ظهور هذه التركيبة الاقتصادية الجديدة، التي تزامنت مع توجه استثماري من قبل تجار الحرب وشخصيات لديها علاقات عسكرية، جاء بعد هدوء المعارك العسكرية التي شهدتها المنطقة، سواء التي دارت بين فصائل المعارضة ونظام الأسد والميليشيات الموالية في إدلب منذ 2020، أو بين فصائل الجيش الوطني وميليشيا قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال حلب في 2019.
عوامل غيبت الطبقة المتوسطة
تعتبر الطبقة المتوسطة عمادًا رئيسيًا لأي مجتمع، والعمود الفقري للاقتصاد من خلال استهلاكها المستمر للسلع والخدمات، وتؤسس هذه الطبقة لبناء مجتمع صحي يتمتع بحراكين اقتصادي واجتماعي لأنها صلة الوصل بين طبقتي الأغنياء والفقراء؛ حيث يكسب أفرادها أرزاقهم من خلال العمل بمهن الإنتاج الفكري والعلمي والمهني.
وتعاني مناطق شمال غربي سوريا منذ عقود من حضور طفيف للطبقة المتوسطة، بسبب اعتماد سكانها على الوظائف الحكومية، والعمل الزراعي، والأعمال المهنية في المدن الرئيسية؛ التي يعتبر مردودها الشهري ضعيف مقارنةً مع احتياجات المعيشة، حسب ما أوضح المحلل الاقتصادي يونس الكريم، الذي اعتبر أن “الأفراد العاملين في المجالات الفكرية والعلمية والمهنية يجب أن يتمتعوا بمستوى دخل متناسب مع حجم الإنفاق المعيشي، ليحققوا بذلك فرضية الطبقة المتوسطة”.
وقال الكريم لـ “نون بوست” إن “مناطق شمال غربي سوريا واجهت تبدلات كثيرة على مر 13 عامًا الماضية، جراء العمليات العسكرية، وحملات التهجير القسري والنزوح، مما قيض النشاط الاقتصادي، ونظرًا لذلك يصعب دراستها اقتصاديًا لأنها غير مستقرة وفيها اضطرابات واشكاليات عديدة”.
وأضاف أن “بعض الأشخاص من أبناء المنطقة استطاعوا تحسين ظروفهم الاقتصادية من خلال تأجير وبيع الأراضي للمخيمات وتأجير المنازل للمنظمات الإنسانية، بينما الأثرياء في الوقت الحالي، ليسوا من أبناء المنطقة، فمنهم نازحون ومهجرون وأصحاب شركات يعملون كطرف ثالث مع المنظمات الإنسانية..”.
ومنذ 2012 فقد معظم السوريون في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد مصادر الدخل الأساسية، ضمن القطاعين العام والخاص، ما دفعهم إلى تغيير مهنهم وأعمالهم التي كانت مصدر رزق لهم.
مصطفى الكنجو، الذي كان يعمل مدرسًا ومزارعًا في مدينة إعزاز منذ ما يقارب 24 عامًا، هو أحد الأشخاص الذين اضطروا إلى تغيير عملهم الأساسي، بعد فصله من وظيفته في 2012 ما أدى إلى توقف راتبه الحكومي الذي كان يبلغ 25 ألف ليرة سورية (ما يعادل 500 دولارًا أمريكيًا حسب تسعيرة 50 ليرة لكل دولار آنذاك).
توجه الكنجو إلى زراعة أرضه، التي لا تزيد مساحتها عن هكتارين، لتصبح مصدر الرزق الأساسي لأسرته، لكن تحولها إلى خط مواجهة مع النظام وسيطرة تنظيم “داعش” عليها لاحقًا، منعه من زراعتها لأكثر من عامين، قبل أن يقرر بيعها أواخر 2016، لسداد الديون التي تراكمت عليه.
