ترجمة وتحرير: نون بوست
على الرغم من هزيمته في ساحة المعركة، ظلّ تنظيم الدولة يستخدم السوق السوداء في العراق لتخزين ملايين الدولارات من أجل تغذية تمرده القادم. وفي الوقت الذي خسر فيه التنظيم إحدى القرى الأخيرة التي يسيطر عليها في العراق، كتب مبعوث الرئيس الأمريكي لدى التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، بريت ماكغورك، تغريدة النصر على موقع التواصل الاجتماعي، تويتر، مفادها أن “دولة الخلافة الزائفة وصلت إلى نهايتها”.
في واقع الأمر، خسر تنظيم الدولة الغالبية العظمى من أراضيه في الوقت الحالي، وهو الذي بلغ ذروة قوته في سنة 2014 التي استولى خلالها على حوالي ثلث العراق ونصف سوريا. ولكن، بعد أن وصفته الأمم المتحدة “بأغنى منظمة إرهابية في العالم”، فقد التنظيم حوالي 80 بالمائة من الأموال التي حصل عليها عن طريق احتلال الأراضي، والسيطرة على وظائف الدولة، والضرائب التي جمعها، والرسوم الجمركية التي فرضها على المواطنين الخاضعين لسيطرته.
نتيجة لذلك، تعد الشائعات التي تناقلتها العديد من وسائل الإعلام عن زوال تنظيم الدولة مبالغا فيها إلى حدٍّ كبير. فعلى الرغم من جميع الانتصارات التي حققتها الحكومة العراقية وحلفاؤها الدوليون في ساحة المعركة، إلا أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من معالجة الأضرار الناجمة عن القدرات المالية الهائلة لهذه المنظمة المتطرفة. وفي الحقيقة، سوف تسمح اقتصادات الحرب الفاسدة في العراق وسوريا لتنظيم الدولة بمواصلة تمويل تمردّ خطير في المستقبل. وإذا أراد خصوم التنظيم القضاء على دولة خلافته، فعليهم أن يجدوا سبلا لقطع طريق تمويل التنظيم وحصوله على الأموال نقدا.
في السياق ذاته، قال مُشرع عراقي يعمل ضمن لجنة برلمانية تُعنى بجمع الحقائق حول سقوط الموصل، ومقرب من شخصيات تابعة لتنظيم الدولة، إن “التنظيم هرّب حوالي 400 مليون دولار من العراق وسوريا خلال انسحابه الأخير. وإلى جانب هذا المبلغ النقدي، قام تنظيم الدولة بتهريب أموال من العراق واستثمارها في الأسواق العراقية المحلية. والجدير بالذكر أن فشل الحكومة العراقية في السيطرة على الاقتصاد غير الرسمي في البلاد، سبق الحرب التي قادتها الولايات المتحدة سنة 2003.
تشمل هذه الشركات التي تعد بمثابة الواجهة لأعمال التنظيم؛ وكالات السيارات، ومحلات الإلكترونيات، والصيدليات. في الأثناء، يظل النشاط المفضل لتنظيم الدولة متمثلا في تبادل العملات
خلال فترة التسعينات، دفعت العقوبات الدولية الصارمة المفروضة على صادرات النفط والغاز نظام صدام حسين إلى توسيع شبكات التهريب عبر الحدود مع تركيا وسوريا والأردن. ويبدو أن تنظيم الدولة قد تفطّن لعدم سيطرة حكومة بغداد على الاقتصاد غير الرسمي واستغل نقطة الضعف تلك. لذلك، استولى على طرق التهريب القديمة عندما دخل العراق وسوريا سنة 2014، ما سمح له بجني قرابة مليون دولار أو أكثر يوميا بفضل اقتصاد الحرب.
من جهة أخرى، قامت المنظمة الإرهابية بتهريب الذهب والنفط وآثار لا تقدر بثمن، فضلا عن أنها كانت تأخذ حصة من الأرباح عن كل عملية بيع تقوم بها. في هذا الإطار، تشير الكثير من الدلائل إلى تواطؤ العديد من الأحزاب السياسية والأفراد، الذين تربطهم علاقات جيدة بالعراق والبلدان المجاورة، في دعم هذه السوق السوداء. ومع عودة تنظيم الدولة إلى جذوره المتمردة، استثمر ما لا يقل عن 250 مليون دولار في الكثير من الأعمال التجارية المشروعة. وسواء كان ذلك في بغداد أو في المناطق المحررة مؤخرا، اعتمد التنظيم على وسطاء غير متأثرين بأيديولوجيته المتطرفة، بل متعطشين لتحقيق مكاسب اقتصادية.
