يسود الترقب مدينة القدس المحتلة، مع عزم المستوطنين تسيير “مسيرة الأعلام” غدًا الأربعاء 5 يونيو/ حزيران، من باب العامود (أحد أبواب البلدة القديمة في القدس الشرقية) شرقًا إلى حائط البراق غربًا، في خطوة استفزازية تزيد من التوترات غير مسبوقة في ظل الحرب على غزة المستمرة منذ 8 أشهر، لتضيف مزيدًا من التعقيد على المشهد المشتعل أصلًا في الأراضي الفلسطينية.
وأعلن وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، الثلاثاء، قراره المشاركة في المسيرة التي تنظّم بشكل شبه سنوي بذكرى احتلال “إسرائيل” للمدينة المقدسة عام 1967، والذي يُسمّى إسرائيليًا يوم توحيد القدس وإحلال السيادة الإسرائيلية واليهودية على المدينة، ويرفع المشاركون أعلام “إسرائيل”، ويرددون هتافات عنصرية معادية للعرب، منها “الموت للعرب” و”لتحرق قريتهم”، وعادة ما تتسبب بتوترات في المدينة.
وقال بن غفير، زعيم حزب “القوة اليهودية” اليميني المتطرف، لإذاعة الجيش الإسرائيلي: “غدا سنسير عبر باب العامود، وسيصعد (يقتحم) اليهود إلى جبل الهيكل (المسجد الأقصى)”، وتابع: “أخبرني جميع الجنرالات (خلال الحرب) في غزة أنه في كل منزل يدخلونه يرون صورة الأقصى، علينا ضربهم”، بحسب ما نقلت وكالة الأناضول.
وما يثير القلق من مسيرة الأعلام هذا العام هو قرار بن غفير، تفعيل قانون “حالة طوارئ مدنية” في “إسرائيل”، عقب الهجوم الذي شنّته حماس صباح السابع من أكتوبر، ما يعطي الشرطة الإسرائيلية الضوء الأخضر لمساعدة المستوطنين المتطرفين في الاعتداء على المقدسيين، بعدما كانت شكليًا تحاول منعهم في المرات السابقة.
وورثت “إسرائيل” قانون الطوارئ من الانتداب البريطاني وفق الباحثة الإسرائيلية ياعيل برادا، التي شددت على أن سلطات الاحتلال ما تزال تمارسه بحقّ الفلسطينيين حتى الآن.
وتعود جذور قانون الطوارئ الذي ورثته “إسرائيل” من الاحتلال البريطاني لفلسطين إلى أيام شركة الهند الشرقية، التي كانت أول من استخدم قانون الطوارئ لإقرار عقوبة الإعدام والترحيل، “وكان معنى هذا أنه بالإمكان تبرير أي عنف ضد سكان محددين، بحجّة الخطر الأمني”.
تاريخ مسيرة الأعلام ومتى مُنعت
بعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967 (حرب الأيام الست)، صادق الكنيست الإسرائيلي على 3 قوانين قدمتها الحكومة آنذاك، وهي توحيد القدس، ومنح شرعية للقانون الإسرائيلي في كل المدينة الموحدة، وحدود القدس، ومنح سكان شرق القدس مكانة مقيم دائم.
ومن بين قرارات حكومة الاحتلال اعتبار يوم 28 مايو/ أيار، حسب التقويم العبري، عيدًا للقدس، الذي يمثل العلاقة التاريخية الخاصة بين الشعب اليهودي والقدس.
وفكرة مسيرة الأعلام أطلقها الحاخام اليهودي تسفي يهودا كوك، وتلامذة المدرسة الدينية المتطرفة “مركاز هراب”، التي تكونت فيها النواة الصلبة للمنظمات الاستيطانية المتطرفة.
وتهدف المسيرة إلى فرض وقائع تهويدية وسيطرة إسرائيلية كاملة على مدينة القدس، لغايات دينية أيديولوجية سياسية، كما أنها تشكّل نوعًا من التحدي من شرطة الاحتلال، واستفزازًا لمشاعر المسلمين والفلسطينيين.