ويقول الكنجو، الذي يعمل حاليًا مدرسًا مقابل أجر شهري يبلغ نحو 2800 ليرة تركية (ما يعادل 87 دولارًا أمريكيًا)، لـ “نون بوست”: “أمضيت فترة صعبة للغاية بعد انقطاع الراتب والنزوح المتكرر، وتوقف المدارس بسبب تعرضها للقصف، وفي حال افتتاحها المتقطع كان العمل دون راتب، ما تسبب في اعتمادي على الأرض الزراعية لتغطية احتياجات أسرتي”.
ويعتبر حجم الدخل الشهري الذي يتقاضاه الكنجو مشابهاً لشريحة واسعة لسكان المنطقة الأصليين الذين يعملون ضمن القطاعين العام والخاص، لكن رغم ذلك لا يغطي جزءًا من احتياجاتهم الأساسية، أما النازحين والمهجرين تبدو الأمور أكثر تعقيداً لعدم وجود مصدر دخل ثابت، إضافة إلى اضرارهم لدفع إيجارات المنازل.
وأسهمت العديد من العوامل في القضاء على الطبقة المتوسطة في المنطقة، أبرزها الأوضاع الأمنية وغياب الاستقرار في مختلف الجوانب الحياتية منذ 2012، وانقطاع الرواتب ومصادر الدخل الأساسية (توقف المصانع والمعامل) والاعتماد على بيع الممتلكات لتغطية الاحتياجات، إضافة إلى النزوح المتكرر جراء العمليات العسكرية وسيطرة نظام الأسد والميليشيات الموالية على الممتلكات.
ومن العوامل الرئيسية تدهور الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي بشكل كبير، ما دفع القائمون في الشمال السوري إلى التعامل بالليرة التركية منذ 2020، التي تعرضت للتدهور أيضًا خلال السنوات الأربعة الماضية ووصلوها إلى 32 للدولار الواحد.
بدوره اعتبر الباحث الاقتصادي في مركز عمران للدراسات، مناف قومان، أن الحرب كانت عاملًا أساسيًا في تلاشي الطبقة المتوسطة المكونة من عمال وفنيين وموظفين حيث تبلغ نحو 40% من إجمالي السكان.
وقال قومان لـ”نون بوست” إن “السكان عندما نزحوا من المحافظات السورية بعد العام 2011 وجدوا أنفسهم بدون عمل، ومع طول فترة العطالة صرف معظم مدخراته وباع جزء من أصوله المالية، ووسط الارتفاع العام في الأسعار والواقع المعيشي الصعب هبط قسم كبير منهم إلى الفقر”.
وتشير التقارير إلى أن شريحة الطبقة المتوسطة المتبقية شمال غربي سوريا تقتصر على الموظفين لدى المنظمات الإنسانية وصغار التجار.
الفقر في ازدياد
وإلى جانب غياب الطبقة المتوسطة، اتسعت رقعة الفقر في مناطق شمال غربي سوريا تدريجيًا، وسط صعوبة حصول الأهالي على الاحتياجات المعيشية الأساسية، بعد انخفاض نسبة المساعدات الإنسانية، التي يعتمد عليها بشكل كبير النازحين والمهجرين في المخيمات ومراكز الإيواء، نتيجة نقص التمويل منذ مطلع العام 2024.
ورغم أن المساعدات لم تكن بالحجم الذي يغطي احتياجات العائلات، إلا أنها كانت تشكل نوعًا مساعدًا إلى جانب مصادر الدخل الضعيفة، لتغطية النفقات والاحتياجات اليومية، لتبقى الآن مقتصرة على مصادر العمل المتاحة في الوظائف الحكومية والأعمال الحرة (مياومة).
وتتكون مصادر الدخل المعيشي في شمال غرب سوريا في القطاعين العام والخاص من الوظائف الحكومية (القطاعات الصحية والتعليمية والخدمية)، والشركات التجارية والمنشآت الصناعية التحويلية الخاصة، والمهن والحرف اليدوية، والقطاع الزراعي، والأعمال الحرة (المياومة)، بينما يعد العمل العسكري مسارًا موازيًا للأعمال والمهن السابقة.
