على خلفية الوعد المشؤوم للرئيس الأمريكي دونالد ترامب المقضي بإعطاء القدس المحتلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها عاصمة لها، انفجر الشعب الفلسطيني في أنحاء الوطن كافة بانتفاضة عارمة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وزادت حدة الهبة الشعبية الفلسطينية بشكل خاص بعد إعلان حركة التحرير الفلسطيني “فتح” يوم غضب في وجه الاحتلال الإسرائيلي ردًا على زيارة النائب الأمريكي مايك بنس لمدينة تل أبيب المحتلة، كما أعلنت النفير العام في المحافظات الفلسطينية كافة وما زال مستمرًا حتى إشعار آخر.
انتفض الفلسطينيون في قطاع غزة، وتلخصت بمواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال الإسرائيلي على خطوط التماس مع العدو في المناطق الحدودية المحاذية بين دولة الكيان الإسرائيلي وغزة، وكان لهذه الهبة بشكل خاص أثر سلبي على المنتفضين بشكل عام، إذ لا يتم استعمال معهم سوى الأسلحة القاتلة بشكل مباشر، على عكس منتفضي الضفة الغربية الذين يصابون بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيلة للدموع في أغلب الحالات، وحالات أقل من القليلة يمكن أن يتعرض شخص منهم للرصاص الحي.
تمتلئ حجرات المستشفيات المركزية في غزة بالحالات الحرجة نتيجة إصابتهم بالرصاص المتفجر الذي يعد السبيل الوحيد لمواجهة المنتفضين من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الحدودية، ونادرًا ما يخرج منهم شخص معافى من دون بتر للأطراف أو إعاقة كاملة.
وتتراوح نسبة الأشخاص الذين يصلون مشافي غزة جراء إصابتهم بالرصاص المتفجر 95% من مجمل جميع الإصابات، وخاصة في يوم الجمعة من كل أسبوع وهو اليوم المخصص للنفير العام والتماس مع العدو على خطوط التماس، حسب ما أوضح دكتور العظام بالمشفى المركزي والرئيسي بغزة الدكتور إيهاب شبير.
وأشار الدكتور إيهاب أن الحالات التي تردهم بيوم الجمعة أكثر من 100 حالة، حيث لم يصل للمشفى أي حالة أصيبت بالرصاص المطاطي حتى الآن، بينما حالات معدودة أصيبت بالرصاص الحي العادي، ويختلف هذا الرصاص المتفجر والحديث من نوعه الذي شهدته ميادين المواجهات بغزة، إذ هو عبارة عن قنبلة متفجرة داخل رصاصة ويزيد حجمها عن الرصاص الحي العادي بمرتين تقريبًا، حيث تنفجر داخل الجسم ممزقة معها الأنسجة والأوردة والعضلات، فتكون كفيلة ببتر العضو التي تستهدفه الرصاصة لحظة وجوده في ميدان المواجهات وقبل أن يصل للمشفى، فمن النادر جدًا أن يكون هناك أمل للعلاج سوى البتر المباشرة، مشيرًا إلى أن هذا الرصاص باستطاعته اختراق واقي الرصاص بكل أنواعه.
المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان : إجمالي عدد الإصابات في محافظة شمال غزة وحدها وبالتحديد على بوابة بيت حانون وصل إلى أكثر من 250 خلال 5 مواجهات فقط
وعن أهم الحالات التي أصيبت بالرصاص المتفجر الجريح إبراهيم أبو جلهوم الذي أصيب برصاصة بساقيه الاثنتين، مما أدى لبترهما معًا، وكذلك الجريح يوسف أبو عنزة الذي أصيب برصاصة أيضًا أعلى ركبته اليمنى وأدت لبترها أيضًا كما أوضح شبير.
ويقول الجريح يوسف أبو عنزة 26 عامًا لـ”نون بوست” عقب استيقاظه من غيبوبته وتفقده الجزء المفقود من جسده: “لم أشعر بالرصاصة لحظة إصابتي بها، وإنما هي كوخزة دبوس فقط، ولم أشعر بأن لي ساقًا أصلاً لحظة إصابتي، وإنما سقطت أرضًا ووجدت الجماهير تجري بي نحو سيارات الإسعاف وأنا لا أدري ما جرى لي، وأدركت فيما بعد أنني أصبت بساقي وفقدت الوعي نتيجة غزارة الدماء التي سالت مني”.
