“إسرائيل” تسير على خطى الصليبيين في الأسلوب والتطلعات

ترجمة وتحرير: نون بوست

أكملتُ في تموز/يوليو 2023، ما كان من المفترض أن يصبح الطبعة الرابعة – والتحديث الثالث – لكتابي: “البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الأوسط”، وهو تاريخ للصراع العربي الإسرائيلي؛ ثم جاء السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وحدث الهياج القاتل لحماس في جنوب إسرائيل، وما أطلقه ذلك من تطورات درامية وكارثية محتملة؛ سياسية وغير سياسية.

وكان عدم إدراج هذه التطورات في تحديثي أمرًا سخيفًا، ولكن القيام بذلك كان إشكاليًا للغاية، وقررتُ عدم محاولة ذلك. ومع ذلك؛ أعتقد أن مقدمة وخاتمة الطبعة الجديدة التي تم إلغاؤها بمفردها تظل صالحة وذات صلة.

وهذه هي المقدمة والخاتمة بدون تغيير؛ باستثناء 7 كلمات إضافية – “وهي (إسرائيل) تقوم بذلك بشكل رائع في غزة الآن” – في الفقرة الأخيرة.

ملاحظة المحرر: كُتب ما يلي قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.


مقدمة

“هل سنعيش دائمًا بالسيف؟”

– ليفي أشكول؛ رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، مخاطبًا أعضاء حكومته المؤيدين للحرب في 28 أيار/مايو 1967.

“نعم”.

– رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مخاطبًا لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2015.

في أواخر الستينيات؛ طلب مني وكيل أدبي كتابًا يتحدث عن تطور جديد مهم فيما تم تصنيفه بالفعل كواحد من أطول الصراعات وأكثرها خطورة في العالم؛ وهو الصراع العربي اليهودي في الشرق الأوسط.

كان هذا التطور هو صعود حركة “المقاومة” الفلسطينية، في شكل حركة فتح بقيادة ياسر عرفات ومجموعة من المنظمات الأصغر حجمًا – والتي لا تزال بقاياها، في صور صغيرة ومحتضرة، تعمل حتى يومنا هذا -؛ حيث اعتبروا أنفسهم مقاتلين من أجل الحرية، عازمين على “العودة”، من خلال “الكفاح المسلح”، إلى وطنهم الأصلي فلسطين، فيما أطلق عليهم الإسرائيليون وصف “الإرهابيين” العازمين على “تدمير” دولتهم الوليدة.

والواقع أن “الإرهابيين” كانوا فعلا إرهابيين في كثير من أفعالهم؛ فلقد صدموا العالم بواحدة من أكثر المغامرات الإرهابية إثارة ووضوحًا على الإطلاق، وهي عملية احتجاز الرهائن وقتل 11 رياضيًّا إسرائيليًّا في دورة الألعاب الأوليمبية في ميونيخ عام 1972، وهو ما عزز العقيدة الغربية المهيمنة على مستوى العالم تقريبًا، وهي: أن الإسرائيليين في هذا الصراع هم الصالحون، وأن الفلسطينيين والعرب هم الأشرار.

كان “عنفهم” هو عنواني الفرعي، ولكن جذوره تكمن في عنف الجانب الآخر.

لقد جعلني سرد كل هذه القصص عن العنف أذهب إلى بداياته الخافتة الأولى التي كانت تنذر بكارثة في ثمانينيات القرن التاسع عشر؛ مرورًا بالمواجهات المتصاعدة بشكل مطرد بين الفلاحين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود الوافدين حديثَا في أوائل القرن العشرين، ثم الهجمات بين الطوائف في عشرينيات القرن العشرين، والحملات الإرهابية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين التي وضعت العرب ضد اليهود – ولكن بشكل أكبر بكثير وضعت اليهود ضد العرب وسلطات الانتداب البريطاني – وطرد الجزء الأكبر من السكان الفلسطينيين في عامي 1947 و1948، إلى الأحداث المزلزلة المتسلسلة التي نجمت عن أربع حروب عربية إسرائيلية شاملة في أول 25 عامًا من وجود إسرائيل.

التحديث الأول: 1976-1983

شهدت هذه الفترة – الممتدة لسبع سنوات – أول اتفاقية سلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل ومصر – جارتها الأقوى – في عام 1979؛ تلاها غزو إسرائيل للبنان – أضعف الدول العربية – في عام 1982، وطرد مقاتلي عرفات منه.

وفي نفس الفترة؛ حدث ما أصبح يُعرف فيما بعد ببساطة في الشرق الأوسط ــ مثل مذابح بيرغن بيلسن أو بابي يار في أوروبا ــ “صبرا وشاتيلا”، وهي مذبحة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الكتائب، وهي ميليشيا مسيحية لبنانية، تحت سيطرة إسرائيل وجيشها، بحق النساء والأطفال والرجال الأكبر سنًّا الذين تركهم مقاتلو المقاومة المغادرون وراءهم – بلا دفاع على الإطلاق – في مخيمات اللاجئين التي تحمل الاسم نفسه في بيروت.

التحديث الثاني: 1984-2002

شملت تلك الفترة الانتفاضة الأولى غير العنيفة التي شنها سكان الضفة الغربية وغزة المحتلتَيْن من قبل إسرائيل، والتي أمر إسحاق رابين – الذي سيصبح رئيسًا للوزراء في الفترة 1992-1995 – جيشه بقمعها عن طريق “كسر عظامهم“؛ بحضور المسعفين لضمان عدم إلحاق أي ضرر “لا رجعة فيه” أثناء الكسر.

