7 سنوات مرّت على ثورة 25 يناير، الحلم الذي سحق تحت البيادات العسكرية، وصرفت عنه القبلة قسرًا، كثيرون كانوا ضحايا، وأضعاف مضاعفة كانوا ضمن كتائب الوهم، ساهمت رعونتهم في فتح شدقي الاستبداد لابتلاع الثورة ومقوماتها وأركانها، وبات المصريون بعد كل هذه السنوات، في انتظار أضغاث أحلام عن الديمقراطية والتعددية والمجتمع المفتوح، على أمل التحول إليهم من خلال ترانزيت رئاسي بمحسنات مدّنية في الانتخابات الرئاسية الحاليّة، وإن بات حلمًا صعب المنال.
يحاول مرشحون لم يعم الكره قلوبهم وبصيرتهم بعد، المنافسة على حلبة الانتخابات الرئاسة، رغم كل الصعوبات التي تنتاب العملية برمتها؛ بعدما وقفت عليهم فجأة ناصية أحلام مكونات ثورة 25 يناير، بما فيهم تيار إسلامي واسع، متعدد الأقطاب، لا يزال يعيش أزمة حركية واسعة، وتخبط في عملية صناعة القرار.
كانت الثورة أول من كشفت هذا البُعد المظلم في تركيبته، مرورًا بالزلزال السياسي الذي تعرض له، بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، نهاية بالتراجع والاستقرار في حالة تيه سياسي، وهو ما يجعل هناك ضرورة للوقوف على أبعاد أزمة الإسلاميين التي لا تزال تصاحبهم حتى اليوم، ونحن على أبواب العام الثامن لثورة 25 يناير.
الأزمة الحركية ومتطلبات التغيير في مصر
تجربة لم تتجاوز العام الواحد في مصر، انتهت بعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، على سرعتها إلا أنها أوضحت بجلاء، كيف يتأخر الإسلاميون بعقود ضويئة، مع متطلبات التغيير، وفهم كيفيات التعايش السياسي في البيئات المحلية والإقليمية والدولية، وخصوصًا تلك التي يتحركون في إطارها، على المستويين الفكري والحركي، مما يعكس أزمات بنيوية في الفكر السياسي الإسلامي بمستوياته كافة، وكشفتها على وجه التحديد ثورة يناير، وأبناؤها الحقيقيين الذين شعروا أكثر من غيرهم بهذه المعضلة، وتكفلت الأحداث والوقائع التالية لتنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك بالتأكيد عليها.
انكفأ التيار الإسلامي على ذاته، وظهرت إلى الآفاق نزعات تكفيرية من ضيوف منصات إعلام الإسلاميين في المهجر
فشل التيار الإسلامي في مصر، رغم نجاحه في المنازعة على قيادة ثورة 25 يناير وتوجيهها، لأنه لم يتطلع فيها إلا للسلطة، لذا جاءت أغلب قراراته، بعيدة عن أي مشاركة شعبية، مما أفقده التحصين الإستراتيجي الأقوى ضد نزعات ما يسمى بالثورة المضادة؛ وقع الإسلاميون بسذاجة غريبة في فخاخ النظام القديم، فتركوا الميادين والشوارع لقوى الثورة المضادة، وكان ذلك سببًا مباشرًا، في إجهاض حركة الشارع فيما بعد.
وعندما أدركوا ذلك، كانت عقارب الساعة تتسارع بشكل مذهل، فكان رد الفعل عنيفًا، في الشارع والسياسة، وباتت كل آليات الحل لديهم تتلخص في كيفيات إيجاد مشروع بديل على عجل من أبناء الإسلاميين، بمعزل عن مكونات الشعب المصري بطوائفه كافة، وهو ما زاد من عزلتهم ولف حبل النهاية أكثر حول رقبتهم.
افتقد الإسلاميون البوصلة السياسية، وبات كل معارض لهم حتى لو كان موضوعيًا، أو معارضًا بالتوجه أو الفطرة لأفكارهم، ابنًا بارًا للسلطة المنقلبة عليهم، حسب رؤيتهم لها، وتم دس هذه الأفكار في عقول أبناء الحركات الإسلامية طوال سنوات ما بعد مرسي، فانعزلوا في خطاب، تطّرف يومًا بعد الآخر، فتكلس التيار في النهاية، وتجمدت آلياته للحل، وتضاءلت أي فرصة قد تسمح له بالمشاركة السياسية من جديد.
بمرور الوقت، انكفأ التيار الإسلامي على ذاته، وظهرت إلى الآفاق نزعات تكفيرية من ضيوف منصات إعلام الإسلاميين في المهجر، وبات هناك تساهلاً في نشر فتاوى تشرعن العنف وإراقة الدماء، والكفر بالديمقراطية، بل إن هناك من تفرغ لتسويغ أزمة الإسلاميين مع الديمقراطية بالأساس، فهي في نظره لا يمكن أن تكون سبيلاً للوصول إلى تطبيق الشريعة، وتغلب هذا التيار لفترات طويلة على أنصار السلمية، أو الذين تبنوا خيارًا ثالث، وطالبوا بإيجاد صيغة تفاهم مع النظام الحاكم.