رصاص متفجّر
ولعل تجربة الجريح يوسف أبو عنزة مع الرصاص المتفجر وعدم إحساسه بها قد جربها غيره من الجرحى ممن فقدوا أعضاؤهم مثل الجريح أبو قينص حسب ما أوضح لمراسل “نون بوست”.
وتعليقًا على هذا السبب يقول الدكتور إيهاب شبير لـ”نون بوست”: “من الطبيعي ألا يشعر الجريح بأي ألم أبدًا وذلك لأن الأوردة والعضلات والأنسجة تكون قد بترت أصلاً وفصلت عن جسده لحظة الإصابة، وما يتبقى هنا هو ضمد وتخييط منطقة الإصابة فقط”.
ولفت رئيس وحدة البحث الميداني بالمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان السيد محمد غنام إلى أن إجمالي عدد الإصابات في محافظة شمال غزة وحدها وبالتحديد على بوابة بيت حانون وصل إلى أكثر من 250 خلال 5 مواجهات فقط من يوم الجمعة من كل أسبوع، أغلبهم بالرصاص المتفجر وحالات قليلة من الرصاص الحي، لافتًا إلى أن هذه الجريمة من أفظع جرائم الحرب ضد المتظاهرين.
يجدر الذكر بأن اندفاع الشبان الفلسطينيين على خطوط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة واجه موجة انتقادات واسعة بين فئات المجتمع الفلسطيني من الناشطين والاعلاميين والكوادر الوطنية كافة، حيث رأى البعض بأنها انتحار، حيث لا يسمح جيش الاحتلال الإسرائيلي لأي فلسطيني من غزة بالاقتراب من الحدود بعد 300 متر حسب المنشورات الورقية التي ألقاها الاحتلال مرارًا، وإلا سيأتي أمرًا بقتله بشكل مباشر، بينما نرى على شاشات التلفاز يقف الشاب الفلسطيني بمدن الضفة الغربية أمام الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح وجهًا لوجه.
من النادر جدًا مشاهدة جندي واحد على حدود قطاع غزة، حيث لا يرى المرء نفسه إلا أنه قد سقط أرضًا نتيجة رصاصة أصابته بين جموع المنتفضين دون أن يعرف مصدرها أو يسمع صوت إطلاقها
ومن النادر جدًا مشاهدة جندي واحد على حدود قطاع غزة، حيث لا يرى المرء نفسه إلا أنه قد سقط أرضًا نتيجة رصاصة أصابته بين جموع المنتفضين دون أن يعرف مصدرها أو يسمع صوت إطلاقها، فالجنود يتخذون لهم ساترًا خلف الجبال على بعد نصف كيلومتر تقريبًا من المتظاهرين.
وقال أحد كبار الناشطين في المجتمع الغزي عامر بعلوشة لـ”نون بوست”: “للقدس حق علينا جميعًا أن ننتصر وننتفض من أجلها، وهذا واجب والتزام وطني على كل فلسطيني بأي وسيلة يراها مناسبة لذلك، أما بخصوص قطاع غزة ونقاط التماس فهي من وجهة نظري انتحار بلا نتيجة، ووجه من العمل الوطني الذي به ندفع ضريبة فقط دون أن نبني ونجسر على هذه التضحيات، ففي كل جمعة هناك شهداء ومئات حالات البتر التي كلها من فئة الشباب، ألم يكن من الممكن لهؤلاء الشباب أن يخدموا وطنهم أكثر من ذلك، أو نستغل طاقاتهم بأمور أخرى”.
فيما قال الناشط المعروف بالمحافظة الوسطى لقطاع غزة عبود زكريا لـ”نون بوست”: “ثقافتنا وديننا وقضيتنا هي الحياة وليس الموت، ومن الواجب أن يكون هناك موقف من الجهات الأمنية لمنع الشباب من التوجه لنقاط التماس، فماذا سيجدي حجرًا وأعزل بوجه ترسانة عسكرية لا نكاد نراها، وكان آخرها اغتيال الشاب المقعد إبراهيم أبو ثريا الذي أحدث ضجة على المستوى العالمي”.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تلجأ “إسرائيل” إلى تجربة هذا النوع من الرصاص المتفجر على المواطنين العزّل بغزة بالذات وتمتنع عن استخدامه بالضفة؟ ويذكر بأنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها استخدام أسلحة محرمة دوليًا بغزة، ففي عام 2008 تم استخدام آلاف القنابل الفسفورية التي تزيد فعاليتها مع المياه، وفي عام 2014 تم استخدام القنابل البرميلية وصواريخ مضادة للأنفاق جديدة من نوعها.