وتضمنت هذه الفترة أيضًا تعهد وتوبة عرفات العلنييْن بـ”نبذ الإرهاب”، والذي لم يضاهيه أي ميل إسرائيلي متبادل، ناهيك عن التعهد، بتقليص العنف “الدفاعي” غير المتناسب إلى حد كبير.

بالإضافة إلى ذلك؛ شملت هذه الفترة اتفاقيات أوسلو، الاختراق الدبلوماسي الذي كان من المفترض أن يؤدي، من خلال الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة، إلى “حل الدولتين” كحل نهائي للصراع، ولكن هذا لم يحدث قط – أو لم يكن ليحدث = حيث لجأ المستوطنون إلى العنف والإرهاب ضد الإسرائيليين الآخرين – فضلًا عن الفلسطينيين – المحتجين وإحباطهم، ومن بين هؤلاء قاتل رابين، الذي اعتُبر “خائنًا” بتوقيعه على أوسلو، وآخر هو الطبيب الإسرائيلي الأمريكي باروخ جولدشتاين، الذي أطلق النار على 29 من المصلين المسلمين في الحرم الإبراهيمي في الخليل وأرداهم قتلى. ولم يكن التبجيل الإسرائيلي لجولدشتاين، في اتساعه وكثافته على مستوى البلاد، أقل من التبجيل الذي كان يضفيه الفلسطينيون عادة على هؤلاء الإرهابيين و”الشهداء”.

وشهدت هذه الفترة أيضًا صعود حماس، المنافس الإسلامي لحركة فتح التي أصبحت الآن غير عنيفة، والموجة الأولى من التفجيرات الانتحارية التي أصبحت تخصص حماس المروع؛ واندلاع الانتفاضة الثانية العنيفة، التي سعى الجنرال أرييل شارون، الذي يجسد العنف الإسرائيلي المتطرف، إلى استفزازها عمدًا حتى يتمكن من سحقها تمامًا، وفي هذه العملية تم تخريب أي احتمال للسلام كانت قد قدمته اتفاقيات أوسلو.

التحديث الثالث: 2003-2023

لقد بدأ هذا التحديث بـ”سابقة” مذهلة في تاريخ العنف الإسرائيلي: وهي جعل الآخرين يديرونها؛ حيث شعرت إسرائيل أنها غير قادرة على القيام بذلك بنفسها، وقد كان هذا الحدث هو حرب العراق.

ورغم أنه لم يشارك فيها أي جندي إسرائيلي؛ ولكن في آذار/مارس 2003، قامت الولايات المتحدة (وحليفتها بريطانيا) بغزو واحتلال تلك الأرض العربية القديمة، وذلك من أجل الإطاحة بالنظام الذي كان قائمًا وإقامة نظام بديل جديدٍ بالكامل؛ يفترض أنه صديق لأمريكا وربما لإسرائيل.

ولعل هذا كان المثال الأكثر غرابة حتى الآن على الدعم التاريخي = والذي اقترب أن يكون استعبادًا – الذي قدمته واشنطن لإسرائيل، وهو الدعم الذي يعترف به الإسرائيليون أنفسهم باعتباره أحد الركيزتين اللازمتين لوجود بلادهم وبقائها ومصيرها الذي لا يزال يتكشف في بيئة الشرق الأوسط المعادية التي صنعتها بنفسها. وكانت الركيزة الأخرى = بالطبع = هي الذراع اليمنى القوية لإسرائيل؛ وهي الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب.

لقد كانت حرب العراق كارثية – بدرجات متفاوتة – بالنسبة لجميع المشاركين فيها، ولكن ليس بالنسبة لإسرائيل؛ التي كانت تستمتع بتحطيم دولة عربية قوية ومعادية. ولم تكن كارثية أيضًا بالنسبة لإيران، العدو الآخر والأكثر قوة، من بين أعداء إسرائيل “البعيدين”. ولقد تآمرت إسرائيل في ذلك الوقت – ولسنوات قادمة – لضمان ذهاب الولايات المتحدة إلى الحرب ضد إيران أيضًا؛ إذا اقتربت من امتلاك أسلحة نووية من شأنها أن تشكل تحديًا لترسانة إسرائيل الضخمة من الأسلحة النووية، والتي ليست أقل خرقًا للقانون أو خبثًا من تلك الإيرانية.

أما بالنسبة لأعداء إسرائيل الآخرين “القريبين”؛ فقد واجه واحد من أقوى جيوش العالم على مدى السنوات العشرين التالية قدرًا كبيرًا من المتاعب في التعامل مع هؤلاء الأعداء. وكان هؤلاء الأعداء يتألفون من مجموعة من الجهات الفاعلة غير الرسمية – ولا سيما حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني المدعوم من إيران – والتي تبنت “المقاومة” ضد الدخيل الصهيوني الذي تخلت عنه الآن كل الدول العربية، وحتى حركة فتح التي يتزعمها عرفات.

