على أنوار غزة نفكر في أقطارنا المتخاذلة عن كل نصرة ونطرح أسئلة تؤرقنا لماذا لم ينصر العرب غزة في أحلك فترات حياتها؟ تتجمع إجابات كثيرة بعضها يبرر التخاذل وبعضها يحاول تخفيف العبء على الشعوب المضطهدة وبعضها بكل بساطة يهز كتفيه، فغزة ليست من مجال اهتمامه. هذه ليست مقالة إضافية عن غزة المنتصرة بدمها، بل محاولة في فهم الخذلان العربي لمعارك الحرية، فغزة قبل كل حساب هي معركة حرية.
من السهل توجيه سهام الإدانة للأنظمة الحاكمة، فهي التي تمنع شعوبها من التضامن، لكن هذه تبريرات لا تعفي النخب من التفكير والحركة في اتجاه الحرية، انسجامًا مع ملايين الصفحات التي كتبت منذ قرن عن تلازم حرية الأقطار مع تحرير الأرض المحتلة. لنقل أولًا إن غزة حررتنا من الدجل.
تراث من الأكاذيب الكبيرة
يحتاج المرء إلى وقت طويل وجهد جبار ليحصي المفكرين العرب الذين كتبوا في تلازم تحرير فلسطين مع تأسيس الحريات في كل قطر، لقد قامت أنظمة ودول على هذا التلازم النظري، واشتغلت نخب كثيرة على هذا ودونت مكتبات لم يخرج منها إلا هواء فاسد، فقضية فلسطين كانت ذاهبة إلى النسيان إلى حد يوم السابع من أكتوبر تحت أنظار هذه النخب المبدعة في التنظير الكسول.
غزة تدخل الآن شهرها التاسع وقد حملت نصرها وحدها وستلده وحدها وتقطع مشيمته بظفرها، بينما نخب كثيرة لا تزال تجادل في طبيعة الدولة الفلسطينية القادمة هل تكون علمانية أم دينية كما كان دأبهم قبل نصف قرن أو يزيد.
يجري التداول في القضية من كل الزوايا إلا الزاوية العملية الحقيقية وهي حرية تلازم التحرير الشامل في الأرض المحتلة احتلالًا مباشرًا وفي الأرض (الأقطار) الخاضعة لأنظمة تابعة ومعادية لحرية شعوبها، لذلك فإنه في لحظة معركة التحرير لم تقم الشعوب بدورها.
انكشف العائق الحقيقي لتخلي الشعوب عن النصرة، إنها شعوب غير حرة، بل رازحة تحت احتلال غير مكشوف الوجه، وخذلان غزة في معركة تحررها هو فعل مطابق للتصفيق للانقلابات العسكرية والاعتداء على الديمقراطية والحرية. هذه من تلك فمن المتسبب الحقيقي؟
الأنظمة التي احتلت شعوبها
يمكننا تعدادها بالاسم، لكن سنكتفي بذكر ما يربط بينها جميعها، لقد قامت كلها بعد معارك تحرير وكتبت لشعوبها كراسات تنموية ورفعت أمامهم شعارات عظيمة لمستقبل عظيم. بعد نصف قرن نجد من الشعوب من يتحسر على زمن الاحتلال المباشر، فالأنظمة احتلت شعوبها بأسوأ الوسائل والطرق. القهر الأمني والتجويع والتجهيل وأخيرًا الخيانة بلا حياء، لكن الأسباب لا تتضح كلها، فهذه الأنظمة استخدمت نخبًا لتبرير حكمها القهري، وهذه النخب ساندت وبررت واستفادت وصار تغيير الأنظمة يلحق بها ضررًا كبيرًا، فالتغيير يعني إعادة توزيع السلطة وقسمة فيئها على قواعد جديدة بما يقلل من غنائمها أو يقصيها، فصارت هي الأحرص على بقاء الأنظمة والتبرير لها.