وقفت المسيرة خلال الفترة بين عامَي 2010 و2016 بسبب المواجهات التي كانت تندلع بين المشاركين في المسيرة والفلسطينيين، فمنعت الشرطة الإسرائيلية المستوطنين من اقتحام البلدة القديمة من باب الأسباط لأسباب أمنية.
وفي عام 2021 فشلت أيضًا مسيرة الأعلام في تحقيق أهدافها، بعد تنفيذ كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) تهديدها وقصفت أهداف الاحتلال في مدينة القدس برشقة صاروخية، ردًّا على تصاعد انتهاكات الاحتلال بالمدينة.
وتنظّم جمعية “عام كلبيا”، برئاسة الحاخام حاييم دروكمان وحزب الصهيونية الدينية بقيادة بتسليئل سموتريتش وعضو الكنيست المتطرف إيتمار بن غفير، المسيرة التي يشارك فيها آلاف القوميين اليهود الذين يتوافدون على القدس ويسيرون عبر شوارعها وأزقتها، بتمويل من بلدية الاحتلال في القدس.
وسيعمل أكثر من 3 آلاف شرطي إسرائيلي لتوجيه حركة المرور، مع التركيز على الأحداث الرئيسية التي ستحدث، حيث سيتم الاستعانة بقوات شرطة إضافية، ووسائل تكنولوجية وأفراد شرطة علنيين وسرّيين.
وكما جرت العادة، تبدأ الشرطة الإسرائيلية في إغلاق الطريق من منطقة باب العامود إلى باب الساهرة، مقابل مركز الشرطة نحو متحف روكفلر بعد الساعة الثانية/ الثالثة من بعد الظهر، حيث سيكون شارع السلطان سليمان مغلقًا كليًا إضافة إلى منطقة باب العامود.
تنطلق المسيرة في الساعة الرابعة من منطقة فندق الملك جورج وماميلا وصولًا إلى التجمع الرئيسي في ميدان صفرا (بلدية القدس)، ثم تنطلق باتجاه باب العامود حيث يتوقع إجراء الرقصة الاستفزازية المركزية بحدود الساعة السادسة مساء، وفي الساعة السابعة تتركز المسيرة في حائط البراق لتلتقي مع مسيرة أخرى للمستوطنات (الإناث) قادمة من باب الخليل/ الحي الأرمني.
وكانت مسيرة الأعلام في سنواتها الأولى تنطلق من غرب القدس، أما الآن فتنطلق من شارع الأنبياء المحاذي لشارع صلاح الدين نحو باب العامود، وتتخلّلها رقصة بعلم دولة الاحتلال، وهتافات نابية ضد النبي محمد والعرب والإسلام، منها “محمد مات خلف بنات” و”الموت للعرب” و”العرب قمامة”.
وبعد أداء رقصة العلم، يتدفّق المستوطنون نحو حي المغاربة، وفي هذه الأثناء يمارسون اعتداءات على المواطنين الفلسطينيين الذين يسكنون في الطرق داخل البلدة القديمة التي توصل إلى منطقة حائط البراق، الجدار الغربي للمسجد الأقصى، الذي تنتهي إليه المسيرة.
العواقب تجاه المقدسيين وتأثير حرب غزة على المسيرة
عند تأمين مسيرة الأعلام، تتحول مدينة القدس المحتلة إلى ثكنة عسكرية، عبر نشر الآلاف من عناصر شرطة الاحتلال ووحداتها الخاصة وقوات حرس الحدود والخيالة، بما يتخلّلها من نصب الحواجز العسكرية وإغلاق الشوارع والطرقات وأزقة البلدة القديمة، ما يعيق حركة تنقل المقدسيين.
يعقّب زياد الحموري، مدير مركز القدس للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بالقول: “مسيرة الأعلام مستفزة حيث يعتبرها الإسرائيليون أنها محاولة إشعار العالم بكامل سيادتهم على القدس، عبر رفع العلم الإسرائيلي في كل مكان بالمدينة، خاصة المناطق العربية، كما يصرّون على المرور بالبلدة القديمة والحي الإسلامي لاستفزاز المقدسيين والاعتداء عليهم”.