فبالإضافة إلى حرب “كبيرة” ضد حزب الله في عام 2006؛ شنت إسرائيل سلسلة لا نهاية لها من الحروب “الصغيرة” المفترضة على غزة، معقل حماس، والتي أطلقوا عليهم اسم “جز العشب” أو “قص العشب”، وكأن الحرب مهمة روتينية لا تنتهي أبدًا. وهذا أمر بديهي بالنسبة لأمة “ستعيش إلى الأبد بالسيف”، على الأقل وفقًا لأطول رئيس وزراء في تاريخها؛ نتنياهو

إن أولئك الذين يفعلون ذلك هم – كما يقول – عرضة للموت به. ومن المؤكد أن أسلاف الإسرائيليين في القرن الحادي عشر، الصليبيون؛ قد فعلوا ذلك. إن التشابه بين تلك المغامرة الملحمية للمسيحية في العصور الوسطى والمغامرة الصهيونية اليوم لا مفر منه؛ ليس فقط لتشابه كل منهما في الطبيعة الأساسية والأهداف ووسائل تنفذيها، ولكن أيضًا في الطرق التي تطورت بها صراعاتهم مع دول وشعوب المنطقة.

“القلق الصليبي”

يرفض الإسرائيليون بشكل عام – وبسخط – التهمة الشائعة في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي بأنهم صليبيو عصرنا، لكنهم يفعلون ذلك بشكل أساسي على أسس أخلاقية فقط: فقضيتهم، وهي عودة شعب منفيٍّ ومضطهد إلى وطنه التاريخي؛ لا تقبل ببساطة أي مقارنة مع الفتوحات الإمبريالية لمحاربي الكنيسة في العصور الوسطى.

ولكن لأسباب واضحة؛ فإن الإسرائيليين يهتمون بالحملات الصليبية اهتمامًا خاصًّا للغاية، وقد أصبحت بلادهم مركزًا مهمًّا للدراسات الصليبية. وما يسميه الباحث ديفيد أوهانا “القلق الصليبي” – أو “الخوف المؤلم الخفي” من أن “المشروع الصهيوني” قد “ينتهي إلى الدمار” الكامل مثلما حدث مع مشروع أسلافهم المسيحيين – أصبح جزءًا لا يتجزأ من النفسية الإسرائيلية، أو على الأقل من أولئك الذين يدركون هذه التشابهات التاريخية الحاسمة. ويشير أوهانا إلى أن احتمال امتلاك إيران لقنبلة نووية لا يساعد بأي طريقة في تهدئة مثل هذه المخاوف.

ومن بين أوجه التشابه؛ هذه الأهمية الأساسية – سواء بالنسبة للصليبيين أو الصهاينة – لهذين العاملين الرئيسيين المذكورين أعلاه: البراعة العسكرية ودعم القوى الأجنبية.

نقش صليبي باللغة العربية، عُثر عليه في تل أبيب، يحمل اسم فريدريك الثاني “ملك القدس”، ويعود تاريخه إلى عام 1229.

بالنسبة للصليبيين؛ فعلى مدار 192 عامًا من وجودهم في الأرض المقدسة، كان الدعم يأتي في الأساس في هيئة إمدادات – لا تنضب على ما يبدو – من الصليبيين الجدد بقيادة الملوك والأمراء والبارونات العظماء في أوروبا الإقطاعية. أما بالنسبة للصهيونية؛فقد جاء بشكل رئيسي من الهبات التي أغدقتها عليها القوة الأمريكية العظمى – من الأسلحة الوفيرة والمساعدات السنوية التي تبلغ حوالي ثلث ما تقدمه واشنطن للعالم أجمع – والدبلوماسية المنحازة بشكل مبالغ فيه. ولقد كان التراجع في هذا الأخير [الدبلوماسية] –  وليس أي فقدان للبراعة العسكرية – هو ما حدث للصليبيين في النهاية؛ وقد يكون الأمر نفسه يحدث بالنسبة للإسرائيليين.

ولكن من المفارقات – وعلى عكس الصليبيين تمامًا – فإن العنف الذي يمارسه الإسرائيليون هو بالضبط ما سيؤدي إلى هذا الانحطاط أكثر من أي شيء آخر. فكلما قام الجيش الإسرائيلي – على سبيل المثال – ”بقطع العشب“ في غزة، فإن ذلك يثير الاشمئزاز في جميع أنحاء العالم؛ حول ما الذي يتكون منه هذا العشب في الغالب، والذي لم يكن أبدًا “إرهابيين” فلسطينيين؛ بل رجال ونساء غير مقاتلين – وقبل كل شيء – من أطفال؛ مدفونين تحت منازل تحولت إلى أنقاض.

وهذا العنف ليس سوى أكثر الأمور إثارة للصدمة بين الحين والآخر؛ ولكن هناك مجموعة من الأمور الأخرى التي تشكك على نحو متزايد في سلامة الدولة اليهودية وشرعيتها ذاتها.


الخاتمة

“لن تُمَسَّ شعرةٌ من رؤوسهم”؛ هكذا تحدث حاييم وايزمان، رجل الدولة العظيم في بدايات الصهيونية، بعد انتصاره الدبلوماسي؛ وهو إعلان بلفور، الذي استخلصه من حكومة بريطانيا العظمى في زمن الحرب في تشرين الثاني/نوفمبر 1917؛ حيث كان في ذهنه السكان العرب في فلسطين، الذين كان من المقرر أن يُنشَأ على أراضيهم “الوطن القومي للشعب اليهودي” دون “المساس” بهذه “المجتمعات غير اليهودية”، وكان “متأكدًا”، كما قال لاحقًا، “أن العالم سيحكم على الدولة اليهودية بما ستفعله مع العرب”.

ولكن من اللافت للنظر أنه لم يحاول – في خطابه أمام مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب عام 1919 – أن يشرح كيف يمكن أن يتحقق جعل فلسطين “يهودية كما هي إنجليزية” – بحسب ما وصف به المشروع الصهيوني – دون أن يؤذي شعرة من رأس أحد.