من جهته أوضح المختص بالشأن الإسرائيلي جمال عمرو في حديث خاص لـ”نون بوست”: “لقد بات واضحًا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعادي غزة عداءً لا مثيل له، وقد تمنى رئيس وزراء الاحتلال السابق إسحاق رابين أن تغرق غزة في البحر، فيما شنت “إسرائيل” ثلاثة حروب دموية على القطاع، كما أن صلابة وقوة إرادة أهل القطاع جعلت المحتلين حائرين كيف يعالجون هذه المعضلة، فلجأوا إلى علاجها بالقوة المفرطة”.
كانت الحرب الأخيرة على غزة ميدانًا لتجارب الصواريخ الإسرائيلية الحديثة من نوعها التي دمرت البنية التحتية لقطاع غزة ببضع صواريخ فقط
ومن جانب آخر أوضح عمرو أن سلطات الاحتلال تحاول أن تظهر نفسها أمام العالم بمظهر الإنسانية، فلا تستطيع استخدام هذا النوع من السلاح بالضفة الغربية المحتلة في الوقت التي يتكثف وجود عدة لجان دولية لحقوق الإنسان ومراقبين دوليين في أنحاء الضفة والقدس كافة، فهي بذلك لا تستطيع إخفاء مظاهر جريمتها سوى بقطاع غزة التي يقل فيها وجود مثل هذه اللجان، وفي الوقت الذي تتلقى فيها “إسرائيل” تأييدًا علنيًا من دول غربية لتوجيه ضرباتها لغزة، أمام صمت عربي مريب.
ولكن من جانب آخر وتصورات أخرى، فلو قارننا هذا السلاح الحديث وطريقة استخدامه بالأمس لوجدنا أن “إسرائيل” تخوض نفس الأهداف، فقد كانت غزة ساحة تجريبية على مدى التاريخ للتجارب العسكرية الإسرائيلية التي تهدف إلى تسويقها، فقد تم من خلالها تسويق دبابات الميركافا الجيل الثاني بعد دمار سوق الميركافا الجيل الأول التي فجرها مقاتلو الثورة الفلسطينية في وادي بلعا، إلا أن الأخيرة انهارت سمعتها أيضًا بعد تفجيرها من مقاتلي حركة فتح جنوب مدينة غزة أدت لتناثرها لعدة قطع.
وكانت الحرب الأخيرة على غزة أيضًا ميدانًا لتجارب الصواريخ الإسرائيلية الحديثة من نوعها التي دمرت البنية التحتية لقطاع غزة ببضع صواريخ فقط، حيث تم تقصير حجم صواريخ الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى أقل من النصف، وكان صاروخ واحد كفيلاً بإسقاط برج بأكمله واختراق أساسه تحت الأرض، كما حصل في أبراج الظافر والباشا والبرج الإيطالي والأندلس.
وكانت جهات أمنية قد أعلنت حينها أن وفدًا هنديًا غادر غزة إلى الأراضي المحتلة الذي دخل القطاع باسم منظمات حقوقية ومؤسسات للاستغاثة، وقد تبين فيما بعد أنهم وفد من الجهات العسكرية الهندية جاء لمعاينة قوة تفجير الصواريخ الإسرائيلية مثل صاروخ الأفعى التي تتحرك كأفعى بالجو، وصواريخ جي جي يو، لعقد صفقة شراء أسلحة مع الاحتلال من هذا النوع.
ولعل هذا الرصاص الحديث من نوعه يهدفون إلى تسويقه أيضًا، وما يعزز من هذا الظن هو الكاميرات ذو العدسات الطويلة التي أصبح يحملها جنود الاحتلال الإسرائيلي لتصوير المصابين، كعامل للتأكيد على مدى فتك هذا المنتج الحربي الجديد للجهات الممولة له.
ولعل استخدام هذا السلاح بغزة بالذات بات صحيحًا حسب تكهن المحلل جمال عمرو بسبب قلة عدد المراقبين واللجان الدولية لحقوق الإنسان بغزة كون الاحتلال الإسرائيلي انسحب من قطاع غزة منذ عام 2005 فلا حاجة لهم بمواجهتها.