والجدير بالذكر أن الكثير من هؤلاء الوسطاء هم زعماء قبليون أو رجال أعمال يمتلكون سجلات نظيفة ويمكنهم إخفاء صلاتهم بالمنظمة الإرهابية، حيث يقوم التنظيم بمنحهم مبلغا مقطوعا من المال للاستثمار في أعمال معينة، ثم يأخذ حصة من الأرباح. وتشمل هذه الشركات التي تعد بمثابة الواجهة لأعمال التنظيم؛ وكالات السيارات، ومحلات الإلكترونيات، والصيدليات. في الأثناء، يظل النشاط المفضل لتنظيم الدولة متمثلا في تبادل العملات.
وفقا لما ذكره البنك المركزي العراقي، تعمل مئات من دور الصرافة الصغيرة التابعة للتنظيم الآن في بغداد. وقد سمحت هذه المؤسسات لهذا التنظيم الإرهابي بتحويل الدينار العراقي إلى الدولار الأمريكي، الذي يعتبر العملة الأكثر تداولا في جميع أنحاء العالم. وخلال سنة 2014 و2015، شارك تنظيم الدولة في مزادات العملات التي قام بها البنك المركزي العراقي، والتي تُتيح للبنوك ودور صرف العملات الحصول على الدولار الأمريكي نقدا ومساعدة بغداد على تحقيق استقرار سعر الصرف. غير أن الأمر تطلب من الحكومة العراقية حوالي السنة تقريبا كي تتمكن من منع مشاركة التنظيم في مثل هذه المزادات.
بالنسبة لقادة تنظيم الدولة، تمثل المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي تصيب العراق؛ شريان الحياة للتنظيم
من جانبها، تحاول كل من وزارة الداخلية، والدفاع، والمالية، والشؤون الخارجية العراقية، فضلا عن البنك المركزي، ومكتب رئيس الوزراء، وجهاز مكافحة الإرهاب، منع تمويل الإرهاب. في المقابل، كانت هذه الجهود ضعيفة على الصعيد المؤسساتي، نظرا لأن كل هذه الأجهزة نادرا ما تتعاون فيما بينها. علاوة على ذلك، كان التنافس السياسي والفساد بين النخب السياسية بمثابة عائق أمام جهود التنسيق فيما بينها من أجل تحقيق النتائج المرجوة.
في السياق ذاته، تستفيد هذه النخبة من المجتمع العراقي من السوق السوداء، وهو ما أكده عضو البرلمان الذي ينتمي إلى لجنة مكافحة الفساد في إحدى المناسبات، حيث أفاد أن “الجميع فاسد”، في حين لم يستثن نفسه من ذلك. وبالتالي، تفتقر هذه النخبة إلى أي حافز حقيقي للقضاء على هذه الآفة التي تنخر صلب النظام العراقي.
بالنسبة لقادة تنظيم الدولة، تمثل المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي تصيب العراق؛ شريان الحياة للتنظيم. وسيستمر التنظيم في جني الأرباح المتأتية من تجارة المخدرات غير المشروعة، وبيع الآثار، وتجارة الأسلحة. كما أنه سيلجأ إلى عمليات الخطف كمصدر للإيرادات، التي كانت من بين التكتيكات التي اعتمدها التنظيم بشكل كبير في الأيام الأولى لنشأته منذ أكثر من عقد مضى. كما يعلق التنظيم جميع آماله على السوق السوداء المزدهرة في البلاد، التي إذا ما تُركت دون رقابة، ستسمح له بتحويل التنظيم من دولة زائفة إلى تنظيم متمرد وحشي.
لقد حان الوقت كي تثبت دولة العراق وجميع حلفائها أن التنظيم على خطأ في تقديراته. وفي نهاية المطاف، تعد معركة هزيمة تنظيم الدولة نضالا من أجل بناء دولة عراقية لم تعد تعاني من الفساد والضعف الاقتصادي. وإذا كانت إدارة ترامب تريد حقا أن تجعل تنظيم الدولة يجثو على ركبتيه، فلا يجب عليها أن تساعد بغداد على التخلص من الإرهابيين فقط، بل أيضا على قطع مصادر تمويل هؤلاء.
المصدر: فورين بوليسي