لم يكن أحد أشهر الحاضرين في المؤتمر، والأكثر تأهيلًا من غيره من الحاضرين في المؤتمر، ليصاب بالإعجاب لو كان قد قدم وايزمان هذا الشرح؛ فالكولونيل تي إي لورنس، المعروف بلورنس العرب، كان قد استنتج بالفعل، عند لقائه بوايزمان شخصيًّا، أن ما كان يسعى إليه حقًّا هو “فلسطين يهودية بالكامل” في غضون 50 عامًا، وهو ما كان سيحصل عليه وايزمان بالفعل في غضون 30 عامًا فقط، وذلك بسبب الهولوكوست.

من المحتم، إذًا، أن أي تأريخ موضوعي للصهيونية لا يمكن أن يكون إلا تأريخًا للضرر الكبير جدًّا الذي كان سيقع – كما فعل الصليبيون بالضبط تقريبًا – ليس فقط على سكان فلسطين، بل على شعوب ودول أخرى في المنطقة.

ولكن كما حدث، وخلافًا لتوقعات وايزمان، فإن العالم لم “يحكم” على إسرائيل، ناهيك عن توبيخها – أو لم تقم بذلك أيٌّ من تلك الأطراف – أي الولايات المتحدة والغرب بشكل أساسي – التي كان حكمها مهمًا.

الخطيئة الأصلية

لننظر إلى أول أعمال إسرائيل المصيرية في تكوينها والشبيهة بالحملات الصليبية الفظيعة؛ أي “خطيئتها الأصلية” التي تدين بوجودها ذاته لها.

في عام 1099، نشأت مملكة القدس المسيحية على أنقاض واحدة من “أكبر جرائم التاريخ“، وهي المذبحة التي حدثت لجميع سكان المدينة المقدسة من المسلمين واليهود. وبعد ذلك بثمانية قرون ونصف؛ في عامي 1947-1948؛ وُلِدَتْ إسرائيل من رحم “جريمة ضد الإنسانية” مماثلة، أو على الأقل؛ لو كانت مادة القانون الدولي المتعلقة بهذه الجريمة سارية المفعول في ذلك الوقت، ولو كان هناك من يملك الإرادة للتذرع بها، لكان من المؤكد أن هذا ما كانت ستمثله النكبة الفلسطينية، أو التطهير العرقي والطرد بالقوة والإرهاب والكثير من الفظائع التي ارتكبت بحق “المجتمعات غير اليهودية”؛ حيث ستكون بمثابة “جريمة ضد الإنسانية”.

لم تكن هناك مثل هذه الإرادة، لا من جانب الشعوب الغربية، ولا من جانب حكوماتها، وعلى الأقل من جانب واشنطن. ففي الولايات المتحدة كانت المشاعر المؤيدة لليهود/إسرائيل في أعلى مستوياتها، وسط احتفال واسع النطاق بـ”الحلم النبيل” (كما أسماه أبراهام لينكولن ذات مرة) الذي تحقق.

وهناك أيضًا، كان السياسيون – والصحفيون والأكاديميون – يخاطرون بالغضب العقابي الذي كان يهدد حياتهم المهنية أحيانًا من مؤسسة مريبة بالفعل، وهي اللوبي الإسرائيلي، إذا ما ابتعدوا كثيرًا عن هذه الأرثوذكسية الاحتفالية. وكانت دوروثي تومسون، التي ربما كانت أشهر الصحفيين الأمريكيين في عصرها وأكثرهم إثارة للإعجاب، واحدة ممن فعلوا ذلك، وقد عوقبوا جميعًا بسبب ذلك؛ حيث وصفت الدولة الوليدة بأنها “وصفة للحرب الدائمة”.

وهكذا، على غرار ما فعله الصليبيون؛ كان لا بد من إثبات ذلك، فقد أمضت فروسية العالم المسيحي في العصور الوسطى 192 عامًا في معركة مستمرة تقريبًا مع هذه المملكة أو تلك من ممالك أو سلطنات الشرق الأوسط العربي الإسلامي – التي كانت في ذلك الوقت متشظية ومجزأة داخليًا كما هي اليوم – حتى انتهى بهم الأمر بفقدان الدعم الغربي إلى أن ألقوا في البحر حرفيًا.

وقد دأب الإسرائيليون على ذلك، على نحو مشابه تمامًا، منذ 75 عامًا حتى الآن، في ما تعرّفه عقيدتهم العسكرية الرسمية بـ”الحروب” و”الحملات بين الحروب”.

الفتح والتوسع

في البداية – بالنسبة للصليبيين والإسرائيليين على حد سواء – كانت هذه الحروب في معظمها حروبًا لمزيد من الغزو والتوسع الإقليمي.

ولم يكد بالدوين دي بويون يتوج كأول ملك للقدس في يوم عيد الميلاد عام 1100؛ حتى شرع في توسيع مملكته الصغيرة، وقد شمل ذلك في نهاية المطاف كل ما يعرف الآن بفلسطين، وأجزاء من سوريا والأردن ولبنان أيضًا. وقد أحاط نفسه بتحصينات حدودية هائلة ومستوطنات زراعية عسكرية هائلة، وهي تشبه مظاهر “أسوار” إسرائيل الحدودية العظيمة ومستوطناتها الزراعية والمقاتلة.

وكما كان ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، عازمًا على التوسع أيضًا، وهو ما كان يجب أن يتم، كما قال ذات مرة، ليس عن طريق “الوعظ الأخلاقي” أو “المواعظ على الجبل”، بل عن طريق “المدافع الرشاشة التي سنحتاجها”.