وتختلف أجور العاملين في مناطق شمال غربي سوريا باختلاف الجهات الإدارية، حيث تتراوح الأجور في القطاع العام ضمن المجالس المحلية المدعومة من تركيا في شمال حلب بين 1400 و2800 ليرة تركية (ما يعادل 43 و 87 دولارًا أمريكيًا)، بينما يبلغ متوسط الأجور لدى موظفي الحكومة السورية المؤقتة نحو 180 دولارًا أمريكيًا.
وفي إدلب وريفها التي تديرها حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، تتراوح أجور الموظفين بين 75 و150 دولارًا أمريكيًا، في المقابل تشرف على قطاعي الصحة والتعليم عبر وزارتي الصحة والتربية، إلا أن دعمهما التشغيلي متقطع تقدمه المنظمات غير الحكومية.
أما أجور العاملين في القطاع الخاص تتراوح بين 60 و150 دولارًا أمريكيًا في أحسن الأحوال، بينما تعتمد نسبة كبيرة من السكان على الأعمال والمهن الحرة المياومة، التي تشمل العمل في المواسم الزراعية والبناء، حيث تتراوح يومية العامل بين 50 و130 ليرة تركية (ما يعادل 4 دولارًا أمريكيًا).
ووفقًا لمؤشرات الحدود الاقتصادية للسكان المدنيين شمال غربي سوريا الذي أعده “منسقو استجابة سوريا” خلال مايو/أيار الماضي، ارتفع حد الفقر إلى قيمة 10 آلاف و378 ليرة تركية (ما يعادل 325 دولارً أمريكيًا)، بينما وصل حد الفقر المدقع إلى حدود 8 آلاف و984 ليرة تركية (ما يعادل 281 دولارًا أمريكيًا).
وتؤكد مقارنة المؤشرات مع الأجور السابقة فإن العاملين في القطاعين العام والخاص يرزحون تحت مستويات الفقر المدقع، ولا يستطيعون تلبية الاحتياجات الأساسية لعائلاتهم.
هذا الواقع المعيشي، ومع ارتفاع نسب البطالة وانخفاض مستوى الأجور، دفع السكان إلى تنويع مصادر الدخل من خلال العمل في أكثر من مجال ومهنة، والاعتماد على دفاتر الدين الشهرية، لعلهم يغطون الاحتياجات الأساسية، ومن بينهم عبد الفتاح الكمال الذي يعمل في مهنة الحدادة في قريته الكعيبة (تقع بين مدينتي الباب والراعي)، لكنه يضطر إلى العمل في المواسم الزراعية و”العتالة” لتأمين مصدر دخل إضافي، بينما تعمل أسرته المكونة من 8 أفراد في الأعمال الزراعية.
وقال الكمال لـ “نون بوست”: إن “مهنة واحدة لا تكفي، نضطر إلى تعدد مصادر الدخل المتوفرة، حيث أعمل حدادًا، وفي أوقات أخرى أعمل في عتالة البضائع والمحاصيل الزراعية، بينما تعمل أفراد أسرتي خلال المواسم الزراعية في الحصاد، وقطف الزيتون..”.
واضطر الكمال للانتساب لإحدى الكتائب العسكرية في فصيل الحمزة في الجيش الوطني، ويحصل على ألفي ليرة تركية، بينما ابنه يعمل شرطيًا في مدينة أخترين بريف حلب.
وتمثل عائلة الكمال شريحة من الطبقة الفقيرة التي تعيش في مناطق شمال غربي سوريا، ورغم اشتراك مختلف أفراد الأسرة بالعمل لتأمين مصادر دخل إضافية، إلا أن مجموع ما تحصله العائلة لا يصل إلى معدلات الحدود الاقتصادية للفقر.
ووفقاً لاحصائيات فريق “منسقو استجابة سوريا” فإن نسبة مستويات الفقر وصلت إلى 91%، بينما ارتفعت نسبة العائلات التي وصلت حدود الجوع إلى 40.90 %، وسط عجز واضح في القدرة الشرائية وحالة فشل في مسايرة التغيرات الدائمة في الأسعار والذي يتجاوز قدرة التحمل في تأمين الاحتياجات اليومية، تزامناً مع ارتفاع في معدلات البطالة إلى حدود 88.79 %.