جماعة الإخوان طوال ما بعد ثورة 25 يناير، مرورًا بتوليها دفة الحكم ثم عزلها عنه، أغلب تصرفاتها تشير إلى محاولات لا تنفض، للوصول إلى النموذج البديل على المذهب الإخواني
فيما اختار فرق أخرى من الإسلاميين، سواء بالتحول لتشويه الإخوان وأنصارهم، وإلصاق بهم كل نقيصة، عبر التحالف مع النظام الجديد، وهؤلاء من أنصار السلفية العلمية، وعلى رأسهم أنصار ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية، أو الانضام إلى كتائب المعادين لفكرة الدولة، وأصحاب المنهج الشاذ من أبناء البطون التكفيرية “تنظيم الدولة الإسلامية داعش”؛ مما أفقد الإسلاميون في النهاية القدرة على بناء مشروع سياسي واضح، يعيدهم إلى حاضنة شعبية، تكون بمثابة ضغط على النظام الحاكم، لدمج الإسلاميين في المعادلة السياسية من جديد.
طوال سنوات ما بعد عزل مرسي، عاش الإسلاميون صراعًا شرسًا على كل المستويات، قادتهم في السجون، وشبابهم في المنفي، ورغم ذلك لم تستطيع الحركة الإسلامية الخروج من مربع الصفر، وكأن مكتوب عليها دائمًا الوصول إلى طريق مسدود، والحالة المصرية في هذا ليست استثناءً، بل ضلع في أزمة الواقع الغريب للمشروع الإسلامي ورجاله، ففي كل مكان حاولوا الوصول فيه لسدة الحكم، كان هناك مصيرًا مرعبًا بانتظارهم.
الإخوان .. الرهان الصعب
ظهرت جماعة الإخوان طوال ما بعد ثورة 25 يناير، مرورًا بتوليها دفة الحكم ثم عزلها عنه، وأغلب تصرفاتها تشير إلى محاولات لا تنفض، للوصول إلى النموذج البديل على المذهب الإخواني؛ فنصوص الفعل الحركي للجماعة هي في ذاتها أصل المشكلة الكبرى، بداية من التصور الذي رسمه الإمام حسن البنا للتنظيم، بإيجابياته وسلبياته، الذي يضم مشروعًا عسكريًا، جسد قديمًا في رجال التنظيم الخاص – الحركات العقابية التي تكونت لاحقًا بعد عزل مرسي – وهذا التصور يمكن فهمه والتنظير له بدرجة موازية، لبنود المشروع المدني والحضاري الموجود أيضًا ضمن أدبيات الإخوان.
برعومي:”يقدم الإسلاميون خطابًا تركيبيًا بين الدعوة والدولة، دون البحث المعمق في إشكالياته لا من الناحية النظرية ولا من الناحية التطبيقية”
بين هذا وذاك، يبقى الأغلب الأعم في صفوف الجماعة، معلقًا بين مشروعين برأسين، لا يدري لأيهما الغلبة، بين حلم التقدم لمجتمع حضاري، وآخر يرى المجد في العودة إلى أطلال ماض، يقال دائمًا وخصوصًا من المجموعات القطبية، أنه كان الأجمل والأروع، وعليهم اتباع مذاهبة كافة .
يجسد جزء من هذه الأزمة، مقال حديث للناشط الإسلامي محمد خليل برعومي، ويتفق مع مضمون الفكرة، ويؤكد أن مرتكزات الفعل الإسلامي لا تزال على حال ما كانت عليه قبل الربيع العربي، وبرأيه يعود ذلك إلى فجئية الثورات وتسارع الأحداث، ما منع الإسلاميين وغيرهم من التمتع بلحظات تقييمية جريئة وعميقة، وهو ما يفسر أزمة الخطاب عند الإسلاميين، وإشكالية النموذج في علاقته بالدولة ثم المجتمع، كما يفسر أزمات التنظيمات والجدل القائم عن ماهيات هذه الحركات وسبل تصريفها مشروعها الحضاري والثقافي والمجتمعي.
بحسب برعومي، يقدم الإسلاميون خطابًا تركيبيًا بين الدعوة والدولة، دون البحث المعمق في إشكالياته لا من الناحية النظرية ولا من الناحية التطبيقية، وهم يؤكدون عبر ممارستهم السياسية حاجتهم لمزيد من الانفتاح على عموم الناس خاصة الكفاءات منهم والكوادر الشابة.
ما يقوله الناشط الإسلامي الشاب، تعمق فيه أيضًا خليل العناني أستاذ العلوم السياسية، الذي يرى أن سلسلة الضربات والهزائم التي تعرضت لها الحركات الإسلامية طوال مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، كانت محور نقاشات وحوارات وأسئلة كثيرة في أوساط شباب هذه الحركات نقلها عنهم.