ولكن على عكس أسلافه في القرون الوسطى – الأبرياء من أي مجاملات مثل قواعد وأخلاقيات الحرب – لم يكن بإمكانه غزو واحتلال بلد مجاور كما يشاء، فقد كانت دولته في النهاية دولة “محبة للسلام”، والتي كانت قد ضمنت للتو انضمامها المثير للجدل إلى الأمم المتحدة على أساس تعهد رسمي بهذا الشأن.

كما أن مثل هذا العمل لم يكن ليليق بالدولة الأخلاقية والديمقراطية العليا، و”نور الأمم”، التي قال للعالم إنه يبنيها؛ والتي كان الكثير من هذا العالم، ولا سيما الليبراليون واليسار فيه، قد أخذها بالفعل في قلبه، بسبب – من بين أمور أخرى – مُثُلها الاشتراكية “الملهمة” والمستطونات التي كانت في صميمها.

كان بن غوريون وخلفاؤه يتوقون إلى أن يهاجمهم الآخرون. وفي الوقت نفسه؛ كل ما كان بوسعهم فعله هو انتظار – أو السعي إلى صناعة – الفرص لمهاجمة هؤلاء الآخرين أولًا، وهي فرص، والأهم من ذلك، كانت تمكنهم من القيام بذلك تحت ستار “الدفاع المشروع عن النفس”.

وأخيرًا حانت الفرصة المثالية في حزيران/يونيو 1967؛ عندما بدأت الجيوش العربية تتداعى على إسرائيل ردًا على الاستهزاء والاستفزازات من جانبها، وسط صخب أحمق ومخيف من الخطابات العدائية. للحظة؛ ارتجف العالم للحظة من أجل إسرائيل: هل كانت إسرائيل ستصبح موقعًا لمحرقة ثانية في غضون 25 عامًا من المحرقة الأولى؟

مستحيل بالطبع؛ وكما كان متوقعًا – ومعدًّا له منذ فترة طويلة – فقد قام الجنرال الشهير الأعور موشيه ديان وتلاميذ المعلم بن غوريون الآخرين بتحقيق ذلك على الفور. وفي حرب الأيام الستة في حزيران/يونيو 1967؛ حققوا بضربة واحدة الأهداف الإقليمية والإستراتيجية المتطابقة تقريبًا التي استغرق الملك بالدوين 20 عامًا لتحقيقها قبل ثمانية قرون؛ إضافة إلى احتلال سيناء بأكملها. كما أنهم عجلوا بنكبة مصغرة وموجة كبيرة أخرى من اللاجئين الفلسطينيين.

لم يحاسب العالم إسرائيل على ذلك أيضًا. بل على العكس من ذلك، فقد رفعتها، كـ”محبوبة الغرب“، إلى مستويات غير مسبوقة من الهيبة والشعبية.

الحكم على المشروع الصهيوني

وبهذا – على غرار ما حدث مع الصليبين مرة أخرى – وجد الإسرائيليون أنفسهم يحكمون سكانًا أصليين، يتألفون من أولئك الذين لم يقتلوهم أو يطردوهم، والذين هم تقريبًا بنفس عددهم.

ونادرًا ما يُغفل مؤرخو الحروب الصليبية الاستشهاد بالرحالة المسلم ابن جبير، الذي عاش في القرن الثاني عشر، ووصفه لمجتمع مسلم “يندب ظلم مالك عقار من نفس دينه، ويثني على سلوك خصمه وعدوه، مالك عقار الفرنجي، ويألف العدل منه”.

ولأن شهادته ربما تعتبر من الأدلة المتبقية الأكثر مصداقية التي تشير إلى أنه – رغم همجيتهم في المعركة – لم يكن الصليبيون ربما سيئين جدًا في الحكم، أو على الأقل ليس فيما يتعلق بالأعراف الصارمة في ذلك الوقت.

فهل كان يمكن قول الشيء نفسه، أو ما هو أفضل، عن الإسرائيليين فيما يتعلق بالغزو والاحتلال الحاليين للضفة الغربية وقطاع غزة؟ بالحديث الموضوعي، لم يكن ذلك ممكنًا – ورغم ذلك فقد كان يُقال ذلك بشكل عام. فقد زعم الإسرائيليون أن احتلالهم “أكثر احتلال إنساني في التاريخ“، ولم يكن العالم الذي لا يزال شغوفًا بهم مستعدًا للتشكيك في ذلك.

فمتى حدث الأمر الذي يمكن وصفه بدقة بأنه “الحكم” الأول – والمثير للإدانة حقًا – على المشروع الصهيوني الذي طالما احتضنته دون نقد؟ لأنه قد حدث بالفعل، كما تنبأ وايزمان، على الرغم من أنه حدث بعد عدة عقود من نبوءته.

وقد جاء ذلك، بشكل مناسب بما فيه الكفاية، في سياق الميزة الأكثر تميزًا في الصراع ذات الطابع الصليبي: عنفه الدائم.

إن الترويج لعنفها في مقابل عنف الفلسطينيين على أنه بمثابة الخير في مقابل الشر المطلق؛ لطالما جلب لإسرائيل رصيدًا إضافيًا معينًا في نظر الرأي العام الغربي المنجذب بالفعل لصالحها.

فقد كان “الإرهابيون” الفلسطينيون ببساطة “متعصبين قتلة يهدفون إلى قتل اليهود”. إن جيش إسرائيل ـ الذي أصبح فيما بعد يطلق على نفسه اسم “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” – يفوق اهتمامه الجميع الآخرين في الاهتمام بحياة المدنيين الأبرياء.

