعلى حدّ تصريحه آنذاك ” ولكنني دهنتُ نفسي بالعصير!“. إذن يبدو أنّ بطلَ قصتنا هنا قد اعتقد بأنّ دهن جسده بعصير الليمون سيجعل منه شخصًا غير مرئيًا، إذ أنّ العصير كان متعارفًا عليه بكونه حبرًا سريًّا لا يظهر إلا باقترابه من مصدرٍ حراريّ ما.
أثارت الحادثة اهتمام عالم النفس في جامعة كورنيل ” دايفيد دانينج” الذي توصّل لاحقًا مع تلميذه “جستن كروجر” إلى أنّ كلّ شخصٍ لديه تصورٌ إيجابيّ عن قدراته المتعددة، وأنّ البعض يخطئ في تقييم تلك القدرات بشكلٍ أكبر بكثيرٍ من حقيقتها، لتصل مرحلة الوهم المصدّق كليًّا، وهو ما بات يُعرف لاحقًا في علم النفس بمصطلح “وهم الثقة” أو ” تأثير دانينق كروجر” نسبةً للعالميْن، والذي بدوره يصف التحيّز المعرفي الذي يؤدي لتضخيم التقييم الذاتي وإدراك قدرات الشخص.
للتحقق أكثر من تلك الفرضية، صمّم الاثنان عدة دراساتٍ داخل نطاق الجامعة وخارجها، توصلت إحداها إلى نتيجة أنّ الطلاب الذين أحرزوا نتائج ضعيفة في الدراسة المصمّمة، كانوا أكثر مبالغة وتعظيمًا في تخمينهم بالحصول على نتائج جيدة وأنهم أدوا الاختبار أفضل من الآخرين. أما على الجانب الآخر، فالطلاب الذين حصدوا نتائج عالية قد مالوا إلى الاعتقاد بسوء أدائهم.
ومن المثير للاهتمام أكثر، فقد توصل كلٌّ من دانينج وكروجر أيضًا إلى أنّ الطلاب الحاصلين على درجتي “D” و”F” في موادّهم، بالغوا في تقدير إمكانياتهم وقدرتهم في النجاح، في حين أنّ الطلبة المتفوقين والحاصلين على درجة “A” وقعوا ضحيةً الشك في قدراتهم وبكلمات أخرى، فقد استخفوا فيها وقلّلوا من نسبة حصولهم على تلك الدرجة.
خذ أيضًا على سبيل المثال كلَّ أولئك الذين يشاركون في برامج المواهب التلفزيونية ويخرجون على الملأ ليعرضوا مهاراتٍ تافهة لا تصلح للمشاهدة، غير أنهم مؤمنين في الوقت نفسه بإمكانياتهم وقدراتهم، ومتعجّبين أيضًا من رفض الجمهور أو لجنة الحكّام لهم.
مواقع التواصل الاجتماعي والثقة الوهمية
بالنهاية، هذا جانب واحد من جوانب ما يحدث في العالم الرقمي الذي يتطوّر أسرع من المتوقع، والسؤال عن ما تنتجه مواقع التواصل الاجتماعي من آثار على الأفراد والمجتمعات أصبح لازمًا وضروريًا. خاصة وأنّ وهم الثقة هذا قد يكون في الوقت نفسه مرتبطًا بالكثير من الاضطرابات النفسية كالنرجسية وتضخيم الأنا غير الواعي والانفصال عن الواقع والعيش في أوهام وردية خالية من الحقائق والوقائع.
فتلك الثقة التي تتغذى على عدد اللايكات والتعليقات التي إن غابت يصبح الشخص سجينًا للمشاعر السلبية والأفكار غير السوية الناتجة أساسًا عن انعدام تقدير الذات السويّ وامتلاك ثقة وهمية هشّة قد تنكسر بأي لحظة من اللحظات.