الأحداث المتسارعة، قد تقف حتمًا عقبة كبرى، أمام إعادة النظر نسبيًا أو جذريًا في العديد من اجتهادات الفاعلين من شباب الإسلاميين تحديدًا، بخصوص التعامل مع اللعبة السياسية في مصر
يرى العناني، أن سقوط الإخوان المسلمين في مصر وقمعهم غير المسبوق، وانكسارات الثورة السورية، ومأزق حزب العدالة والتنمية التركي إقليميًا ودوليًا، وتقلص نفوذ الإسلاميين في مناطق أخرى، كتونس والأردن، وأخيرًا في المغرب بعد تراجع حزب العدالة والتنمية والقبول بإزاحة أمينه العام عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة، والاستعاضة عنه برئيس المجلس الوطني للحزب سعد الدين العثماني، والرضوخ لشرط ضم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي حصل على 20 مقعدًا فقط في الانتخابات البرلمانية التي أجريت خريف العام الماضي، ذلك كله يثير أفكارًا وخيارات وسيناريوهات عديدة، يتداولها حاليًّا شباب الإسلاميين الناشطين.
الهروب من النفق المظلم.. الشباب هو الحل
يخطئ من يتصور أن قبول الإسلاميين بأنصاف الحلول حاليًّا، وبعد كل المياه التي جرت في النهر، قد يقنع النظام السياسي المصري، بقبول حل وسط معهم وخاصة الإخوان، ودمجهم من جديد على غرار تمكينهم أيام الربيع العربي؛ بات واضحًا أن هناك حالة من التحفز لسحق كل ما هو إسلامي، سواء للضغط عليهم أو لشل حركتهم، وهي المعضلة التي تسببت في زيادة عمليات المراجعات التي يجريها شباب من مختلف الحركات الإسلامية، في المدونات والمواقع المعرفية، ويشنون حروبًا فكرية وسياسية وفقهية مع كل قرار تتخذه القيادات التاريخية.
ربما من الإنصاف القول، إن الاحداث المتسارعة، قد تقف حتمًا عقبة كبرى، أمام إعادة النظر نسبيًا أو جذريًا في العديد من اجتهادات الفاعلين من شباب الإسلاميين تحديدًا، بخصوص التعامل مع اللعبة السياسية في مصر، بعدما كشفت تطورات عزل الرئيس مرسي، عدم رسوخ مشروع الإخوان، الذي حول بعض أبنائه مساراته الفكرية والدينية والتنظيمية، إلى اتجاه الحركات الجهادية.
مستقبل كل تنظيم يتوقف على مرجعيات وتفهم قياداته للواقع وفرضياته، وأغلب القادة التاريخيين الذي يتحكمون بمفاصل التيار الإسلامي، ليس لديهم أي خطط إستراتيجية، تمكنهم وأتباعهم من مواصلة المسيرة، والتغلب على العقبات التي تعترضهم
وبغض النظر عن مساهمة الظروف السياسية، وما تبع إزاحة الرئيس محمد مرسي عن رأس هرم السلطة من مظالم، طالت عموم التيار الإسلامي، بجانب اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، إلا أنه لا يمكن لمشروع لديه ملامح وقواعد للتعامل مع الواقع، تحويل المعركة إلى الدولة ذاتها، والأحزاب، وباقي الفرقاء السياسيين، الأمر الذي أثر بالتبعية على تراجع نبرة الإصلاحيين المؤيدين لضرورة الانخراط في تدافع سياسي سلمي، مع باقي مكونات المجتمع، لصالح أطروحات عنيفة، انتهت إلى لا شيء في النهاية.
ويمكن القول إن ضعف خيارات القيادات في محنة الإخوان وأنصارهم من التيارات الإسلامية، وحالة الصدمة الكبرى للشباب، خصوصًا بعدما نزع القداسة القديمة عن الكبار، وتجاهل فرضيات مبدأ السمع والطاعة؛ السبب في فرض حوار جديد، لم يكن متاحًا من قبل بين القيادات والقواعد في الحركات الإسلامية، حيث كان مجرد أدنى نقد لقرار أو الجهر بمعارضة القيادات خطيئة كبرى، لا يمكن النقاش أو الخوض فيها، وقد يتبعها مأسٍ، تنتهى بالطرد من التنظيم للأبد.
داخل التيار الإسلامي بشكل عام لا وجود لتأصيل الأفكار أو كيفيات التطوير، فمستقبل كل تنظيم يتوقف على مرجعيات وتفهم قياداته للواقع وفرضياته، وأغلب القادة التاريخيين الذي يتحكمون بمفاصل التيار الإسلامي، ليس لديهم أي خطط إستراتيجية، تمكنهم وأتباعهم من مواصلة المسيرة والتغلب على العقبات التي تعترضهم، وهو ما يجعل الأمل في الشباب الذين بإمكانهم استغلال قدراتهم، لتحويل التيار الإسلامي إلى نموذج فاعل، قد يصبح أكثر إشراقًا لغد لا مستقبل فيه، إلا بسواعد أبناء الوطن جميعًا.