ولكن خلال غزوها للبنان سنة 1982؛ مزقت تلك الثقة المهتزة بالفعل تمزيقًا لا رجعة فيه عندما أطلق شارون، بصفته وزيرًا للدفاع، العنان للميليشيا المسيحية في البلاد على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا. فهو لم يكن يعلم تمامًا ما ستفعله هناك فحسب؛ بل أيضا رفض توسلات الدبلوماسيين الأمريكيين الذين كانوا يعرفون ذلك أيضا بشكل واضح لوقفها حتى تنتهي مهمة الإبادة الجماعية.

خيبة الأمل الغربية

كان العالم بأسره تقريبًا قد تفاعل بدرجات متفاوتة مع الصدمة، أو بدرجات متفاوتة من الأسى والحزن الذي أبداه أستاذ إسرائيلي يبلغ من العمر 80 سنة، والذي استشف على الفور أن ما حدث هناك هو نسخة كربونية من مذبحة بابي يار، الغيتو الذي “أرسل النازيون المتعاونين الأوكرانيين إليه لذبح اليهود”. وقال مراسل صحيفة “جيروزاليم بوست” في واشنطن إن إسرائيل لم تلحق الضرر بنفسها أكثر مما ألحقته بالولايات المتحدة، صديقتها وحليفتها وراعيها الاستثنائي.

كانت صبرا وشاتيلا، وكل المغامرة العسكرية في لبنان – التي تعتبر فيتنام إسرائيل، والتي كانت صبرا وشاتيلا ذروتها الشنيعة – أول علامة كبيرة تشير إلى ما كان سيصبح عملية طويلة وبطيئة من خيبة الأمل الغربية بشأن مفهوم “إسرائيل الجميلة” التي كانت في الماضي.

وكان من شأن ذلك في النهاية أن يعرّض إسرائيل للخطر بنفس الطريقة التي عرّضت بها عملية مماثلة عبر العالم المسيحي في العصور الوسطى مملكة القدس المسيحية للخطر؛ والتي سقطت في النهاية.

كانت البابوية، التي كانت تعتبر الأقرب إلى القوة العظمى في ذلك الوقت، قد بشرت أولًا بالحرب المقدسة لتحرير الأرض المقدسة من حكم المسلمين الكفار، ثم على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان، رعت أو ألهمت العديد من الحملات لتحقيق هذه الغاية.

وعلى الرغم من أن الصهيونية كانت ذاتية المنشأ، على عكس الحروب الصليبية، إلا أن القوى العظمى في ذلك الوقت، وأولها بريطانيا ثم الولايات المتحدة، كان لها الدور الرئيسي في تمكين الصهيونية من زرعها على أرض الغير، إلى جانب نموها ونضجها واستمرارها في البقاء في بيئة معادية من صنعها؛ وصنعهم.

لم يكن ضجر البابوية من المشروع المسيحاني – في النهاية – يعود لأسباب أخلاقية أو غضب أو ندم على تصرفات “جنود المسيح” التي لا تشبه تعاليم المسيح على الإطلاق؛ حيث يبدو أنها لم تكن منزعجة كثيرًا، إن حدث، من فظائعهم الكبرى الأولى، وهي الإبادة الجماعية التي حدثن في القدس، ولا من الفظائع الأصغر اللاحقة؛ مثل الإعدام الجماعي الذي نفذه ريتشارد قلب الأسد لنحو 2700 أسير حرب مسلم. لقد كانت ببساطة تحول انتباهها إلى مشاغل جديدة وأكثر إلحاحًا بالقرب من الوطن.

من الصعب على العالم في القرن العشرين، بـ”قيمه” الخاصة بالقرن العشرين، ألا أن يكون قد انزعج بصراحة من الأمور المماثلة – وإن لم تكن بنفس القسوة – التي قام بها خلفاء الصليبيين في القرن العشرين، وما زالوا يمارسونها سعيًا وراء حلمهم المماثل له تمامًا.

إن إسرائيل لا تزال إسرائيل تتمتع بمشاعر الاحترام والإخلاص والاهتمام – سواء كانت حقيقية أو مفترضة – في العديد من الأوساط، وخصوصًا الحكومية والرسمية. ولكن في العديد من الأوساط الأخرى، وفي المجتمع بشكل عام، كانت هذه المشاعر تتلاشى تدريجيًا لتحل محلها مشاعر معاكسة: مثل الانتقاد والتوبيخ أو الإدانة الصريحة، والدعوات لاتخاذ إجراءات عقابية مثل العقوبات وحظر الأسلحة والمقاطعة الاقتصادية التي أسقطت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

العيش بالسيف

وضع الإسرائيليون كل ذلك تحت عنوان “نزع الشرعية”. وبالنسبة لهم؛ فإن نزع الشرعية يرقى في نهاية المطاف إلى تهديد وجودي، وهو تهديد لا يقل خطورة، وفقًا لنتنياهو، عن إيران المسلحة نوويًا أو صواريخ حماس وحزب الله.

لماذا؟ لأنه إذا كانت إسرائيل دولة محكوم عليها دائما بالعيش على حد السيف، كما قال نتنياهو، فلا يمكنها تشكيل هذا السيف وصيانته وتوظيفه بفعالية دون دعم ونوايا حسنة من واشنطن والغرب، أكثر مما كان بإمكان الصليبيين أن يفعلوا دون دعم البابوية والمسيحية في العصور الوسطى.