لقد حدثت ثورة في المنطقة ودفعت فيها دماء، وكان شعار الحرية والاستقلال الجديد على الأفواه وفي كل شارع، فبدأت النخب بإنكار الثورة وهونت منها واستهانت بأحلامها لينتهي الأمر بعودة الأنظمة واستقرارها واحتضان النخبة من جديد، بل تجرأت النخب على تمجيد الانقلابات العسكرية في القرن الواحد والعشرين وهي ترى أن استيلاء الجيوش على السلطة بقي محصورًا في أكثر المناطق تخلفًا في العالم ومنها المنطقة العربية.
هو تكامل سياسي وأدوار موزعة بعناية بين أنظمة قمعية ونخب معادية للحرية انتهى بوأد الثورة وهو يعمل على طمس معركة غزة المزعجة، لأنها معركة تحرير يصيب شرارها أنظمة الخيانة ولو بعيد حين. انكشفت اللعبة، مصلحة النخب العربية مع قوى الاحتلال لا مع شعوبها، لذلك نراها دائبة على تحقير شعوبها وامتهان تطلعاتها ونسمعها تسخر من غزة وتتظاهر بالشفقة.
من هذه النخب الخائنة لشعوبها؟
إنها نخب التحديث العربي المسيطرة على الثقافة والتعليم وصناعة الرأي وتعمل بتوافق تام مع نخب الاقتصاد التابع الذي يتسوّل المناولة من الاقتصاد الغربي وكلها تعمل في أوركسترا مع نخب عسكرية وأمنية شحنت بعداء مقيت للحرية، وكان من أدواتها دومًا الإقصاء السياسي.
لقد كشفتهم الثورة وأكملت غزة تعريتهم، ففي مجريات الثورة وإقرار الصندوق الانتخابي ظهر خصمهم اللدود بحجمه وظهروا بأحجامهم (الصفر فاصل) ووجدوا في الصندوق تهديدًا وجوديًا فأسقطوه وعادوا لمواقعهم، أما في غزة فهم في حيرة يدارونها، فلا يفصحون عن خيبتهم إذ تقود غزة حركات إسلامية تتكلم بالقرآن وتستقي من معجم الجهاد، لا يجرؤون على موقف معاد ولا يفصحون عن موقف مساندة صريح، فيتلاعبون بالألفاظ والمسميات، فتثقل على ألسنتهم أسماء حماس والجهاد ويقولون مقاومة وطنية كأن الإسلامي ليس وطنيًا وله حق الدفاع عن بلاده.
في كل كراسات الثورات العالمية وكل تجارب التقدم السياسي والاستقرار في الديمقراطية وجدنا النخب الفكرية والاقتصادية تقود الأنظمة والمجتمعات في اتجاه هوى الحرية الشعبي وتعدل من غلواء القمع وتحمي أوطانها، لكن النخب العربية رغم احتكارها لصفة التحديث تقوم ضد الحريات والديمقراطية وبالتبعية ضد تحرير الأرض المحتلة ولو بإرادة شعبها دون مساعدة، وكثير منها لا يخجل من ترديد مقولات استشراقية عن أن العرب والحرية لا يجتمعان.
الدرس لمن يفهم
إذا كانت غزة الآن مهدمة، فهي تعد لإعادة بناء نفسها في البشر والحجر ولا تحسب الثمن، أما الأنظمة العربية ونخبها المتنوعة فهي مهدمة وتصر على البقاء في خرائب السياسة، ونرى غزة تسبق دومًا وقد قرأنا في فعلها الإرادة والتصميم ووضوح الأفق. ستنتهي حرب الطوفان بنصر وستكون غزة جديدة منيعة وقوية ضمن مشروع استقلال تام تتوالى بشائره، لكن نخب العرب ستمكث طويلًا في معارك الاستئصال السياسي التي صنعتها وعاشت منها، فنهاية الاستئصال تعني نهايتها، ولا تبدو نهايتهم قريبة.
حتى ذلك الحين سنتابع قومًا يحتفلون بوائل الدحدوح سفير قناة الجزيرة ويقبلون جبينه، لكنهم يسمون المؤسسة التي أرسلته بقناة الخنزيرة، تمامًا كما يسميها العدو الصهيوني، لقد حررتنا غزة من الدجل.