ويذكر الحموري لـ”نون بوست” أن المشاركين في مسيرات الأعلام دومًا يعتدون على القطاع التجاري في البلدة القديمة، ويوقعون خسائر كبيرة للتجار المقدسيين، عدا عن الاعتداء عليهم بالضرب والشتائم.
ويشير إلى أن الخطير في مسيرة الأعلام لهذا العام هو فرض قانون الطوارئ الذي يسمح للمستوطنين حمل أسلحة، ما يبيح الاعتداء على المقدسيين على مرأى أعين الشرطة الإسرائيلية، وفي ذلك ترخيص كامل لقتلهم تحت غطاء قانوني.
ولفت الحموري خلال حديثه إلى أن حرب غزة هذا العام لها انعكاسات كبيرة على مسيرة الأعلام، حيث ستدفع الشباب المقدسي والضفاوي إلى الانتفاض في وجه المستوطنين، مشيرًا إلى أن خلال معركة “سيف القدس” عام 2021 و”طوفان الأقصى” كان المسجد الأقصى وما يتعرض له من انتهاكات دافعًا للمقاومة، من أجل حمايته وإطلاق الصواريخ تجاه الاحتلال.
ويرى أن الشرطة الإسرائيلية لن تسمح بوقوع اشتباكات بين المستوطنين والشباب المقدسي، حرصًا على عدم تأجيج الصراع في الوقت الذي يتعرض فيه قطاع غزة للضرب، رغم أن الضفة والقدس لم تهدأ فيهما الانتهاكات الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر وقت بدء “طوفان الأقصى”.
بدوره يرى محمد هلسة، الخبير في الشأن الإسرائيلي، أن مسيرة الأعلام لهذا العام ستشهد وقاحة المستوطنين وتعدياتهم على المقدسيين بشكل أكبر خلال عبورهم المسارات حتى الوصول إلى حائط البراق، كون أفعالهم تنساق مع الموقف الرسمي الإسرائيلي.
ويؤكد هلسة لـ”نون بوست” أن الأوضاع قد تتأجّج، وسيتمادى المستوطنون خاصة بعدما حملوا الأعلام الإسرائيلية وجابوا المسجد الأقصى في ذكرى النكبة الفلسطينية دون أن توقفهم الشرطة الإسرائيلية كما جرت العادة، بل تركتهم وشكلّت غطاء حماية لهم، ما سيدفع للتمادي وقت المسيرة بتدنيس الأقصى وممارسات طقوسهم التلمودية.
ويرى أن مسيرة الأعلام لهذا العام ستكون وتيرتها أكثر حدّة من السنوات الماضية من حيث أساليب الاستفزاز التي ينتهجها المستوطنون ورفع شعارات ضد العرب، لكن في الوقت ذاته المستوى الأمني الإسرائيلي ليس في وارد تفجير المشهد السياسي في القدس، فهو يحاول قدر المستطاع أن يبقي الوضع على ما هو عليه خلال الثمانية أشهر الماضية.
ولم يستبعد هلسة أن تحدث مواجهات بين المقدسيين والمستوطنين، خاصة بعد تسليح المستوطنين دون ترخيص أو تدريب ما قد يفجر المشهد أكثر من السابق، لا سيما أن هؤلاء المشاركين في المسيرة محسوبون على اليمين القومي، وهم جماعات استيطانية لديهم موقف من الفلسطيني وقضيته، حيث يعملون وفق أجندة إقصاء الفلسطيني وإبعاده وقتله.
وخلقت حرب غزة تصعيدًا لحالة العدائية واليمينية داخل النفسية الإسرائيلية بشكل أساسي، بحسب هلسة، وبالتالي يغطي المستوى السياسي على سلوكيات المستوطنين ويدرجها تحت إطار الدفاع عن النفس وحالة الطوارئ التي تعيشها دولتهم منذ السابع من أكتوبر.