وبذلك كانت الولايات المتحدة ملزمة، بموجب القانون، بإبقائها مزودة بشكل مستمر بكل “الوسائل العسكرية المتفوقة” الممكنة لـ “هزيمة أي.. تهديد عسكري من أي دولة منفردة أو تحالف محتمل للدول”.

لم تكن الأسلحة في حد ذاتها سوى أحد الأشياء التي اعتمدت فيها إسرائيل على أمريكا، أما الاستخدامات التي استخدمت إسرائيل فيها هذه الأسلحة، والتي مهما كانت غير مشروعة في النية أو إجرامية في التنفيذ، فيمكن الاعتماد على الولايات المتحدة دائمًا لدعمها أو التغاضي عنها.

وهكذا، وبصورة آلية وتلقائية، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار – والتي وصلت للعشرات على مر السنين ولو بشكل معتدل – ضد إسرائيل في الأمم المتحدة، وهي الهيئة التي كانت تدين لها إسرائيل بوجودها إلى حد كبير، ومعها بالطبع “الشرعية” التي تتأسف الآن بأن العالم يسعى إلى حرمانها منها.

ولا شك في أنها ستستمر في القيام بذلك، وبكثافة متزايدة باستمرار، وذلك في كل مرة يقوم فيها “الجيش الأكثر أخلاقية في العالم” بدفن النساء والأطفال – أحيانًا إلى جانب “إرهابي” حقيقي أو اثنين – تحت المنازل في غزة. أو يزداد الضغط أيضًا في كل مرة يدلي فيها سياسي أو حاخام بارز بتصريحات عنصرية أو دموية مثيرة للدهشة أو مخيفة عن العرب أو الفلسطينيين، وفي كل مرة يشرع فيها المستوطنون المتدينون في تنفيذ “مذبحة” أو حملة لاقتلاع أشجار الزيتون أو محاولة حرق بلدة عربية بأكملها، وهم يصلون أثناء قيامهم بذلك.

متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يسيرون ومعهم مجسم من الورق المقوى يصور الرئيس الأمريكي جو بايدن في إسطنبول في 1 حزيران/ يونيو 2024

في الواقع؛ في كل مرة يصعد فيها بعض المتدينين أو القوميين المتطرفين إلى الحرم الشريف، موقع المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ويقدمون تلميحًا مثيرًا للجدل أو اثنين حول إحياء معبد يهودي قديم في مكانهم. وفي كل مرة تحدث فيها مثل هذه الأمور، ويسمع العالم عنها؛ كانت “الدولة اليهودية والديمقراطية” تنزع الشرعية عن نفسها قليلًا.

ومن الواضح أن حلفاءها الأكثر صراحة بدأوا يحذرونها من أن “حبيبة الغرب” – التي كانت عليه إسرائيل ذات يوم – تخاطر بالتحول إلى “منبوذة”، مثل عدوتها اللدودة، جمهورية إيران الإسلامية.

“القيم المشتركة”

في ظل استثناءات ملحوظة؛ كانت هذه هي الطريقة التي صمدت بها الأمور مع الكثير من الجمهور الغربي في مطلع عشرينات القرن الجاري. وكان هذا مثيرًا للقلق، ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال أن تصغي الحكومات الغربية، باعتبارها حكومات ديمقراطية، إلى جماهيرها، عاجلاً أم آجلاً، وتعمل على استرضائهم.

صحيح أنه لم تكن هناك حتى الآن الكثير من العلامات التحذيرية التي تشير إلى ذلك، ولا شيء تقريبًا على الإطلاق من العلامات الأمريكية المهمة للغاية. في الواقع؛ لم يقتصر الأمر على عدم تأثرها بـ “نزع الشرعية”، بل انضمت الإدارات المتعاقبة إلى إسرائيل في حربها ضدها.

وحتى تموز/ يوليو 2022، ومن القدس نفسها، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن رسميًا بـ “مكافحة كل الجهود الرامية إلى نزع الشرعية عن إسرائيل”، بالنظر إلى “القيم المشتركة” بين البلدين و”التزامهما الثابت بالديمقراطية”.

إن إمكانية وصف إسرائيل بأنها ديمقراطية بشكل مطلق كان أمرًا قابل للنقاش. فعادة ما تشمل الديمقراطية الحقيقية جميع سكان الإقليم الذي تتألف منه الدولة، أو – كما في هذه الحالة – التي تطالب بها.

لكن “ديمقراطية” إسرائيل لم تمتد بأي حال من الأحوال إلى تلك الغالبية العظمى من الفلسطينيين، سكان الأراضي المحتلة، التي حكمتها لأكثر من نصف قرن، في حين مارست التمييز ضد الأقلية منهم الذين كانوا من سكان إسرائيل لس حد ذاتها.

تخيل إذًا ما يجب، أو كان ينبغي بالتأكيد، أن يسبب الإحراج والذعر في واشنطن، عندما شرع نتنياهو، بعد أشهر قليلة من إعلان بايدن بشأن القدس، في برنامج من “الإصلاحات القضائية” من شأنه أن يزيد من تقويض تلك الديمقراطية المشكوك فيها بالفعل، أو يدمرها تماما.

صحيح أن هذه “القيم المشتركة” المفترضة لم تكن السبب الحقيقي، أو على الأقل السبب الرئيسي، وراء انغماس واشنطن اللامحدود في “دولتها المفضلة”. لقد كان أولئك – كما عبرت عنهم بإيجاز إلهان عمر، الشابة المسلمة المتمردة وعضوة الكونغرس الصومالية المولد عن ولاية مينيسوتا – “أتباع بنيامين، يا عزيزي“.