وحسب الباحث الاقتصادي مناف قومان فإن “العائلة التي تتقاضى دخلًا يوميًا يقل عن 1.90 دولارًا أمريكيًا للشخص الواحد تعد تحت خط الفقر المدقع، وغالبًا ما تواجه صعوبات كبيرة في تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والمسكن والرعاية الصحية والتعليم”.
وأضاف أن “أسباب ارتفاع أعداد العائلات تحت خط الفقر المدقع، ناجم عن ضعف الملاءة المالية للعائلة، وعدم توفر فرص عمل، والاعتماد على المساعدات الإنسانية، والعيش في ظروف صحية وتعليمية غير ملائمة، واللجوء إلى استراتيجيات شظف العيش للبقاء على قيد الحياة”.
ويبلغ عدد السكان في مناطق شمال غربي سوريا، نحو 6 ملاييين و17 ألف و52 نسمة، يتوزعون على التجمعات السكانية (المدن، البلدات القرى)، والمخيمات (مراكز الإيواء، مخيمات رسمية، مخيمات عشوائية)، فيما تشكل نسبة النازحين في المخيمات وخارجها نحو 49.32 % من العدد الكلي، حسب التركيبة السكانية التي أصدرها فريق “منسقو استجابة سوريا” في يوليو/تموز 2023.
وأصدر البنك الدولي تقريرًا، في 24 مايو/أيار الماضي، يرصد الأوضاع الاقتصادية في سوريا بعد مرور نحو 13 عامًا من الأزمة الدامية، وأكد أن 27% من السوريين، أي 5.7 مليون نسمة، يعيشون في فقر مدقع في مختلف أنحاء البلاد.
وأضاف تقرير البنك أنه “رغم عدم وجود الفقر المدقع فعليا قبل اندلاع الصراع، فإنه لحق بأكثر من واحد من كل 4 سوريين عام 2022، وربما زاد حدة وشدة بسبب الآثار المدمرة لزلزال فبراير/شباط 2023″، الذي أودى بنحو 6 آلاف شخص في سوريا.
ثروات على حساب الفقراء
على مدى السنوات الماضية، ظهرت تبدلات واضحة في الطبقات الاقتصادية في شمال غرب سوريا، وبينما انحدر بعض رؤوس الأموال وملاك المشاريع الزراعية والتجارية إلى مرحلة الفقر بعد بلوغهم مرحلة الثراء، استغل آخرون الظروف الاقتصادية والحرب والمعابر بين مناطق السيطرة لبناء إمبراطوريات وتكوين رأس المال.
ورغم اقتصار النشاط الاقتصادي على العمل في المجالين الزراعي والتجاري قبل التوجه نحو الاستثمار الصناعي في أواخر عام 2020، إلا أن هذين المجالين كانا سببًا رئيسيًا في صعود رؤوس أموال جديدة. تميز هؤلاء بعلاقاتهم مع مختلف الجهات العسكرية، واستطاعوا الحفاظ على ثرواتهم.
وأفسحت مرحلة الاستقرار النسبي والتوجه نحو الاستثمار في القطاعين الصناعي والتجاري المجال أمام تبييض أموال شخصيات تميزت بعلاقاتها العسكرية، حيث استطاعت تنمية رأس مالها من خلال شراء العقارات، وشخصيات عسكرية استثمرت في المجال الاقتصادي، واعتمدت على واجهات مدنية لإدارة منشآتها، خاصة بعد انخفاض مستوى الدعم للفصائل العسكرية.
كما قدمت تركيا تسهيلات لرؤوس الأموال من اللاجئين السوريين على أراضيها، بعضهم من أبناء المنطقة، لإقامة مشاريع استثمارية في المناطق الصناعية شمال غربي سوريا، وهو ما يخدم مصالحها في إطار العمل على تهيئة بنية تحتية لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم (العودة الطوعية).