كانت إلهان عمر تشير إلى الورقة النقدية من فئة 100 دولار، والتي تحمل صورة بنجامين فرانكلين، أحد “الآباء المؤسسين” للولايات المتحدة – فالدولار هو “العملة” الرئيسية، بالمعنى الحرفي والمجازي، التي أغدقها اللوبي وأصدقاؤه الأثرياء على إغواء واشنطن العظيمة والجيدة لصالح إسرائيل.

وأيًّا كان السبب، فقد أحدث فرقًا بسيطًا. وكان الأمر الاستثنائي هو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، في ظل نوبة تدمير الديمقراطية هذه، كان فعليًّا يجرد رئيسًا أمريكيًّا من آخر ما تبقى له من مبرر مبدئي ظاهريًّا لتاريخ بلاده، ولكن – كما يراها العرب والفلسطينيون بشكل غير معقول – من الواضح أن هذا الانحياز غير المبدئي والمفيد سياسيًّا كان لصالح إسرائيل.

وفي كل الأحوال؛ سواء كانت إسرائيل لا تزال دولة ديمقراطية من نوع ما أم لا، فإن هذا لا يشكل أهمية تذكر في مقابل ما كانت عليه، على نحو آخر، أو في الطريق إلى أن تصبح كذلك.

“جنود الله”

لقد كانت حكومة عرقية، شرعت منذ فترة طويلة في شكل من أشكال الفصل العنصري، وفق وصف زوار من جنوب أفريقيا، مثل رئيس الأساقفة الراحل ديزموند توتو، بطل مناهضة الفصل العنصري، والذي قال”: “أوجه التشابه مع جنوب أفريقيا الحبيبة.. صارخ بشكل مؤلم في الواقع”. وهو الأمر الذي كان سيئًا، إن لم يكن أسوأ مما كان عليه من قبل.

لقد كانت إسرائيل تتبنى تدريجيًّا سمات الثيوقراطية، حيث اكتسب الحاخامات، الذين كانوا غالبًا من النوع الأكثر تعصبًا ورجعية، نفوذًا كبيرًا في شؤون الأمة لدرجة أنها، في نظر العلمانيين القلقين الذين يشيرون حاليا  إلى هذه العملية باسم “إيرانة” “في إسرائيل،  بدأت تبدو وكأنها نسخة يهودية من عالم آيات الله.

لقد كانت دولة ومجتمعًا رهينتين لوحش من صنعهم الخاص – أي المستوطنون المتدينون – والذي يمثل تجسيدات جامحة وغريبة للاندماج بين قومية “الدم والتربة” في القرن التاسع عشر والتي انغمس فيها أسلافهم العلمانيون، والمسيحانية اليهودية المتشددة الجديدة الخاصة بهم، والتي ربما يتطلب الأمر حربًا أهلية لكبح جماحها.

وفي تدينها العميق؛ أصبحت الدولة تبدو أكثر فأكثر أشبه بالصليبيين أنفسهم، حيث لم تتبعهم في الأسلوب فحسب ـ الحرب الدائمة ـ بل في الطموحات أيضًا، مع وجود شيء واحد على وجه الخصوص يجسد التشابه بين الجميع؛ فبالنسبة “لمحاربي الله” القدامى، كانت المهمة الأسمى والأكثر قدسية تتمثل في إنقاذ كنيسة القيامة – الموقع الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صُلب فيه ودفن ورُفع – من “تلوث” الإسلام وإهماله. وعلى نحو مماثل؛ بالنسبة لعدد غير معروف ولكن متزايد من خلفائهم الإسرائيليين – وليس فقط المتدينين – فإن العودة إلى صهيون لن تكتمل حتى يقوم الهيكل الثالث، إلى جانب الأقصى وقبة الصخرة، أو بدلاً منهما، في المكان الذي هو ثالث أقدس مكان في الإسلام؛ وهو ما سيكون مشابهًا للحملات الصليبية بالفعل. ولكن، بالطبع، إذا حدث ذلك بالفعل، فسيكون ذلك أمرًا مروعًا أيضًا.

وكذلك الحال بالنسبة للعالم، بعد أن يستيقظ أخيرا على كل ما فعلته راعيتهم بأرض وشعوب المنطقة خلال ثلاثة أرباع قرن منذ توقع وايزمان أنه “سيحكم” على إسرائيل بسبب ذلك؛ هل سيتخلى عن الدولة أو يتبرأ منها تاركًا إياها لأي مصير قد يواجهها؟

وفي ضوء “القيم” الحديثة، فإن الولايات المتحدة والغرب سوف يكون لديهما أسباب أقوى بكثير للقيام بذلك مقارنة بتلك التي كانت لدى البابوية والعالم المسيحي في العصور الوسطى ذات يوم للتخلي عن الصليبيين على ضوء قيمهم.

ولكن الأمر غير محتمل، من غير شك. ومع ذلك، كلما زادت إسرائيل من “نزع شرعيتها” عن نفسها في أعين العالم – وهي تقوم بذلك بشكل رائع في غزة الآن – أصبح الأمر أقل احتمالًا، ومعه احتمال وسيناريو كابوسي لأوهانا، الباحث الصليبي، بأن مصيرها سوف يكون مثل مصير الصليبيين أنفسهم. صحيح أنه لن يتم دفعها إلى البحر بالطبع؛ ولكن بطريقة أو بأخرى سيتم التغلب عليها إستراتيجيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا.

المصدر: ميدل إيست آي